الذات والعالم في الثقافة الفيتنامية المعاصرة

قراءة لديوان حيث تتسع السماء

0 1٬359

د. حاتم عبد الهاديمصر

ولد الشاعر الفيتنامي المعاصر:”ماى فان فان” في منطقة “ننينا بينا”، في دلتا البحر الأحمر، شمال فيتنام، وهو يقطن حالياً في مدينة “هاي فونج”، وكان أن أصدر(22) مجموعة شعرية ترجمت الى اللغات المختلفة، كما ترجمت كثير من نصوصه لأكثر من عشرين لغة مختلفة ونال العديد من الجوائز في فيتنام. وتحتوى نصوصه على “تراث البيت الفيتنامي المضياف”، وثقافته التأملية، في اكتساب الطاقة الايجابية، والتكامل نحو الاشراق، يقول: “الشعر روحي، وروحي متصلة بكل شيء”. كما يميل شعره الى التصوّف والتوحّد مع الذات والآخر، إلا أن الآخر بمفهومه، لا يعنى المحبوب أو الناس، بل يعنى الآلهة، والخلق بأكمله، ولقد وجدنا هذا الفكر لدى “بوذا”، إلى جانب فلسفة “الزن والين/ يانق”، حيث الاتحاد مع الطبيعة، بكل ما فيها، وتحديداً، بكل شخوصها، فهو الإنسان والحيوان، والنبات، والجماد، بل كل جزء خاص بها.

إنه الشاعر الذي يحتفي بالتجسّد، “بالإتحاد والحلول”، وكأنه فيلسوف إيمانى، يؤمن كالفيتناميين بفكرتى (التحوّل الجسدى والروحى)، وهو شاعر يجيد نظم القصائد القصيرة، الابيجراما، والطويلة كذلك، وعبر مسيرته الشعرية، نراه يمزج بين الواقعي والسياسي والديني، دون انزياح للدين والفلسفة–على حد قول المترجم، بل يوظف كل ذلك لتدعيم الحالة الشعرية والإنسانية. وهو ما حدا به أن يقول عن الشعر: “إنه يعيد الجمال الى فطرته، إنه الضوء الذي يبعد الظلمة، الماء البارد الذي يجعل الأرض خضراء، والعلاج الفعال لعلاج الروح من الفساد”.

’’ماي فان فان شاعر يحلم بعالم مثالي، إنساني، يستخدم لغة الواقع ليسمو نحو الخيال، ويعيد إنتاجية الواقع، بالواقع ذاته’’

لقد قدم لنا المترجم الرائع رائد أنيس الجشى، أدباَ فيتنامياً مغايراً، نقله عن الوسيط الإنجليزي، وقابل المؤلف شخصياً، ليراجع معه الترجمة، لتقترب بأقصى ما يمكن الى مقصديات الشاعر، عبرالنقل العربى، وهو أقصى جهد يمكن أن يقدمه مترجم، للوصول الى غائية الشعريّة كما كتبها المؤلف في أصلها الفيتنامي، وهو جهد كبير، يثمّن للمترجم، ويميزه عن غيره، فهو ناقل أمين، ومترجم بارع، وشاعر وناقد، استطاع بمشروعه الفردي أن ينجز الكثير من الكتب المترجمة عالمياً – والذي يجعلنا بشكل شخصي – نطلب من دولته السامقة – أن يكون مشروعه، هو مشروع الدولة للترجمة، لتتفتّح مدارك أجيالنا، وأمتنا العربية، على الآداب العالمية الإنسانية، لنرى موقع أقدامنا من آداب الأمم والشعوب، وأقول: أن غيرة انتابتني لوجود مترجم من هذا النوع، وبحجم الأستاذ رائد أنيس الجشي، فحرى بالدول والحكومات أن تدعّم هذا السياق الإبداعي الشاهق للترجمة الرائدة والباذخة، والتي تدلّل الى ذوق المترجم الرفيع، في اختياراته الجميلة، عبر التنوّع والاختلاف، لتقديم نماذج أدبية انسانية كبرى، تستفيد من المنجز الما- بعد حداثي، لنعيد رتق شراع ابداعاتنا العربية الممتدة من المحيط الى الخليج ، وتلك لعمرى مهمة قومية كبرى، وفرصة نادرة للأخذ بأسباب الانسانية التي نتوسّلها، لعالم عربي جديد، يستفيد من الآخر، يساوقه، يطاوله ، يتباين عنه، لكننا يجب أن نعرف، نقرأ، نناجز الآخر لنضارعه، وربما نسبقه كذلك، وكيف لا؟ ومجدنا العربي الإسلامي قد أنار منارة العالم من قبل، وحري بنا أن نستعيد سطوة النور الساطعة، لإبداعنا العربي الجميل.

إن (ماي فان فان) شاعر يحلم بعالم مثالي، إنساني، يستخدم لغة الواقع ليسمو نحو الخيال، ويعيد إنتاجية الواقع، بالواقع ذاته، وتلك فرادة ميزته، ولن نستطيع كذلك أن نطلق علي شعره أنه من (شعر الهايكو)، لأنه ينحو الى الطبيعة، ويستخدم تقنياتها في انتاجية عالم يسع الفيتناميين، بعد الحروب والدمار والاستعمار الذي جثم على أرضها أعواماً ممتدة، لكنه شاعر، وكفى، يقف وحيداً ليريق الجمال بهدوء، على مرمر العالم، ليعيد انتاجية الانسان، والواقع الفيتنامي، من جديد. وعبر عنوانه اللافت (حيث تتسع السماء) نرى العالم الكوني، بتشظياته وأهواله، آماله وآلامه، صوره وحكاياته، ماضيه وحاضره، أيديولجيته وميثيولوجياه، وعبر السماء التي تتسع للجميع فهناك الله الذي وسع كل شيء علماً، وأعطى ماي فان سراً شعرياً مقدساً، وقلماً نورانياً يضئ به السماء التي اتسعت، واحتوت الكون والعالم والحياة، يقول :

“بهدوء أعبر الهالة في عمق الماء

وأنظر الى السماء بجناحين مبسوطين

أصعد الى قمة شجرة حيث ينحني منقار الطائر

ليطعم كل فرخ من فراخه رشفة من

الريح

صوت الحب المجروش في الصدر

الغابة العارية والفاكهة الخضراء

قبة الغابة كثيفة الأوراق

الطفل المولود لتوه على الأرض

ذيل شرغوف مقطوع يسبح عبر النهر

يتعلم رفرفة جناحيه وينفث الريح في أحشاء العش الدافئ

أوراق برعم الحبة تتحرر وتحلق بعيداً

يصّاعد البخار من ضفاف النهر” ( الديوان ص :6).

إنه الشاعر الفطري، الميثولوجي، السيموطيقي، يمزج التراث بالأسطورة بالدين، ويفلسف الواقع والفلسفة بطزاجة وغرابة متبدّاة، وكأنه يعيد تصوير مشهدية خلق العالم والأشياء، فقد بدأ القصيدة بالأم وصغيرها، وصراخ الطفل في براري العالم “حنان الأم ودهشة الصغير منذ نزوله من رحم الأم المتهادي الساكن، إلى الحياة الصاخبة”.

ونلمح هنا (الشرغوف) وهو – كما يؤطر المترجم: “كائن يفقس بيضه من البرمائيات كالضفدع، والشرغوف ليس المراد هنا، فهو يقطع ذيله عند بداية تحوله الى ضفدع، ودلالتها في المثيولوجية الفيتنامية: (التحول الجسدي والروحي)” .

إنه الشاعر الذي يحيل الشعر الى مسروديات حكائية، وكأننا أمام قصة كبيرة للعالم، لفيتنام بلغتها وثقافتها المحلية، طرائق معيشتها، فلسفتها الجمالية والروحية، سيموطيقيتها المنداحة عبر اللغة السلسالة التي تتوشىّ بحمولات، وطاقات، وإشارات، تحيلنا الى المثيولوجيا في فيتنام، إلى الإيمان عبر الفلسفة، الحلول والاتحاد عبر الشعر، والتحولات الميتافيزيقية والبيولوجية، وربما التماهي، أو كما قال الشاعر العربي:

أنا في أنا وإني في أنا نحن روحان حلا جسدا

وعلى الرغم من معلومية رفض فكرة الحلول والاتحاد عند العرب، ومواجهة صاحبها بالكفر، إلا أننا وجدنا لها عبوراً في التراث الصوفي العربي، والعالمي، باعتبارها فكرة فلسفية، وليست دينية لعبة سردية كبرى، تتماهى مع العالم، تجمع بين الواقع والمتخيّل، بين الحلم والواقع، بين النور والعتمة، بين الثنائيات الكونية الكبرى، لتعيد فهم العالم، بعيداً عن أيديولوجيات الدين وأطره الصّارمة. لقد استطاع الشاعر والأديب الفيتنامي ماي فان فان أن يعيد رتق الواقع من أجل الانسان، ويعبر بمثاليته الى ما بعد-بعديات الواقع، ليعيد انتاجية الواقع ذاته عبر الفلسفة والاقتصاد والسياسة، وعبر المجتمع المحلّي الفيتنامي بأطره ومعتقداته وقيمه الحياتية والاجتماعية والدينية، بل وجدناه عبر ذاته يصرخ ليطلع قارئه إلى بدايات النور، الحقيقة، البرهان، في عرفانية ممزوجة بالمثيولوجيا، التي تستشرف الذات، وتتوسّل الحلم ،لتجد طريقا الى البوح عبر الحياة والكون والعالم، والواقع المثالي الذي يتغيّاه، يقول :

“عند الفجر/يجب أن تتحول بنفسك/فاكهة/أضواء نار/ووعاء بين ويانغ من الماء/أسحب الجسم شيئاً فشيئاً من قوقعته/كزحف على ميقات الغسق” ( الديوان ص : 9).

والـ (ويانغ)هنا – كما يشير المترجم -هو رمز لاتحاد طاقتين متعاكستين، لدى الصينيين وفي الديانة الطاوية. انها شعرية الواقع، الحقيقة عبر المثالي، والمتخيّل عبر الانساني والميثولوجي، يسبح بنا عبر غرائبية التصوير، واللغة الاشراقية الترميزية، والانزياحات الكثيرة، ليحيلنا الى ذواتنا الفطرية الأولى عبر الكون، العالم، الحياة. وهو الشاعر الكونى الذي يذهب الى الصلاة ليطهّر العالم من أدرانه، الانسان مما علق به من خطايا، عبر طاقة اللون الأبيض/الأسود: النور والاشراق مقابل الظلام والعتمة، والصورة والظلال مقابل الحقيقة والبرهان، والفعل والحركة مقابل السكون والعدم، يقول :

“يد بيضاء، دم أسود، لسان أبيض، دموع سوداء، ظهر أبيض ، حلزون أسود يزحف من شعر أبيض وعرق أسود./ السحر الأسود الملقى على كل شيء سينتهى..

دعنا نصلى لننقذ البشر في هذا العالم”. ( الديوان ص: 13 ).

وعبر طقوس الغوتو–والتي قد تشابه في التصور الذهني ابتهالات الشيعة – من الركوع والانحناء الشديد، حدّ السجود أو الزحف لإظهار التقديس العظيم، نراه شاعراً إيمانياً، متصوفاً، ميثولوجياً يتمايل مع التنين المقدس، كعابد في محراب الشعر، يغزل الواقع، بصورة أشبه بالسحر الذي يريد أن يتخلص منه، ليخلص العالم من الحية- (الشطان)عبر التراث اليهودي، أو أنه يسوع المطهّر، أو المهدى المنتظر. وباستقراء شعرية قاموسه الشعري اللغوي نلمح ايمانية متبداة، ومثالية متغياة، وسرمديّة وجود متخيّل، وإله بعيد يتهادى على المجرّة الكونية، ليعيد تشكيل العالم كل صباح ومساء. لذا لا غرو أن يحيلنا الى القردة، البلابل، الأشجار، الجبال، الشمس، الريح، الحياة، القمر، الماء، النبات، الزهور، الطبيعة، ما وراء الأفق، الكون وما يحويه، والعالم السرمدي القابع هناك، خلف تلال النور، وعبر الصمت والسكون الممتد، والصخب الهادر للذات والعالم ، والوجود الإنساني الكبير يقول :

“وحدها هالات أحلام

الانسانية الطفلة

قادرة على الحركة

لكى تصبح طبيعة ، بريئة وتشعر بالمساواة

أنا مصنوع من الصوف والورق والخشب” (الديوان ص: 130).

كما ينهي ديوانه بقصائد التلاشي، القصائد القصيرة ،الابيجراما التي تفسّر العالم، عبر التكثيف والتراكم والتراكب، وعبر الإنزياحات، ليتحول العالم مع (مواء القطّة) الى نقطة بيضاء، وكأنه يريد في النهاية أن يتركنا للبياض، للنور الساطع، للإشراق الكبير، لموسيقى الحق والخير والجمال ،عبر نور الشمس الساطعة، وظل الإله العظيم !!.

موقع الشاعر الفيتنامي ماي فان فان

حيث تتسع السماء

المؤلف : ماي فان فان

ترجمة : رائد أنيس الجشي

عرض وتقديم : بهية حاتم

الناشر : دار الفراشة للنشر، الكويت ،2019م

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.