نادركاظم… في مراثيه وتأملاته وأسئلته
أثير السادة – السعودية
- من تخيل الأمة إلى طوائف متخيلة
“أمة لا اسم لها” للدكتور نادر كاظم، كتاب مثقل بالأسئلة والخيبة معا، مثقل برغبة البحث عن فكرة الأمة وتمثلاتها في الفكر الأوروبي والقومي العربي، وبالخيبة عن عجز التصورات العربية عن ترجمة أحلامها لهذه الأمة التي استحالت على الدوام قضية قومية، وتحويلها إلى عناوين استقرار للدول الوطنية التي ستبدو في مخيال القوميين مجرد قنطرة للوصول إلى الأمة القومية الواحدة، والخيبة من خسارة ما يراها أدوات التوحيد اللازمة للأمة.
ينهض السؤال عن معنى الأمة على هامش رسالة تركها شاب دون العشرين في مجلة صوت البحرين مطلع الخمسينيات، كان يعترض فيها لاستخدام تعبير الأمة لوصف شعب البحرين، لهجته القوية كانت كفيلة للإشارة إلى طبيعة انتماءته الفكرية، إذ كان حينها منتميا إلى حزب البعث العربي الاشتراكي ببيروت…من هذا الاستنكار والاعتراض جاءت هذه المراجعة المدفوعة بالكشف عن تلك الموانع التي جعلت هذا الشاب لا يرى للأمة مكانا لوصف الجماعات الساكنة في البحرين.
وكعادته سيبدأ الباحث من فضاءات الثقافة، والنظريات الفكرية الأكثر شهرة في هذا الحقل، وللإرهاصات الأولى لفكرة الأمة وعلاقتها بالدولة.
هذا الجهد النظري سيعقبه مراجعة لمآلات الدولة والأمة في العراق، التي كان لأشكال التحديث التي عرفتها الدولة العراقية عبر وسائل الاتصال والمواصلات والصعود الاقتصادي أن تقوض الأشكال التقليدية للتضامن في المجتمع، كالعشيرة والجماعة والطائفة، إلا أن الدولة القمعية عملت في الوقت نفسه على إنهاك المجتمع المدني وتفكيكه، الأمر الذي انتهى بعد سقوط البعث إلى حالة من الطوائف المتخيلة عوضا عن بناء جماعة وطنية واحدة، حيث الأمة وصف لا حضور له في المشهد الجديد.
في البحرين، حيث الجغرافيا تقدم اقتراحها لحدود هذه الأمة، من خلال هذا الأرخبيل من الجزر المنفصل عن اليابسة بالجزيرة العربية، هذا الأرخبيل الذي سيعيش أهله لونا من العزلة بسبب صعوبة التنقلات بين قراه وجزره، إلى أن بدء العمل بمد شبكة الطرق وأصبح لقاء الناس ممكنا، والتنقل بين القرى متاحا، وهو ما يرى الباحث بأنه خلق الفرصة لأن يرى الناس أنفسهم “كأمة وكجماعة وطنية واحدة”..بناء الطرق وكذلك بناء المدارس لاحقا أسهم في خلق فضاءات جديدة للتعارف بين أبناء البحرين، أولئك الذين كانوا منقسمين حضريا، واثنينا ودينيا، لتبدأ أولى لبنات بناء الأمة من خلال جهود الدولة. إلى جانب شركة النفط التي كانت هي الأخرى كانت رافعة غير واعية لهذا الاحساس بالانتماء إلى الجماعة الوطنية، أو الأمة، يقول الباحث، فمن خلال المصالح المشتركة التي جمعت موظفي الشركة من البحرينيين وحرضتهم للخوض في أول إضراباتهم العمالية، جاءت واحدة من أبرز صور الانسجام بين مكونات الأمة، توحدت معها هتافاتهم وأوجاعهم، ولتبدأ معها سلسلة من الانتفاضات الوطنية التي لا يشك الباحث بأنها كانت باعثة على “توحيد البحرينيين وتكوين أمة المواطنين طيلة أربعين عاما”.
وفي خاتمة ممزوجة بالحسرة على مآلات الواقع، يستذكر كيف كان الألم والأمل يوحد المواطنين في بحرين الانتفاضات، وكيف أصبح الألم اليوم محدودا بحدود كل طائفة، كيف انتهى الحال بنا إلى طوائف متخيلة عابرة للأوطان، على خلفية المتغيرات التي تلت الثورة في إيران ودخول السوفييت إلى ملعب أفغانستان، زمن جديد بأيدلوجيات جديدة، منطلقاتها دينية في الأغلب، لتفقد برأيه “أدوات توحيد الأمة” قدرتها وفاعليتها السابقة، يذكرنا بقلق التجنيس والتغيير الديموغرافي وسجالاته، والانتفاضات ومآلاتها، ويرجح أن تكون في الأفق أدوات بديلة لتوحيد الأمة، قد تكون عند أطراف الضغوط الاقتصادية، ليجد الناس وحدتهم في المصائب مرة أخرى، فالجغرافيا والتواصل والمواصلات لم تعد ناجعة في تعزيز الفهم والعيش المشترك كما كانت عليه بالأمس.
- عن اللؤلؤ المتسامح
هل كانت السوق هي من صنع الوحدة في البحرين؟
يفترض نادر كاظم في كتابه “لا أحد ينام في المنامة” أن السوق المركزي في المنامة وانتظام انشطته قد ساهم في خلق شيء كهذا، أي في انتاج علاقة اجتماعية جديدة فضلا عن العلاقات الاقتصادية التي تنهض بها السوق.
السوق عنوان للتحضر، للخروج من العزلة، وللتواصل؛ والتجارة فيه هي بحسب كاظم من بعث روح المدنية في هذا المجتمع الذي انصهر في عنوان أكبر من التقسميات الأثنية والحضرية، لكن الكتاب الذي صرف الكثير من الجهد في البحث عن بدايات المنامة يتحير في تحديد أول التسمية، وأول الصعود الذي وهبها المركزية بعد بلاد القديم التي تحضر كعاصمة ومركز ثقل سياسي واقتصادي في فترات تاريخية مختلفة، الأمر الذي سيمثل عنصر جذب تجاري وبشري لهذه المدينة، ويؤسس لما يسميه الباحث مجتمع التجار والذي لا يخفي انحيازه له وهو يصفه بالمجتمع المنفتح والراقي والمتسامح، متوافقاً مع بلجريف الذي أطلق عليهم “رجال العالم”
مدينة الهامش التي غابت عن المدونات التاريخية والوثائق المحلية، ستصعد مع الاصلاحات البرتغالية التي طالت الميناء في بداية القرن السابع عشر، وانتعاش ما يسميه التجارة الاستعمارية، وبعدها مع تجارة اللؤلؤ التي ستسقطب إليها نسبة غالبة تصل إلى النصف من سكان الجزيرة، ومرة أخرى يذكرنا الباحث بقدرة السوق على خلق ابتكار شروط جديدة للتعايش والتسامح وهي تفتح أبوابها للغرباء والسكان المحليين، فهذا التنوع وليس “التماثل” الذي تعرفه القرى هو الباعث على التمدين، وعلى خلق لحظات من التعايش بين المكونات المختلفة، كضمانة لاستمرار التجارة وازدهارها.
حتى الإشارات المتفرقة لوجود سيرة مبكرة لموجات من التعصب الديني كما في ذاكرة بالجريف التي تحيل على حضور مبكر للتشدد النجدي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لا تبدو ذات قيمة كحقيقة بالنسبة للباحث الذي يحتفي بالطابع الكوزموبولياتي لهذه المدينة التي وسعت كل الجنسيات والأثنينات، ويستدعي معها لحظات التنوير المبكرة وطريقة معالجتها لخطر التبشير عبر تأسيس الأندية والمكتبات.
مثلت الخمسينيات بالنسبة للمنامة منعطفا بارزا على مستوى العصرنة، حيث الإقبال على الموضة الغربية والفضاءات الصاخبة، هناك أصبح الليل حياة أخرى لا تعرف السكون، ليل المقاهي والمطاعم والسينمات، كان النفط هذه المرة الباعث الرئيس على اندفاعات المجتمع وتحولاته، والتي جلبت المزيد من العمالة الأجنبية للبلاد، إلى جابت صعود طبقة الشباب، وما اتصل بها من رغبة في التمرد والتحرر، والتعلق بكل ما هو جديد، فضلا عن ازدهار اقتصاديات المتعة والترفيه التي استهدفت الأجانب والمواطنين على السواء.
ذات اللحظة التاريخية عرفت أيضا تنامي الوعي القومي، ووفرة الأسماء المنسوبة لهذه المدينة من الذين التحقوا بالتيارات القومية والشيوعية، الأمر الذي ساهم في إيجاد خطاب يؤسس لتمايز وفق الأسس القومية، أي أن المنامة قد وضعت ضمن دائرة البحث عن هوية عربية، وهو ما يراه نقطة تحول في صورة المنامة المنفتحة على مختلف المكونات، مذكراً بالحضور الفاعل لهيئة الاتحاد الوطني في هذا السياق، حيث بدت تأخذ الموجة القومية ما يشبه “الهوس” لتعريب كل شيء على حد الباحث.
غير أن الباحث يعود مجددا ليستدرك مذكرا بأن ثمة إرهاصات أسبق لتراجع صورة التسامح التي عرفتها المنامة، ليجعل من الانقسام الطائفي في العشرينات على خلفية التنافس بين الوجهاء في كلا الطرفين: الشيعة والسنة، إضافة إلى صراع النجادة والعجم، كمحطات ضاغطة على صورة المدينة، مرجحا بأن يكون السبب في ذلك “ضغوط قوى وملفات محلية يقع مركزها خارج المدينة”، ويعني الهواجس القروية والقبائل العربية وتطلعاتها،
تحولت هذه النزعة القومية العروبية إلى شكل من أشكال من التبخيس للآخر بمختلف قومياته وشيطنته، لأن الهوية الوطنية باتت عنوانا طاردا لكل ما هو خارج حدود الامتياز القومي، وتنامت على إثرها المشاعر العدائية التي عبرت عن كرهها للعجم والهنود والانجليز وسواهم، فيما يعتبره الباحث دعوة للتنازع والصراع الهوياتي.
لن تغيب التيارات الدينية هي الأخرى عن التأثير على هوية المنامة، بعد صعودها في ستينيات القرن الفائت، واضفاء المزيد من التشوهات في صورة المدينة الكوزموبولياتية، والتي آذنت بصعود قوى جديدة، تزاحم النخبة التقليدية التي يحتل التجار صدارتها، مستذكرا انتخابات المجلس الوطني في ١٩٧٣ وانتخابات مجلس النواب في عام ٢٠٠٦ و٢٠١٠، حيث النتائج على اختلافها تشير إلى مراكز ثقل جديدة وقوى صاعدة، في الأولى كانت للتيارات القومية واليسارية، وفي الثانية والثالثة للتيارات الدينية.
هواجس الأسلمة تأخذ الباحث للكتابة بالكثير من الحسرة عن التغيرات التي لحقت بالمشهد البحريني عموما في حقبة الثمانينيات، وفيها لا يفتأ يربط هذه الظواهر المستجدة بعالم القرية، فثقافة التدين برأيه بعيدة عن عالم المدن، وقد كانت القرية هي الحاضنة والرافدة لتيار حزب الدعوة في البحرين، في حين تمركز تيار الشيرازي في المنامة غير أنه اتخذها قاعدة للانتشار في القرى أيضا، وفي هذه الأثناء تنامى حضور التيارات الدينية في المنامة شيئا فشيئا في الوقت الذي انحسرت فيه موجة التيارات العلمانية عن المنامة وأحيائها، قبل أن تحاصر سلطة الدولة هذه التيارات الدينية، وقبل أن تنالها الهجرة العكسية إلى خارج المنامة، الهجرة التي أفرغت المدينة من سكانها، ومن طابعها الاجتماعي، لتصبح اليوم صورة مصغرة من “بومبي”!
- عن تصاريف وأهوال من أجل إحياء الآمال
من تلة تشرف على بقايا الربيع العربي يكتب الدكتور نادر كاظم مرثيته لتاريخ طويل من البحث عن الأمل في الفضاء العربي، حتى وهو يحاول الهروب من التشاؤم في إصداره (إنقاذ الأمل) الصادر عن دار سؤال، تحضر لهجة الخيبة التي تتبع الموجات الثلاث لهذا الأمل : التنوير،الثورة، فالمجتمع المدني، فالذين نظروا للمستقبل وحتمية التغيير بالرهان على الحرية والتطور الطبيعي من أرباب التنوير كانوا في الغالب أسرى لروح الاستسهال والتفاؤل المفرط، بل وأصحاب (علاقة مسترخية مع الزمن) على حد وصفه، الأمر الذي حاول الجيل الثوري معالجته بالانقلاب والثورة، بعدم انتظار المستقبل بل بجلبه بالقوة، جاءت تلك الثورات على خلفية الشعور بالعار والبحث عن الثأر بعد النكبة الفلسطيينة، وجاءت معها الوحدة القومية واستمالت معها الشعوب العربية قبل أن تأخذ الثورية الاسلامية مكانها وتقدم وعودها اليوتيوبية.
لم يمثل الخروج من حقبة الاستعمار دخولا في عصر الأمل والتحديث السياسي، خيم الاستبداد الذي هو نفق الانحطاط الذي يحذر منه الكواكبي قي بدايات التنظير للنهضة العربية، الهزائم الكبرى فتحت دوائر التفكير حول مسألة الطغيان و “بردايم الطاعة” كما يسمه الطاهر لبيب، وبدأ الحديث عندها عن المفاتيح الجديدة للحل، والمتمثل في “المجتمع المدني”، أشياء كثيرة حدثت في منعطف الثمانينات ومطلع التسعينيات جلبت زخما من الأفكار التي تحاول البحث عن بصيص الأمل في تحولات ديمقراطية تأتي من تقوية المجتمع المدني، ليصبح هذا الأخير هو “الشرط الأولي” للخروج من الاستعصاء الديمقراطي، دون أن تجد لها ما يستندها على أرض الواقع العربي، حيث الدولة التسلطية تمسك بزمام كل الأمور، الأمر الذي أوجد موجة من النقد لطبيعة استخدامات ودلالات مفهوم المجتمع المدني كما يورد الباحث.
الحلم بعد هذه المرحلة راح ينحسر ليصبح كل حديث عن التقدم عربيا باعتباره تقدما للخلف، في الوقت الذي تزدهر فيه أشكال الاستبداد والاستعصاء الديمقراطي، الأمر الذي يرى الباحث بأنه مهد الطريق لثورات الربيع العربي، الثورات التي كانت بمثابة نهاية للسرديات الكبرى، الثورات التي يلمح الكتاب إلى أنها تأخرت ربما، بسبب قدرة هذه الأنظمة التسلطية على الرهان على مؤشر “جودة الحياة” كبديل عن الاصلاح والديمقراطية، والعمل على استيعاب مختلف الطبقات عبر لعبة توفير الاحتياجات اليومية من السلع والترفيه، إلى أن جاء الوقت للمجموعات المهمشة والمنبوذة والتي لم تستفد من استقرار النظام وخدماته، هؤلاء المنغمسون في اليأس وجدوا حياتهم وحقوقهم في مهب الريح، ومستقبلهم لا يشبه إلا الكوابيس، ليخرجوا إلى الشارع ويطالبوا بالتغيير.
يمثل كتاب “إنقاذ الأمل” تفكيكا لحلم طويل راود الأمة العربية طيلة عقودها الماضية، ورصدا لمسيرة السؤال عن السبيل للإصلاح السياسي أو ما يسميه “الأمل”، والإجابات المتعددة التي كانت في الغالب بنت لحظتها، وهي تحاول تقديم وصفاتها العلاجية لمستقبل الأمة، فكان الحاصل هو مجتمعات غير مستقرة في مقابل دكتاتوريات أكثر استقراراً!
- كي لا تتوّحش الهوية
لا يحمل كتاب “خارج الجماعة” للدكتور نادر كاظم روشتة للأفراد لكيفية الخروج من عنق الانتماءات، لكنه يحاول الانطلاق من الحق في الاختيار بين الانتماء وعدم الانتماء، وبين أن نذهب إلى ذواتنا لنوسع من وجودنا وبين البقاء ضمن الجماعة والطائفة وكل القوالب التي تصاغ للكائن الحي ضمن حدود وجوده الاجتماعي، ليؤسس الفرد منا لإنسانيته فضاءها الواسع بعيدا عن متطلبات الانتماء لهذه الجماعة أو تلك.
في كتاب “خارج الجماعة” ستكتشف بأن الهوية وحش، يبحث عن عدو خارجي دائما، والتعددية الثقافية ما هي إلا “اختزال للأفراد وتشييء تقافتهم”، وتقييد لقدراتهم على الخروج عن الجماعة، وأن الذين هربوا من إطار الجماعة وتقديسها دخلوا في متاهة تصنيم الفردانية وعبادتها، الأمر الذي يجعل من حرية الانتماء التي يدافع عنها الكتاب مهمة صعبة، معقدة، ولا تفترض حلا لمشكلة “المديونية” التي تتأتى من لحظة الالتزام بالولاء لجماعة ما.
وكعادته، يأخذنا الدكتور نادر كاظم إلى مراجعة مكثفة في الأدبيات المشغولة بأسئلة الهوية والتعددية الثقافية، ليضعنا بداية أمام ظاهرة التطرف الإسلامي في أوروبا وإشكالاتها، والتي كانت فاتحة للنقاش حول اعتبارها نتاجا للتعددية الثقافية، حيث وجد البعض في صور التسامح والشرعنة للتعدد لونا من “العزل الفعلي للجماعات”، لتنتقل التعددية من موقع الضحية إلى موقع الاتهام، ومن موقع التسليم إلى موقع المراجعة. التفاسر المتباينة لحوادث التطرف في مدريد ونيويورك ولندن وسواها ستفتح باب السجال بين مناصري التعددية الثقافية وخصومها، سنكون معها أمام تحليلات لا تخلو من تحيز تارة، ومن تناقضات تارة أخرى، إلى الحد الذي يذكرنا بالمركزية الغربية والخطاب الاستشراقي، فالتعددية الثقافية انتهت عند البعض إلى طعنة في خاصرة الحضارة الغربية التي أفسحت المجال لتمدد العنف الاسلامي ضمن المجتمعات الأوروبية.
مابين تعددية الأفراد وتعددية الجماعات ستتأرجح الرؤى الليبرالية لفكرة التعددية، حتى فكرة التنوير عن وحدة الطبيعة البشرية ستصبح نقيضا عند البعض لفكرة التعدد، بما تدفع له من تماثل وتجانس، على اعتبار أن الوجود البشري غير خال من الارتباطات والانتماءات المتنوعة، وهنا يعرج الكتاب لمناقشة فكرة الاعتراف، الاعتراف بالجماعات كمدخل للتعدد الثقافي، وما يستتبعه من إشكالات المساواة في الاعتراف، والتي تصبح حالة إشكالية حين تطبيقها في عالم السياسة، وترجمتها ضمن دساتير وقوانين الدول، كقضية تحديد لغة الدولة، ودين الدولة.
الإشكال الأهم في هذا السياق هو في تحول الاعتراف والمساومة بين الجماعات إلى حالة من حالات تقسيم المجتمع، والتضييق على خيارات أفراده، ما يجعل من مسألة الاعتراف ذاتها محاولة لتقديم الأفراد في “صورة خاطئة”، عبر تجذير الجماعات الثقافية وافتراض تجانسها، وتعمية كل الاختلافات القائمة في داخلها، وهو ما قد ينتهي إلى إنتاج أفراد وجماعات أخرى مهمشة ومضطهدة داخل كل جماعة، فالاعتراف بهوية وحقوق جماعة ما بحسب الكاتب قد يترجم “في صورة اعترف بصفوة الجماعة” وبذلك تتحول هذه الصفوة إلى طبقة اجتماعية ذات نفوذ وسلطة داخل الجماعة وداخل السلطة على حد سواء.
الاعتراف الذي تقدمه الدولة بالتعدد الثقافي هو مطلب، لأجل تحقيق المواطنة المتساوية، لكن هذا الحد من التدخل ينبغي برأي الكاتب أن لا يتجاوز إلى التدخل في الانتماء من عدمه بالنسبة للأفراد، أو مايسميه الحرية السلبية، على اعتبار أن الفرد متعدد في هويته، ولا ينبغي اختزاله في حدود الجماعة التي ينتمي إليها.
هل البقاء داخل الجماعة كله شر؟..قدر الكائن أن تكون له هوية اجتماعية، أن ينتمي إلى جماعة ما، وهذا يدفعه إلى التنازل عن شيء من أصالته كفرد، الحتميات البيولوجية والأخرى القدرية تقرر للإنسان جانبا من شكل وجوده، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكنه التخلي عن ارتباطاته أو تغييرها، للانتماءات الثقافية أهميتها، يذكر الكاتب، لكنه يحذر في المقابل من الانتماءات ذات الكثافة المفرطة، لأنها من تغذي النزعة العدوانية تجاه الآخرين، وعليه يصبح المخرج من مأزق الارتباط هو في التوسيع الدائم لهوية الفرد، وتذكيره بأنه لا يملك تصنيفا واحدا داخل المجتمع، من أجل أن لا يستيقظ وحش الهوية النائم بحثا عن عدو يقاتله!