محمد علي .. شارع يبحث عن هوية

صندوق الدنيا - الشوارع العربية

0 854

محمد زهران-روائي مصري

كان محمد علي حاكم مصر القوى بدايات القرن التاسع عشر، هو أول حاكم يغامر بالنزول بالعاصمة المعتصمة بتلال المقطم إلى سفح الوادي المنبسط على النيل. فبدأ إعمار منطقة الأزبكية، التي كانت من قبل عبارة عن برك ومستنقعات، فكانت الأزبكية هي بداية القاهرة الحديثة، التي اكتمل تشييدها في عصر حفيده إسماعيل. رغم القصور العديدة التي شيدها محمد علي قريباً من شاطئ النيل كقصر شبرا، فقد ظل الباشا مغرماً بالقلعة رمز السطوة والملك ولم يغامر كحفيده إسماعيل ويفكر بالنزول بمقر الحكم إلى القاهرة الحديثة؛ لكن محمد علي، الذي كان يمسك دوماً بزمام الأمور، أراد ألا يكون هناك عائقاً بينه وبين الأمراء والأعيان الذين اتخذوا لمعيشتهم قصوراً في المناطق الوليدة، فقرر شق شارع محمد علي ليربط مقر حكمه بالقلعة بمركز الثقل الجديد للعاصمة العصرية، والذي بدأت تتشكل ملامحه من منطقة الأزبكية. فكان شارع محمد على أول شارع توفيقي يحاول الربط بين القاهرة التاريخية والقاهرة الحديثة، لكن الشارع لم يكتمل إلا في عصر حفيده إسماعيل.

كان الشارع، في عصره الذهبي، يبدو بالفعل كجسر يربط بين عالمين مختلفين. عند بدايته من ميدان العتبة تم تشييد الأوبرا الخديوية، أحد أشهر رموز الحداثة زمن الخديوي إسماعيل والتي ظلت نافذة القاهرة الكبرى للإطلال على أحدث فنون الغرب حتى حريقها بداية سبعينيات القرن العشرين. أما عند بداية الشارع من ميدان القلعة فلازال يقف شامخاً لليوم أشهر معالم القاهرة الإسلامية على مدار تاريخها مسجد السلطان حسن. وما بين المسجد والأوبرا تبلورت شخصية الشارع المتأرجحة بين الأصالة والمعاصرة.

بدأ شق الشارع في عام 1845، تحت إشراف علي باشا مبارك صاحب العقلية الفذة فى تخطيط المدن والذي يرجع إليه فضل تخطيط القاهرة الحديثة. وضع علي مبارك للشارع في ذهنه تصميماً يحاكى شارع ريفولى بباريس.

كانت شوارع القاهرة القديمة شديدة الضيق، كثيرة التعرجات، فكانت تكلفة إنشاء هذا الشارع المستقيم شديد الاتساع بمقاييس زمنه. هدم الكثير من المساجد الأثرية القديمة كذلك المقابر التي كانت تُعرف بترب المناصرة والأزبكية، وتم جمع بقايا المدافن، ودفنت في بئر عميقة ُبنى عليها مسجداً هو ما يعرف الآن بمسجد العظام على يمين الداخل إلى شارع عبد العزيز من ميدان العتبة.

الطرز المعمارية لشارع محمد علي تتنوع بين ما يعُرف بطراز الباروك، ذلك الطراز الذي كان سائداً في العمارة الأوربية في ذلك الزمن. كان الطراز السائد في العمائر التي أنشأها الخديوي إسماعيل، الذي كان يحلم بعاصمة قطعة من أوروبا. كما اتخذ الشارع من طرز العمارة الإيطالية ما يعرف بعمارة البواكى وهى عمارة تناسب البلاد الحارة؛ إذ يسير المارة على الرصيف المظلل دون تأثر بحرارة الشمس صيفاً أو المطر شتاءً. بدأ الأعيان وكبار التجار تشييد العمارات الكبرى على جانبي الشارع بطرز تتأرجح ما بين الباروك الأوربي والطرز الإسلامية المتوارثة، كما كانت هناك محاولات لعمل مزج بين عدة طرز أوربية وإسلامية.

كان الخديوي إسماعيل حريصاً على إنشاء عدد من المباني العامة في الشارع الذي يحمل اسم جده الكبير. أقام دار الآثار العربية ـ التي تُعرف اليوم بمتحف الفن الإسلامي ـ على ناصية الشارع مع ميدان باب الخلق. كذلك أنشأ دار الكتب الخديوية ـ دار الكتب والوثائق القومية الآن ـ كأول دار تُجمع فيها أمهات الكتب والمخطوطات، بعد أن كانت متناثرة في قصور الباشاوات والأعيان ومكتبات المساجد.

مع بدايات القرن العشرين، أصبح لشارع محمد علي شهرة واسعة في مجالات الفن، للدرجة التي جعلت العامة يطلقون عليه شارع الفن أو شارع العوالم. السر في هذه التسمية أن الشارع كان شديد القرب من الأوبرا الخديوية، كذلك منطقة الأزبكية ذات الشهرة الواسعة فى ذلك الزمن بمسارحها الفنية، ومقاهي وكازينوهات أهل الفن والمغنى، كذلك قرب الشارع من شارع عماد الدين الذي كان شهيراً بدور السينما والمسارح.

كل هذه الأجواء الفنية المحيطة بشارع محمد علي ساعدت على انتشار محال بيع الآلات الموسيقية بالشارع، تبعتها مقاهي يجتمع فيها أهل الفن، فأصبحت هذه المقاهي ملتقى لمن يطلب التعاقد لإحياء الحفلات والأفراح فأصبح الشارع مستقراً لكثير من الفرق الموسيقية وبيوت الراقصات ” العوالم” واللائي كن أحد أهم عناصر حفلات وأفراح ذلك الزمان.

من أشهر الفرق الموسيقية التي ارتبط اسمها بشارع محمد على فرقة “مزيكة حسب الله”. كانت فرقة متخصصة في العزف على الآلات النحاسة، وقد أحيت هذه الفرقة حفلة للخديوي عباس وعزفت للملكين فؤاد وفاروق. كان أعضاء الفرقة يرتدون ملابس خاصة بهم أقرب إلى الأزياء العسكرية. كان أعضاء الفرقة حتى ستينيات القرن العشرين، هم أهم ملامح شارع محمد على. يجلسون في أحد المقاهي الشعبية، ينتظرون من يدعوهم إلى إحياء إحدى الحفلات أو الأفراح أو أعياد الميلاد، وقد كان يقود هذه الفرقة الشاويش حسب الله وكان رجلاً عسكرياً أغوته الموسيقى النحاسية، فترك العسكرية وكون فرقته التي كانت أول فرقة موسيقى نحاسية في مصر تتخذ من شارع محمد على مقراً لها.

الجولة في شارع محمد علي مازالت لليوم تحمل عبق وملامح تاريخه القديم. تشعر بها في المقاهي المنتشرة على جانبيه، والتي كانت أهم ملامح الشارع على مدار تاريخه منها المقهى التجاري والذي كان معظم رواده من الفرق التي يطلق عليها فرق حسب الله، كذلك مقهى الكتبخانه المجاور لدار الكتب والتي كان يجلس عليها الشاعر الكبير حافظ إبراهيم والشيخ عبد العزيز البشرى وغيرهم من كبار أدباء ومفكري العصر، الذين كانوا يتخذون من شارع محمد على مقراً للتلاقي والنقاش، أما مقهى عكاشة فكان يجلس عليه أصحاب الفرق المسرحية الشهيرة في ذلك الزمن.

كما كان الشارع، في الماضي ومازال لليوم، هو أحد أشهر الأماكن القاهرية لبيع الآلات الموسيقية خاصة الشرقية منها كآلة العود ومازال بالشارع لليوم العديد من الورش المتخصصة في صناعة العود.

يدور الزمن دورته، وكما بدأ الشارع كمحاولة توفيقية بين القديم والحديث تتجاور فيه اليوم الطرز المعمارية المختلفة، المتبقي من تراثه القديم مع الأبنية الحديثة عديمة الذوق والجماليات، كذلك تتجاور فيه المحلات المتخصصة في الآلات الشرقية يدوية الصنع مع محلات الأجهزة الموسيقية الإلكترونية. ورش الصناعات اليدوية ومعارض بيع منتجات وارد الصين. الصورة فيها الكثير من المتناقضات، لكن هذا هو حال شارع محمد علي الذي بدأ كمحاولة للمزج بين القديم والحديث وحتى اليوم لم ييأس الشارع من المحاولة.

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.