المقهى والمختبر
عبدالقادر وساط – المغرب
(1)
أشار إليّ الطبيبُ بالجلوس. ألقىٰ نظرة عجلى على نتائج التحاليل، ثم شرع يتفحصني من خلف نظارتيه الطبيتين، فانقبض صدري، وسمعْتُه يقول لي:
– هذه نتائجُ شخص آخر، لقد كان عليك أن تتأكد من الاسم قبل مغادرة المختبر.
أعاد إلي أوراقي. لاحظتُ بالفعل أن الاسم المكتوب عليها ليس اسمي، فقررتُ أن أعود فورا إلى مختبر “الإكسير” لتدارُك الخطأ.
المختبر لا يبعد كثيرًا عن عيادة الطبيب، فهو في منتصف شارع الموناليزا، بين كشك الحاج مسعود ومخبزة دياديما.
كان المطر قد شرع في الهطول حين مررتُ بمحاذاة الكشك، ورأيت الحاج مسعود منهمكا في وضع غطاء بلاستيكي على الصحف والمجلات المعروضة في الخارج، حتى لا تبتل. كان يفعل ذلك بخفة رجل في الثلاثين، مع أنه تجاوز السبعين من العمر.
مخبزة دياديما مزدحمة بالزبائن كالعادة، وبين الكشك والمخبزة انتصب مقهى عصري بواجهة زجاجية، تعلوها لافتة نيون، كُتب عليها : “مقهى الإكسير.”
كيف اختفى المختبر إذن؟ وكيف حل محله مقهى يحمل الاسمَ نفسه؟ توجهتُ إلى الحاج صاحب الكشك وسألته عن الأمر، فهَزَّ كتفيه وابتسم ابتسامة غامضة.
كان شعره الأبيض مبتلّاً بالمطر وكان يمسحه بكلتا يديه. قلت له:
– أمر عجيب فعلًا. قبل ثلاث ساعات فقط كنتُ في مختبر الإكسير، فكيف حدث ما حدث؟
قال بلامبالاة:
– صار هذا أمرًا عاديًا في شارع الموناليزا، تختفي محلات وتظهر أخرى مكانها في لمح البصر.
ثم شرد ذهنه بعض الشيء قبل أن يضيف مازحًا:
– الخير فيما اختاره الله، وعلى أية حال، فالجلوس في المقهى أفْضَلُ لك من إجراء التحاليل الطبية في المختبر.
بدَا لي أنه مُحقٌّ، رغم كل شيء، فاشتريتُ منه عددًا من جريدة “التجلي” وتوجهتُ مباشرة إلى مقهى الإكسير.
(2)
انتابني إحساسٌ باللاجدوى حين جلستُ بالداخل، قبالة الكونطوار، وبدأتُ أتصفح الجريدة دون تركيز.
كان المقهى خاليًا من الزبائن، إلا من امرأة تجلس وحيدة قرب المدخل. تبادلنا نظرة سريعة، بدأت تشير إليّ بيدها وتبتسم، ثم نهضتْ من مكانها وأقبلَتْ نحوي. جرّتْ كرسيًا بحركة سريعة وجلسَتْ بجانبي والابتسامة لا تفارق شفتيها. كانت في الثلاثين من العمر تقريبًا، جميلة، شديدة الأناقة، وكان شعرها الأسود الناعم، المنسدل على كتفيها، يضفي عليها جاذبية غامضة. شرعَتْ تسألني بعفوية عن أخباري، وعن السر في غيابي كل هذه الفترة، كان من الواضح أنها تعرفني جيدًا. حاولتُ أن أتذكر من هي فلم أفلح، ورنَّ هاتفها المحمول فانهمكَتْ في مكالمة طويلة مع أحدهم، ومن خلال حديثها عرفتُ أن اسمها زهرة.
بعد انتهاء المكالمة، استأذنتني في إلقاء نظرة على جريدة التجلي. أخذَتْ تقرأ العناوين، ثم أطلقَتْ ضحكة رقراقة حين وقعت عينها على العنوان الكبير بأعلى الصفحة الأولى:
“الملكة إليزابيث تفقد الوعي بعد رؤية فأر في سلالم القصر!”
جاريتُها في الضحك ثم قلت لها:
– هذا حال الجرائد في زمننا هذا.
فقالت معقبة:
– ليست الجرائد وحدها، الأشياء كلها تغيرت بكيفية غريبة!
وضعَت الجريدة جانبًا، ولبثنا صامتَيْن بعض الوقت، وأنا أجهد ذاكرتي لأعرف من هي بالذات، غيْر أنّ وجهها الجميل بقي محاطًا في ذهني بغموض كثيف، وهممتُ أكثر من مرة أن أسألها من تَكُون، لكن خانتني الجرأة، ولما رأيتها تستعد للانصراف، قلتُ لها بنبرة يائسة:
– متى أراك من جديد يا زهرة؟
صارت الابتسامة أكثر عذوبة والعينان أكثر بريقًا، وسمعتها تقول:
– غدا إن شئت، سأكون هنا في الساعة العاشرة صباحًا.
(3)
في اليوم التالي، وصلتُ قبل الموعد المحدد بقليل. رآني الحاج مسعود، صاحب الكشك، فقال لي، وهو يضحك ويشير إلى جهة اليسار بسبابته اليابسة:
– هو ذا المختبر الذي كنت تبحث عنه بالأمس!
في البداية، حسبته يمزح، ثم تبَيَّنَ لي أن الأمر جد. كان مختبر الإكسير في موقعه المألوف، بين الكشك والمخبزة. خابَ ظني كثيرًا عند رؤيته، لكني توجهتُ إليه مضطرًا للحصول على نتائج التحاليل.
في المختبر ردت موظفة الاستقبال على تحيتي بابتسامة رائقة. فوجئتُ عندما اقتربت منها، فهي شديدة الشبه بزهرة التي كانت معي بالأمس في المقهى. قلت لنفسي كأنها هي، لكني لم أعد متأكدًا من شيء. وهي أيضًا لم يبدُ عليها أنها عرفتني، إذ سألتني عن اسمي وسني، فأجبتها بحياد تام:
– عبدالرحيم الموازني، أربعون سنة.
وشرحت لها أنهم أعطوني قبل يومين تحاليلَ شخص آخر، عن طريق الخطأ، لكنها لم تعلق. تناولت بعض الأوراق ونظرت إليها بتركيز، كأنما تتأكد من مطابقة الاسم، ثم سلمتها لي وقالت بنبرة حانية:
– ما يكون باس آ سيدي.
(4)
في العيادة، أشار إليّ الطبيبُ بالجلوس. ألقىٰ نظرة عجلى على نتائج التحاليل ثم شرع يتفحصني من خلف نظارتيه الطبيتين، فانقبض صدري، وسمعته يقول لي:
– هذه نتائجُ شخص آخر.
بدا عليه الغضب. تناولَ سماعة الهاتف وقال لي:
– سأتصل بالمختبر، ينبغي وضْعُ حدّ لهذا العبث!
بقي الهاتف يرن في الطرف الآخر بعض الوقت، إلى أن سمعتُ الطبيب يقول:
– أنا الدكتور أحمد البيات، ممكن أتحدث مع المسؤول عن مختبر الإكسير للتحاليل الطبية؟
ثم رأيت أساريره تتقلص وهو يصرخ بحدة:
– مقهى الإكسير؟ أي مقهى؟ أنا أريد المختبر، أليس هذا رقم المختبر؟
وفهمت من كلامه أن المختبر قد اختفى من جديد وحل محله المقهى، فغمرني السرور ونسيتُ المرض ونسيتُ التحاليل، وغادرتُ العيادة مسرعًا وأنا أتمنى لو أطير بجناحين إلى المقهى الموعود، لعلي أنْعمُ بلقاء زهرة من جديد.