المقاهي العراقية، الحياة الموازية

صندوق الدنيا - المقهى

0 744

عمار نعمه جابر – كاتب مسرح

يمتلك المجتمع العراقي إرثاً كبيراً، سجل منه ثمانية آلاف عام مضت، حيث يؤكد بعض العلماء إن كل البشر في هذا العالم يعودون في الأصل الى قرية صغيرة في جنوب العراق. هذا الارث المتنوع على مد التاريخ شكل مجتمعا بسمات خاصة، وعادات وتقاليد متنوعة، تشكلت من تلاحق الامم والحضارات التي سكنت وحكمت وعاشت بين النهرين العظيمين، دجلة والفرات. لذا تجد من يزور العراق يتحسس فيه طعماً خاصاً لمجتمعه، قد يختلف عن مثيلاته، حتى في البلدان المجاورة.

في العراق تستطيع أن تتعرف بسهولة على أهمية ومكانة المقاهي في المجتمع من جنوبه الى شماله، وترى كيف انتشرت بشكل مفرط في كل الاسواق والشوارع والمناطق الشعبية. نعم، ربما تكون المقاهي وافداً عثمانياً غريباً على المجتمع العربي القبلي في العراق، والذي يشكل فيه مضيف القبيلة والعشيرة عمود الوسط في حياتهم، الا أن المدنية المبكرة للمدن العراقية الكبرى، استبدلت هذه المضايف العربية، بالمقاهي العثمانية، والتي انتشرت لتشكل جزء من حياة العراقيين منذ منتصف القرن التاسع عشر، لتصبح شاهدة حقيقية على تاريخ العراق الحديث السياسي والثقافي، وحتى الاجتماعي والاقتصادي.

المقهى في العراق ليس مكاناً لاحتساء الشاي العراقي المعتق، كما يصفه نزار قباني، وهو المشروب الوحيد والمتميز فيها، دون حضور بارز لمشروبات اخرى، حشرت جزافا في الآونة الاخيرة في المقهى العراقي، مثل الدارسين والقهوة والحامض. وفيها البصمة العراقية في التسمية. فالمقاهي أمكنة لها وقعها الاجتماعي وحضورها البالغ في الارث العراقي، كونها التجمع الوحيد للرجال في كل شارع او منطقة، يلتقون ببعضهم، يناقشون أمورهم، حتى الخطيرة منها، كالسياسة والدين والثقافة، ويناقشون مشاكل مدنهم ومشاكلهم الخاصة، حتى تلك التي تتعلق بالحب والزواج، فضلا عن الموت والمرض. في المقاهي تتشكل هيئة الأمكنة، فهي الرئة التي تتنفس منها تلك المدن، مواقفها السياسية والاجتماعية والثقافية، وتحدد فيها اخلاقياتها وانتماءاتها وتفرض قوة المجتمع على الفرد، وتنتقد فيه ما قد يخرج عن أطر ابن المحلة، أو ابن الولاية، أو ابن البلد الوطني الشريف. الامر الذي أسس للمقهى في العراق مكانة واسعة لم يحض بها حتى الجامع، بوصفه مؤسسة دينية، بسبب التوجهات العلمانية التي انتشرت في العراق منذ مطلع القرن العشرين. فكانت المقاهي عش دائم لأغلب الافكار والمذاهب والاطروحات الثقافية المختلفة، يتبادل فيها العراقيون الرؤى، ويقيمون الاماسي، ويتبادلون الكتب، ويتبنون فيها دروسا خارج المؤسسة التعليمية، بل تمثل المقاهي مدارس موازية في المدن العراقية.

واليوم تستطيع ان تزور مقاهي عريقة جدا، قد تتجاوز اعمار بعضها المائة سنة، وتتلمس فيها عبق التاريخ، وأرواح كل رجالات التاريخ الذين شربوا شايها، وتحدثوا فيها، بل وكتبوا فيها أجمل نتاجاتهم الأدبية والفكرية. وتستطيع أن تسمع أسماءها العريقة، والمتميزة، كمقهى الشابندر في شارع المتنبي ببغداد، او مقهى الادباء في الناصرية وفي البصرة، وستعرف ان التخصص قد امتد للمقاهي منذ وقت طويل، فهناك مقاهي للأدباء والفنانين، ومقاهي للبنائين، ومقاهي للحدادين، ومقاهي سميت بأسماء مرتاديها، مثل مقهى السادة الصوافي، أو مقهى آل خيون، وغيرها من المقاهي المشهورة في مدينتي الناصرية.

ليس غريبا عني كأديب ومثقف عراقي أن أعترف بصوت عال، ما للمقاهي في مدينتي من دور جوهري ومتميز في تشكيل مسيرتي التي تمتد لستة وعشرين سنة، ففيها حصلت على دروس متميزة من اساتذتي الادباء، وتعلمت على ايديهم المثير والمتميز، وفيها حصلت على كتب متميزة من زملائي المثقفين. وفي مقهى الادباء في الناصرية ناقشنا وأسسنا اكبر مشاريعنا المسرحية والفنية، وفي المقهى تكورت أفضل الافكار، ولمعت في سماء العراق اولا، والوطن العربي الكبير لاحقا.

رغم كل ما جرى في هذا العالم، من تقدم تكنولوجي بسيطرة كاملة لتقنيات الاتصالات والانترنت، وانزياح الفرد نحو الانطواء والعزلة، ولكن ما زالت الى اليوم مقاهي العراق في أوج عطائها وزهوها، تمد يدها للمجتمع كي تساعده على تبني التكاتف المجتمعي، والتلاحم والالتصاق بالآخر، ليبقى المجتمع العراقي متماسكا وقادرا على عبور محنة مسخ الهوية، والتي يتعرض لها الشرق المتوسط الآن.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.