تمثلات المكان في التجربة الفوتوغرافية

ورشة فن - فوتوغراف

0 1٬013

أثير السادة – السعودية

 ماذا نعني بالمكان؟

سؤال صغير يستبطن الكثير من الاحتمالات التي ستأخذنا في طية هذه السطور لسبر أغوارها وتفاصيلها..ترى ما يحضر في الذهن وما يغيب في هكذا استهلال بعبارة عائمة، من يسعفنا في بلوغ المكان؟ هل هو المعجم؟ هل هي التجربة؟ هل هي دفاتر التصوير،وتجارب المصورين ونحن نحاول ربط المكان بفعل التصوير؟ …وقبل أن نمضي مع السؤال في بداهته ، و إغراءات التبسيط التي تسكن فيه، لنسأل: هل ثمة صورة بلا مكان؟

وحتى نؤسس لمفاهمات أولية،  سنفترض بأن المكان هو  ذلك الإطار الذي يجري فيه الحدث، جغرافيا كان أم رمزيا، قد يطلق عليه البعض أوصاف أخرى كالمساحة أو الحيز أو الموضع، المهم هو  أن تحضر في الذهن صورة لمعنى يقترب من مفهوم المكان الذي نبحث في شأنه..المكان الذي يمثل إطارا وفضاءا لحدث ما، بهذا التعريف يمكن القول أن في كل عملية إبداعية حضورا للمكان، في الشعر، في الرسم، في المسرح، في السينما، لأننا ببساطة لا نملك أن نكون في اللامكان…لكن يا ترى ما هو الفارق بين المكان في كل تلك الأشكال الإبداعية والمكان في عالم التصوير؟.

يبدو المكان في التجارب الأدبية و الفنية الأخرى مساحة قابلة للتبديل، بها سعة للحركة، للتغيير، هنالك لنقل حرية أكبر في صياغة المكان، فالروائي حين يصف الأشياء في مكان ما له أن يضيف ويحذف ، بل يملك أن يبني مكاناً بكامله من مخيلته، والشاعر كذلك، وكذلك في المسرح والسينما حيث يعاد تأسيس المكان وفق شروط ورغبات واتجاهات العمل…أنها كما يقول أحدهم فنون تعيد خلق المكان..أما في الصورة فمساحة الحرية أقل، هنا نتحدث طبعاً على المستوى الجمالي، لان سؤال المكان في الصورة مختلف عن ما في سواه من الممارسات الإبداعية، وهو سؤال غير مستقر، سيقترب مرات ويبتعد مرات عن المركزية التي تفرضها الوظيفة الجوهرية للصورة ، أي مركزية التوثيق.

لو فتشنا في عالم الصورة عن هذا العنوان، أي عنوان المكان، فسنجد أن هنالك تجارب تعلن صلتها بنحو أو بآخر بتجلياته، أي أنها اختارت المكان عن سابق إصرار  ترصد موضوعاً، وليس إطارا للصورة..ولو سألنا محرك البحث “غوغل” لما تأخر في الجواب، ولجلب لنا نماذج منها، وهي:

Street photography

Landscape Photography

City Photography

Urban Photography

Architectural or location photography

ما يجمع بين هذه التجارب هو الانشغال بالمكان، فالشارع مكان، والمنظر الطبيعي مكان، والمدينة مكان، والريف مكان، كلها مفردات تشير الى ما أطلقنا عليه مكان، لكن السؤال الآن هو: ترى ما الفارق بينها وبين باقي تجارب التصوير التي نعرف؟

الفارق بسيط…هو فارق في التركيز، تماماً كما في عالم العصيرات: شراب، ونكتار، وعصير مركز.

هنالك صور يتراوح  فيها تركيز المكان بحسب اتجاهات ومقاصد الصورة…هذه التجارب التي أشرنا اليها جعلت من المكان محوراً  لاهتمامها، فوجدنا حضوراً كثيفاً للمكان فيها، بمعنى أن البطولة المطلقة للمكان، وما عداه فممثلون برتبة مساعد أو كومبارس.

الآن، لو فتشنا في هذه التجارب، وفتحنا البومات المنشغلين بعنوان المكان، ما الذي يمكن أن نراه؟ كيف وبأي نحو استطاعوا احتواء المكان عبر الصورة؟ لو تمعنا سريعاً في المتاح من تلك التجارب سنكتشف انها تتحرك على خطوط عدة تتمثل هوية المكان، روحه وثقافته، سندرك حتماً أن الاقت ا رب من المكان هو اقتراب من المجتمع والتاريخ أيضاً.

لذلك سأدعي أن للمكان مجازاً  أضلاعاً ثلاثة : الأرض والانسان وما يجري بينهما من تفاعلات وعلاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية ترسم بالنهاية صورة المكان…في تجارب اللاند سكيب وهي الوجه الأشهر في اوساط المصورين المحليين الذين انشغلوا بالمكان، سنرى تدقيقاً في تضاريس المكان، في العلاقة بين مفردات المنظر الطبيعي، ومثله في التصوير المعماري الذي يحاول دراسة البناء، والبحث في جمالياته، هنالك اندفاع الى توصيف فعل العمارة، بينما التجارب الأخرى تبحث في خصوصية المكان، ترى أن المكان بالمكين، بهذا الإنسان الذي يحيا فيه، فتراها تعرض صوراً  مشغولة بهذه العلاقة بين الناس والمكان.

وإذا كانت المدينة مبتدأ فإن خبره الناس، هكذا يصف البعض، لا هوية للمكان خارج هوية الناس، كلاهما يشبه الآخر، كلاهما يضيف للآخر، لذلك لا يمكن أن نقرأ تجارب تصوير الشارع كمحاولات لرصد أحوال الناس فقط، بل هي رصد للمكان من خلال ما يتولد من علاقة بين الأرض والانسان.

والسؤال الآن : كيف يمكن أن نقبض على ماضي وحاضر ومستقبل المكان

من خلال الصورة؟

نحن بحاجة الى مصور لا يرتدي فقط سترة المصورين المعروفة، ذات الجيوب الوفيرة لحفظ الافلام والعدسات، والتي يشعر معها المصور بالزهو لإنها تشير إلى هويته الإبداعية، نحن بحاجة الى مصور يرتدي أيضاً قبعة الباحث الانثربولوجي الذي تشغله طقوس الناس وممارساتهم، أنماط معيشتهم واستهلاكهم، مصور له ذاكرة معمارية تساعده على اكتشاف تحولات العمران، وتوصيف الذائقة الجمالية التي توجه أنماط البناء في المكان، فضلاً عن دوره كموثقٍ ومؤرخٍ يجمع اللحظات ويدقق في التفاصيل.

ملامسة المكان في العمق يحتاج الى رؤية مختلفة، رؤية تعيد تنظيم صورة المدينة أو القرية او البلدة، ترى ان كل مفردة في المكان هي جزء من حكاية نحاول أعادة كتابتها، الشارع والسوق والمسجد والأزقة ووجوه الناس كلها في انتظامها تساهم في إنتاج معنى المدينة، كل شيء مشحون بالإشارات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ووو…، ويبقى دور المصور في أن يبحث عن النص في المكان، فالمكان نص مفتوح، إذا استعرنا أدوات أرباب السيميولوجيا، نص به المقدس والمدنس، به الحي والميت، وبه الواقعي والمتخيل، وبه المكشوف والمستور.

الخيارات لا تنتهي أمام المصور حين يريد أن يقرأ سفر المكان خارج التصورات النمطية، حين ينظر إلى عملية التصوير كممارسة ثقافية وليست مجرد لعبة جمالية مؤطرة بقواعد التثليث والتباين اللوني والخطوط والانحناءات، حين يستند الى حساسية فنية قادرة على القبض على المادي والرمزي في تمثلات المكان، لتدفق الصور الساكنة بالحركة، بالرغبة بالبوح والكشف عن المعنى المضمر والمهمل والهامشي الى جانب الجوهري والكلي والصريح.

الآن يبقى السؤال: ماذا نريد من المكان؟

نريد أن نمارس التفكير فيه، لأنه ما ا زل مادة خصبة للاكتشاف، أن نتسلى بقراءاته

لأنه الكتاب المفتوح الذي تمنحنا القراءة فيه في كل مرة معنى جديداً، ولأنه هو من يؤثث الذاكرة ويرسم لها خرائطها، كل ذاكرة هي مثخنة بالأمكنة، وكل مكان هو خزان ذكريات، وبين الصورة والذاكرة وشيجة لا تنقطع، كلاهما يحرض على الآخر.

نريد أن نكتشف مساحة جمالية جديدة في عالم التصوير، جماليات تتولد من هذا الحوار بين الإنسان والمكان، ومن هذا التحول الدائم الذي يحكم الاثنين، ويفتح أفقاً لعلاقة متغيرة بينهما، نبحث فيها عن رؤية تسكن في الحلم وفي الواقع، تشيد مبانيها على امتدادات الذات وامتدادت المكان، فكل واحد يملك سيرته الخاصة مع المكان، أي مكان، فالأماكن بمبانيها الصلبة لا تبدو صامتة، لكنها كذلك لا تهمس بوشاية واحدة لكل الناس، هي ف ا رغ من سطور الناس، هي هندسة لها من صفات البشر، آلامهم وتطلعاتهم.

اليوم نتطلع الى مبادرات تتنفس المكان فوتوغرافيا، تقرأ انحناءات وخطوط المباني بمثل ما تقرأ أشكال الحضور الإنساني في هذا الفضاء العمراني الذي يذكرنا دائماً بأنه عرضة لرياح التغيير، نتطلع الى كاميرا  شاهدة على الحياة، وفاعلة في استخراج الاستثنائي من كل ما هو عادي ومألوف، فالألفة قد سلبت منا مرات حظنا من الدهشة، حتى صار المكان شأنا عابرا لا يتخرق أحاسيسنا ليكون مادة للتأمل.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.