ألكسندر بوتيبنيا
ترجمة د. تحسين رزاق عزيز
هناك مجالان آخران للحياة العقلية يمكن تحليلهما: هما الإحساس والإرادة ما أنْ يُقِرّ المرء بأنهما أوليان حتى يلزمه التخلي عن تفسيرهما، لأنَّ أي تفسير سيكون تحليلاً لهما إلى تصورات أبسط. لكن الملاحظة تشير إلى أنَّ الأحاسيس لا تصاحبها الأفكار فحسب، بل تعتمد عليها خلال مقارنة مظاهر الإحساس والإرادة عليها أيضاً. ويمكن التأكد ذلك من ذلك من الأشخاص ذوي درجات التطور المختلفة. إنَّ تطور العقل يثير أحاسيس وتطلعات جديدة ويقمع القديمة. وتكون الرغبات عند الطفل أكثر ثباتاً، والأحاسيس أصغر وبشكل عام تكون الحالة الروحية بأكملها أكثر تقلباً منها عند الإنسان البالغ. فالإرادة من خلال التفكير إمّا أن تدمر الإحساس تماماً، وإما تثبطه للحظة وتتيح له الفرصة في المرة القادمة للظهور بقوة أكبر. وبشكل عام، إنَّ الشك في تأثير التطور العقلي على الإحساس والإرادة يعني فقط الشك في شمولية التقدم وإنكار كون نوبات الإحساس العارمة في مجتمع متعلم أقل احتمالاً مما هي بين المتوحشين. ولهذا ليس من باب العبث أن نقيم الشخص ليس من خلال تطوّر العقل فقط، بل أيضاً من خلال درجة السيطرة على النفس التي تحدث بوساطة الفكر.
تعتمد الأحاسيس الجمالية والأخلاقية على محتوى التصورات، ولكن لا يمكن قول هذا عن الأحاسيس الباقية. لذلك، يمكن البحث عن أسباب الأحاسيس بشكل عام ليس في ما يمكن تصوره عموما بل في الشكل الذي تؤثر فيه التصورات على بعضها البعض.
نأخذ على سبيل المثال الإحساس بالتوقع ولنفترض أنه معروف، أولاً، أن أشكال الاستيعاب المختلفة في ظروف معينة تترابط وتتوحد فيما بينها إلى درجة يمكن للمفهوم الذي تذكرناه أن يجلب إلى الذاكرة مفاهيم أخرى؛ ثانياً، إن التصورات المتشابهة تندمج فيما بينها. لنفترض أننا نسير على طول طريق مألوف لنا؛ وتصورات الأشياء التي لاحظناها من قبل كونت فينا سلسلة، أول جزء منها يستحضر في الوعي الأجزاء الأخرى كلها. نرى جسراً عبر النهر وفي الوقت نفسه نفكر بأن الرمل سيبدأ خلف الجسر ثم غابة ثم جبل شيد عليه دير كهنوتي. وإذا ما ظهرت التصورات السابقة فينا حين رؤيتنا لهذه الأشياء كلها، فإن صورها التي اكتسبناها من جديد كانت ستندمج مع الصور السابقة ولن يكون هناك إحساس محدد؛ لكن فكرنا يندفع إلى الأمام ويتمثل لنا الجبل والدير الكهنوتي، بينما لا يزال أمامنا الرمل، وتصوّر منظر الجبل الذي استدعته إلى وعينا تصورات أخرى مرتبطة به، فسيتمثَّل لنا من جديد بما نراه فعلاً أو ينبثق مرة أخرى. وبمثل هذا التذبذب في التصورات يحدث الإحساس البغيض بالتوقعات من تلقاء نفسه. إنَّ التوقع قريب من إحساس بغيض آخر هو الرغبة. والرغبة تحدث عندما نتصور شيئاً يمكننا أن نتوقع منه المتعة، لكننا ندرك كذلك أنَّ سعادتنا ينقصها الوجود الفعلي لهذا الشيء. إننا نرغب بالأكل عندما نتصور الطعام بطريقة مغرية إلى حد ما، لكننا نشعر بنقص في الانطباعات الحسية المصاحبة للطعام. وبالتالي لا نريد الشيء نفسه بل التغيرات المعروفة لتصوّره والإحساس الطيب والشائع بالرضا. ويمكن الرد على الاعتراض بأنه من الممكن تخيل شيء لطيف غائب وعدم الرغبة به، إنه في هذه الحالة لا يُتَصَوَّر الشيء طيباً البتة بالنسبة لنا في هذه اللحظة: في إننا نفكر فحسب بأنه منحنا المتعة في وقت ما. من خلال هذه الأمثلة نريد أن نقول إنَّ الإحساس يمكن عموماً أن يُطلق عليه الحالةَ الروحية في ظل حركات تصوّر معينة (بالمعنى الواسع للكلمة)، وفي ظل تغيير في علاقاتها المتبادلة.
ص (81-83)
إن جمع الانطباعات في الصور التي تلتقطها للأشياء الموجودة بشكل مستقل عنا وبدون مشاركتنا – هو عمل روحنا التي لا تختلف في ذلك عن روح الحيوان.
لنفترض أن الرؤية في المرة الأولى تعطي الفرد انطباعاً عن شجرة على خلفية سماء زرقاء. ستشكل السماء والشجرة فضاء متعدد الألوان، شيئاً واحداً وسيظلان إلى الأبد شيئاً واحداً، إذا لم تتغير الخلفية أثناء تكرار التصورات نفسها، على سبيل المثال، إذا ما لم يحدث أن تتمايل الشجرة من جراء الريح، وإذا ما لم تتلبد السماء بالغيوم. وبما أنَّ هذا كله يحدث، فإنَّ تصورات الانطباعات التي تتركها الشجرة على العين عندما تتكرر في كل مرة من دون تغييرات ملحوظة أو مع تغييرات طفيفة، تندمج مع بعضها البعض وعند التذكر تُستَرجَع دائماً دفعةً واحدةً أو تُشكّل وفق الترتيب نفسه قيمة ثابتة للفكرة، صورة حسية واحدة، لكن الانطباعات عن السماء لن تندمج بهذه الطريقة وستكون قيمة متغيرة عند التذكر.
ويمكن أن تُقَدَّم في الوقت نفسه مع انطباعات الرؤية انطباعاتُ السمع والشم، على سبيل المثال، عندما أنظر إلى نبتة ما يمكنني سماع حفيف أوراقها ورائحة أزهارها؛ لكن انطباعات اللمس والذوق لا يمكن أن تكون متزامنة تماماً مع انطباع الرؤية، لأنني عندما ألمس شيئًا ما أخفي عن عيني جزء سطحه المواجه لي ولا أرى الشيء الذي في فمي مطلقًا. الرؤية ذاتها في الوقت نفسه لا تقدم لنا سوى الشيء الذي تكتنفه العين في وقت واحد؛ ولكن في الوقت نفسه تنتقل العين إلى جزء من السطح تاركة الجزء الآخر. يربط المرء في مثل هذه الحالاتِ التسلسل المباشر مع تزامن الإدراك كأساس للارتباط، بحيث يحصل، على سبيل المثال، في البداية على انطباعات النقاط التي تشكل السطح المرئي للجسم في وقت واحد ثم يلمس الجسم ويشعر بمذاقه ويسمع صوت سقوطه. وفي هذه الحالة، لن تنشأ الصورة الحسية للشيء مع العديد من العلامات إلا عندما يرتبط مجموع العلامات الأخرى، كما هو موضح في المثال الذي ورد في أعلاه، لتمييز مجموعة العلامات عن العلامات المتجانسة، ترتبط الانطباعات الدائمة للشجرة بالانطباعات المتغيرة للخلفية التي تصوّرت عليها. إن التباين بين الثابت والمتحول الناشئ من دمج التصورات المتجانسة ضروري هنا لأنَّ جميع التصورات المتزامنة والمتتابعة من دونه ستشكل سلسلةً واحدة فقط، والتي، ربما، يمكن تسميتها الصورة الحسية؛ وستبقى دائماً في الحالة التي، ربما، كانت فيها في المرحلة الأولى من حياة الإنسان وهو طفل.
ص (163-165)
* فقرات مختارة من كتاب الفكر واللغة، لعالم اللغويات الروسي ألكسندر بوتيبنيا، وترجمة د. تحسين رزاق عزيز؛ الصادر عن دار ابن النديم للنشر والتوزيع (الجزائر) ودار الروافد الثقافية (بيروت)، 2020,