برغم أنني أصدرت روايتين في عام واحد، دفعة واحدة، هما “الأنهار العكرة” و”دنيا عدي”، اللتان صدرتا بالتزامن مع معرض أبوظبي للكتاب في أبريل عام 2004، إلا أنني اعتبر أن روايتي “الأنهار العكرة” من ناحية عملية هي الرواية الأولى؛ ربما لأنني سلمت مسودتها أولاً للناشر، أو أنها تُصوّر بعضاً من التفاصيل الخاصة بي شخصياً وانعكاس تجربة غربتي عن الوطن في تشكيلها الأولي. هي بمسح عام رواية عن الهواجس الذاتية لمرايا الاغتراب على الذات، ذلك الإحساس الذي يطارد أي كائن يسافر بعيداً عن التراب الأول والبلد التي كان يحس فيها بوجوده ذات يوم. برغم يقيني التام بأن الحياة سفر مستمر، واغتراب نفسي لا يتعلق بالجغرافيا التقليدية.
هناك أمر لابد من التذكير به أن فكرة الرواية الأولى في حد ذاتها مربكة وغير دقيقة، يمكن أن يكون ذلك الحساب بمعنى النشر الأول، لكن المسألة أعمق من ذلك؛ لأن الرواية الأولى بظني هي أول ما كتبت فعلياً، إلاّ أن تكون ثمة معايير أخرى لا ندركها جيداً. هنا يمكن لي أن اعتبر روايتي “الحصاد” التي لم تنشر؛ بل أن مسودتها المكتوبة بالقلم السائل الأزرق، ضاعت مني؛ هي أول رواية لي كتبتها في المرحلة الثانوية وأنا على أعتاب السفر إلى اغتراب لم يتحقق كان من المفترض أن يكون داخل الوطن، بأن أذهب إلى مدرسة داخلية مخصصة للطلبة المتفوقين. شاءت الظروف وتقديرات العائلة أن لا أمضي إلى هناك، وبقيت حزيناً لأيام، ونتج عن ذلك الأسى مشروع الحصاد وبطلها “فارس”، الذي يذهب بالفعل إلى تلك المدرسة ويصورها وفق تخيلاته، ذلك كنت أنا بالطبع.
“الأنهار العكرة” هي انعكاس للبحث عن زمن مفقود في مدن شمال السودان بغبارها الهائج في الشتاء والأمطار الشحيحة والتي ساعة تضرب بقوة تهلك كل شيء مع لهف البرق وقسوة الحياة في شهر أمشير البارد، بما في ذلك فيضان النهر بالتأكيد. الذين قرأوا الطيب صالح يعرفون ذلك جيداً، وأنا انتمى للبيئة نفسها تقريباً مع اختلاف رؤيتي، في بلد كبير ومعقد التضاريس والسحنات والأعراق.
كنت أكتب إذاً عن الصحراء والنهر؛ تلك الثنائية التي طالما شكلت صورة الطفولة الأولى عندي. ما بين هذين الحزامين كانت مدينتي التي اسميتها في الرواية بـ “الرميلة”؛ ربما نسبة إلى الرمل. في الواقع كان اسمها “بربر”، وكانت الرواية ليست إعادة إنتاج للواقع؛ بل هي عمل متخيل بحت وفيها شيء من الفانتازيا في الزمن الأول لبروز الانترنت، حيث كان بريد الهوتميل بارزاً فيها كأداة للتواصل في عالم جديد كنا نحاول استكشافه نحن المغتربون.
كتبت الرواية “الأنهار العكرة” في شكل حزم متفاوتة من مذكرات ومدونات وأفكار مشتتة جمعت في النهاية، لتشكل هذا العالم الغرائبي الذي أنتمي له. كانت أشبه برواية سيرة؛ باعتبار أنها تبدأ من فكرة ذلك الإنسان المغترب الذي يفكر بالعودة إلى بلده بعد عشر سنوات قضاها في دولة خليجية، ومن ثم خلافه مع رب العمل حيث عمل في مطبعة مُجلّداً للكتب التراثية. غير أن الواقع سوى ذلك. إنها رواية أكثر تعقيداً من ذلك للقراءات الثانية لها من قبل قراء ونقاد، حيث تفتح الافق لعالم مجهول لازال غير مكتشف في مدن شمال السودان، خاصة رحلات الناس في الحدود ما بين مصر والسودان في تجارة البضائع المسروقة والقوافل التي تسير بالجُمال منذ أقدم السنين.
أنا أكتب بطريقة تخصني، واشتغل على ما يسمى بالمونتاج الروائي، بدأ ذلك منذ عملي الأولى، واستمر معي في معظم أعمالي؛ لهذا فالرواية لا تكتب مرة واحدة، وليست هي نصاً مستمراً يجب أن أكتبه من الألف إلى الياء أو فرض مدرسي، أو حكاية تشغلني لابد من إفراغها على الورق أو الحاسوب فيما بعد؛ بل هي تعبير عن رؤيا للعالم. أن تعلن أنك يمكن أن تعيد كتابة هذا الوجود في علاقاته المتشابكة معك والأشياء والكائنات في سياق جديد، يكون للآخر، القارئ أن يعمل على الاستكشاف داخله.
لن أقول إنها كانت رواية مكتملة، أو أنها اكتملت بالفعل وأنا اقدمها للناشر السوداني “الشيخ عووضه”؛ صاحب الشركة العالمية للطباعة والنشر في القاهرة ولها فرع بالخرطوم – وقتذاك –؛ الذي اهتم بالنشر، وعكف ليلة يقرأها بمدينة الدوحة، حيث كنت أقيم هناك وقتها. في اليوم الثاني أبلغني قائلاً: “سوف نكسب طيب صالح جديد”. يبدو ذلك أبلغ نوع من الاحتفاء لكاتب شاب سوداني، يحاول أن يجد نفسه في عالم قد تصعب فيه الفرص بقدر ما تتسع. ونشرت الرواية، في القاهرة، ومن ثم كان ظهورها الأول في أبوظبي، وسافرت بالطائرة من الدوحة إلى دبي ومن ثم بالسيارة مع صديق إلى أبوظبي في 2004؛ لألحق بالمعرض وأشتم رائحة الحبر في أول كتاب لي. كانت فرحة كبيرة تكررت فيما بعد وإن كان بدرجة أقل.
ظلت رواية ناقصة بالنسبة لي؛ لأن الحكاية الأساسية لم تكتب بعد بظني، لهذا سوف يظل الكاتب يعمل دائماً على مشروع مفتوح، هذا قدره. الحلم بالكمال منقصة والحياة هي سرّ غامض محله الغرابة في أن نسرد الحكايات بلا نهاية. لهذا – هي – قبل أن تصل للناشر أو بعد أن وصلت له، هي رواية مفتوحة، ربما لو لم أسلمها لعووضه، ناشري الأول، لتغيرت كثيراً. هذه علاقتي مع الكتابة عمادها إطار مفتوح. يأتي الزمن القاطع فجأة ويقرر ما شاء بشأن النص، كقدر حتمي لا تعرف متى ولا أين يقع!
كان النشر بهذه البساطة، ومعظم أعمالي فيما بعد لم تواجهني إشكالات في نشرها؛ إلا بعد الروايات التي رفض ناشرون نشرها لأسباب سياسية أو أيدلوجية حيث ما زالت معلقة، كـرواية “رسام الآلهة” المستوحاة من سيرة القذافي. أنا أؤمن بأن كل كتاب لابد أنه سوف يصدر في الوقت المناسب. قد يتأخر لأنه يجب أن يكتب بطريقة أخرى، لن أقول أنها جيدة، هذه أكذوبة. الكمال ليس سمة أبداً في عالمنا، فالحياة تندفع دائماً لهذه الفكرة؛ أن تكون الأشياء مكتملة، ولن يحدث ذلك أبداً؛ لهذا يتطور الإنسان والكون كله يندفع نحو الحذف والإضافة.
بعد نشرها وجدت الرواية بعض الصدى، في بلدي؛ لاسيما من أناس كانوا يعرفونني، يبحثون عني في نص أكتبه ذات يوم، لكني أشك بأنهم عثروا على أي شيء يتعلق بي؛ فالكاتب في حقيقته حتى لو كتب عن ذاته أو تجربته فهو يحتال على الواقع وعلى الذاكرة. أي كتابة تأخذ من الذكريات هي ناقصة بالنسبة لي؛ فالخيال هو جوهر الإبداع الإنساني. إلى اليوم ثمة من يعتبر “الأنهار العكرة” رواية مهمة أهم بكثير مما كتبته لاحقاً، وأنا يمكن أن أقول ذلك؛ لأنني اعتبرها بذرة لشجرة كبيرة ما زالت تتفرع لكي تشكل مشروعي الإبداعي الذي تجاوز أربعة عشر عملاً أدبياً روائياً، بالإضافة إلى قصص في مجموعتين وكتب فكرية وفلسفية أخرى.
عدد الصفحات: 167
الناشر: الشركة العالمية للطباعة والنشر بالقاهرة
سنة النشر: 2004