الصّوت الشّارد في قصيدة “هكذا حدّث بروموثيوس” للشاعر نصر سامي

0 516

د. سهام صائب خضير -العراق

تمهيد:

       الأصوات أهم الأدوات التي يعبر بها الإنسان عن حاجته ومشاعره ؛ لذلك تنبه العلماء إلى أهميتها وسعوا إلى دراستها والتفصيل في الحديث عليها، وركزت معظم الدراسات الحديثة على أهمية الإشارات التي يعرضها الشاعر في قصائده ؛ فأشاروا إلى عنوان القصيدة فهو العتبة التي نلج منها إلى فضاء القصيدة، لندخل إلى عالمها فلو درسنا قصيدة (هكذا حدث بروميثيوس/ إلى أبي القاسم الشابي) سنركز على ما يثيره الشاعر من تلميحات إلى قصة بروميثيوس في صنعه للبشر ومحاربته كبير الآلهة زيوس لحماية ما صنعه من حياة، وما سعى إليه أبو القاسم الشابي وإرادته الحياة، فالنقاط التي تعرضها المواقف الثلاثة (بروميثيوس، وأبو القاسم الشابي، والشاعر) يثير تساؤلات عدة ويوقفنا على أماكن عدة مهمة. ولكنني آثرت الخوض فيما تثيره الكلمات من معانٍ وما توضحه الأصوات القصيدة من غوامض الشعور انطلاقاً من عنوانها فالصرخات التي يطلقها الشاعر قد تخفى على القارئ الاعتيادي فتحتاج إلى ذلك القارئ المتعمق في دراسة الأصوات لاسيما صفاتها. ومحاولة سبر أغوار النص والوصول إلى فهم أعمق للنص قد تثير حيرة الشاعر لو اطلع عليها، فالناقد هو المرآة الصادقة للشاعر كالإنسان الذي لا يرى نفسه إلا بمرآة أو بعيون غيره.

أهمية الصوت:

           انصب اهتمام العلماء واللغويين على دراسة مخارج الحروف وصفاتها لما حملته من أهمية في الكلمة وداخل الجملة والسياق بعامة، ولكني أجد لهذه الحروف مدى أوسع مما أشار إليه من سبق فلها وقع ساحر في داخل البنية ؛ لذلك اختلفت آراء العلماء في تحديــد مفهوم تنافر الحروف وتلاؤمها وطبيعة كل حرف([1])  منهم سيبويه، وابن جني، والزمخشريّ، وابن الطحان… ممن حاولوا رصد ضوابط  شاملة لتنافر الحروف في اللغة العربية، فــــإذا اشتملت كلمة ما على تلك الضوابط تعثرت الألسن في نطقها، ونبذتها الآذان، فيتجنبها الفصحاء في كلامهم وينفر منها الشعراء في أشعارهم إلا حين يضطرون إليها اضطرارا ً ([2]) وتنبه علماء اللغة إلى أهمية الصوت وتأثيره في الشعر ((فالصوت في معظم الحالات هو مفتاح التأثيرات الأخرى في الشعر)) ([3]). ومن هذا المنطلق أجد أن دراسة الصوت وما يثيره من تخيلات في قصيدة الشاعر نصر سامي أمر لا بُدّ من الخوض فيه.

       سنحاول دراسة التشكيلات صوتية التي اعتمدها الشاعر لإيصال مشاعره، وبيان أفكاره عن طريق ما يُعرف بمصطلح (ايحاء الاصوات أو ما نصطلح عليه بتداعي معاني الحروف حيث يشكل الصوت في النسـق اللغوي منطلقا ً للوعي والأثر، فالشاعر يكرر حرفا ً بعينه أو مجموعة من الحروف، فيكون لهذا مغزى يعكس شعورا ً داخليا ً للتعبير عن تجربته الشعرية، فقد يتفوق الجرس الصوتي على منطق اللغة فيخرج عن قيد الصوت المحض إلى دلالة ٍ تـُحرك المعنى وتقويه) ([4]). وكان هذا الأمر محط أنظار اللغويين منذ القدم، وقد عقدوا مباحث عدة في ((مناسبة حروف العربية لمعانيها، وما لمحوه في الحرف العربي من القيمة التعبيرية الموحية، إذ لم يعنهم من كل حرف أنه صوت، وإنما عناهم من صوت هذا الحرف أنه معبر عن غرض، وأن الكلمة العربية مركبة من هـذه المادة الصوتية التي يمكن حل ّ أجزائها إلى مجموعة من الأحرف الدوال ّ المعبرة، فكل حرف منها يستقــل ببيان معنى خاص مادام  يستقل بإحداث صوت معين وكل حرف له ظل ّ وإشعاع، إذ كــان لكل حرف صدى وإيقاع)) ([5]) ولكل قصيدة طبقات صوتية يمكن استكشافها من خلال مجموعات صوتية قد تشكل دفقات شعورية تنبع من هيمنة الصوت وصفاته التي تبرز في البنية الصوتية للقصيدة، وعمدت إلى تقسيم صفات الحروف إلى مجاميع متشابهة على وفق اختلافها لا تقاربها، فالاختلاف أوضح في الدراسة لبيان الفرق بين صفتي (الجهر والهمس)، وهما من أكثر الصفات وضوحا ً في شعره ((فالهمس هو ضعف الاعتماد في المخرج حتى جرى النفس مع الحرف والجهر قوة الاعتماد حتى منع النفس أن يجري)) ([6])، وحروف الهمس هي: (السين، التاء، الكاف، الفاء، الحاء، الثاء، الهاء، الشين، الخاء، الصاد) وحــروف الجهــر ما عداها  ([7]). وقد هيمنت حروف الجهر على القصيدة بصورة جلية من بدايتها فأصبحت قصيدة مجهورة الأصوات بحق فجاء صوته معلناً ما يختلج صدره من أفكار:

        لا الليل ليلي

        لا الهواء هوائي ([8])

   فالمقدمة تخلو من أي حرف من حروف الهمس، وقد بدأت بالظهور في السطر الشعري الثالث حتى نهاية القصيدة، وتبارت مع حروف الجهر في الظهور، ولكن حروف الجهر كانت الأقوى، والأكثر حضوراً في القصيدة، ولو قرأنا هذا المقطع سنتأكد من هيمنة حروف الجهر:

        لا الجنُّ خبأ نارَهُ بسمائي

         يحيا أبو تّمام في لغتي التي

         شطآنها تمتدّ صوبَ أبي العلاءِ

         لكنني أحيا

         ونوّارُ الكلامِ يحيط بي

  نلحظ صراع الشاعر بين واقعه الذي يحاول إخفاءه، وبين لغته التي تحاكي الزمن الماضي زمن أبي تمام وأبي العلاء ولكنها يصارع بين الظاهر والمخفي، بين الواقع والخيال، بين الماضي والحاضر، فهو بين عالمين مختلفين يعيشان في لغة واحدة غامضة استطاعت أنْ تكون بيئة ملائمة لحياة أبي تمام الذي يهوي الغموض، ويتخذه مذهباً في حياته، لكن لا أحد يدرك مدى لغته إلا من يقدر على فهم أبي العلاء وفلسفته في الحياة وزهده فيما يرغب الناس فيه، ونجد الأمر عينه حاصلاً في قوله:

        لا يستطيع اللّيل غلق نوافذي

         فنوافذي

         بأصابعِ الشّعراء

       تبنى

       وتــَـكتشفُ في القصائدِ عالماً

        في ضوئهِ

        وتتلعّبُ الأفعالُ بالأسماءِ ([9])

     فهذا العالم الشعري الذي بناه وجعل له نوافذ مفتوحة دائماً، وجعل فيه أصواتاً مجهورة بما يراه حقاً، وهو الدافع الرئيس لسيادة حروف الجهر داخل البناء الصوتي في القصيدة محاولاً في تلك السيادة إشاعة السيطرة على ذهن المتلقي وإلزامه بما يقول، وأستطاع الشاعر أن يسخر الحرف في السطر الشعري من خلال نغمات الموسيقية تنوعت بين العلو المتمثل بالجهر والانخفاض المتمثل بالهمس لتمثل مشاعره ومحاولاً بذلك  ((استغلال المعطيات الصوتية… لتمتين الصلة الكيانية بين الصوت والمعنى كخصيصـة ملازمـة للوظيفة الشعرية… وللسياق وحده يخضع التوجه المعطى للقدرة المشتركة بين الشاعر وقارئه في تصوير الأصوات منتجة المعاني))([10]).

     وعادة ما تظهر في شعر شاعرنا صفتان متناقضتان في بنية القصيدة الصوتية هي صفتا: الشدة، والرخاوة، ثم نظهر التوسط بينهما ((والشدة هي قوة الاعتماد، ولزومه موضع الحرف حتى منع الصوت أنْ يجري معه، والرخاوة ضعف الاعتماد في المخرج حتى ربما – إن شئت – اجريت الصوت)) ([11]). وحروف الشدة هي: (الهمزة، الجيم،الدال،التاء،الطاء،الباء، القاف، الكاف)، والرَّخاوة فيما عداها إلا سبعة أحرف وهي: (النون، الواو، اللام، الياء، العين، الميم،الراء) فإنها بين الرخاوة والشَّدَّة ([12]). تنماز صفة الشدة والرخاوة من غيرها من الصفات الصوتية بأمرين هما:

 الأول: لعل هاتين الصفتين من أكثر الصفات الصوتية تميزاً نظراً لما تضمه من لزوم موضع الحرف حتى يصعب مع الصوت أن ينتقل إلى موضع آخر، ولذلك أصبحت صفة الشدة من أكثر الصفات الصوتية التي يشعر الناطق بها أكثر من السامع بينما في الحال الرخاوة يجري الصوت في نطقه حتى يكون أسهل مما سبق، فيكون لها قدرة صوتية مميزة في أذن السامع، فهو أكثر تأثير صوتياً من الشدة، بينما نجده لا يكلف الناطق جهداً كما في حروف الشدة فهو أسهل على الناطق من السامع الذي يتلقى الصوت بسرعة تتوافق مع سرعة النطق.

آخرهما: انعدام وجود ذكر لصفة تتوسط بين صفتين مختلفتين في أي كتاب صوتي مختص بالأصوات العربية  مثل صفتا الشدة والرخاوة، فمثلاً لم أجد صفة تتوسط بين الجهر والهمس. ولعل وجود أصوات تتأرج بين صفتين مختلفين هو أمر غريب يكسب الصوت ميزة تختلف عن باقي الأصوات الباقية.

    تبرز عن طريق هاتين الصفتين وما يتوسطهما من حروف ظاهرة غريبة في قصيدة الشاعر وهي تقارب أعداد هذه الأصوات في قصيدته فنستنتج من ذلك بناء صوتياً يحاكي عالم الشاعر القاسي وطباعه الهادئة التي تحاول التأقلم في عيشه بين القسوة واللين، وبين الشدة والرخاوة لذلك شكّل الضمير (أنا) بؤرة معنوية وصوتية تمثلت في عالمه الذي جعل نفسه الشاعرة محوراً له:

          أنا عشبةُ الخلدِ التّي لم تستطعْ

          كفّ الرّدى إنباتها بسمائي

          شمسي معي

     وبراحتِي لغتي التّي تمشي

     وتنهض في سماء ردائي   ([13])

   فلو انمعنا النظر في حروف الشدة والرخاوة، وما يتوسط بينهما لوجدنا الكلمات الأولى من هذا المقطع في السطر الشعري الأول والثاني تميلان إلى الشدة لا أكثر من الرخاوة بينما بدأت الأمور تتغير في السطر الثالث فاختفت حروف الشدة ؛ لتحل محلها حروف الرخاوة، وما يتوسط بين الشدة والرخاوة، أما في السطرين الشعرين الأخيرين نجد تقارب أعداد الحروف في هذه الصفات فلو حاولنا تقييم هذا المقطع من استعمال تلك الصفات ؛ لخرجنا بنتيجة تقارب أعداد الحروف التي تحمل هذه الصفات على الرغم من سيادة بعضها في سطر، وضمورها في آخر. ولعل قسوة العالم ورغبة الشاعر بالحياة فرضتا عليه هذا النوع من الأصوات التي مثلت خير تمثيل ما يمرّ به من ظروف نفسية متأزمة.

      أكثر الحروف وضوحاً في السمع هي حروف الإطباق ؛ لأنها تحتاج إلى قدرة نطقية للفظها بطريقة تحقق مكانتها بين الأصوات فهي تحدث عند ((ارتفاع طائفة من اللسان الى الحنك ؛ فيحصر الريح بينهما، والانفتاح ضد ذلك، وهو انخفاض تلك الطائفة ولا يكون هنا حصر الريح)) ([14]) وحروف الاطباق: (الظاء، الطاء، الصاد، الضاد) وحروف الانفتاح فيما عدا ذلك ([15]). كانت الأصوات التي تحمل صفة الانفتاح أكثر الأصوات من نهاية العدد ؛ فهي تتغلب على حروف الأطباق بنسبة 95% وهذه الأمر يجعل أصوات القصيدة منفتحة صوتياً، فلها ميزة صوتية ونطقية تجعلها طاغية على السمع،  وعلى الرغم من ذلك نجد حروف الإطباق في مقطع قد شكلت بؤرات صوتية ينحصر الريح فيها نتيجة ارتفاع طائفة من اللسان مما يؤدي إلى جهد مضاف إلى الأصوات يشعر القارئ به مما يؤدي إلى إطالة مدة نطق هذا السطر الشعري مثال ذلك:

         لا فضتي تكفي لاحتضن الصّباح

          ولا الفؤاد بغيضهِ المترائي

         أنأى لأصعد نحو صوت حبيبتي

        حرّاً كخيل الرّيح في الصّحراء       ([16])

      (فضتي، احتضن الصباح، بغيضه، لأصعد، صوت، الصحراء) هذه الألفاظ التي ضمت في بنيتها الصوتية صوتاً من أصوات الإطباق جعلت  حروف الانفتاح قوة مضافة من خلال فكرة أن الضد يظهر حسنه الضدُ، فقدرة هذه الأصوات على حبس الصوت حين النطق جعل لنطق حروف الانفتاح قدرة على الإفصاح عما يجول في خاطر الشاعر من توق نحو حرية ومشاعر جياشة نحو الحبيبة.

      احتلت صفة الاستعلاء مكانة في شعر الشاعر وأظهرت لنا طبقة صوتية أخرى حاول الشاعر استعمالها حينما عبر عن ذاته في مقابل محيطه. والاستعلاء هو ((علـو الصوت – عند النطق به – إلى الحنك، فينطبق الصوت مع حروف الإطباق، ويستعلي في الغين والقاف، وغير مطبق. والانسفال ضد ذلك، وهو انخفاض اللسـان والصوت الى قاع الفم)) ([17]). ونجد لهذين الصوتين مكانة (الغين، والقاف) جعلت لهما صفة تختلف عن الأصوات الباقية وجعلت لبروز الصوت فيهما علواً في النطق وتركيزاً عليه حين سماعه مثال ذلك:

     قلبي منارات الدّنى وأصابعي

    عرق الشّموس ومنهل الأضواء       ([18])

 استطاع الشاعر أن يركز اهتمامنا على بداية السطر الشعري عن طريق استعماله الذكي لصوت القاف الذي شكل لنا ارتفاعاً في الصوت في بداية الكلمة في الشطر الشعري الأول (قلبي) ومن ثم استعمله في نهاية الكلمة في السطر الشعري الثاني (عرق الشموس) التي كوّن مع ما بعدها كياناً واحداً تمثل في المضاف، والمضاف إليه ؛ مما أعطى لسطر الشعري هيبة تمثل في علو الصوت مقارنة مع ما بعده من انحدار الصوت متمثلاً بصفة الانسفال، وهي صفة يهبط معها اللسان إلى قاع الفم، مما يجعلنا نتأنى في لفظها فهذه الأصوات قد حددت حركة اللسان إلى الأسفل وبذلك جعلتنا نتأنى في لفظها، وسبر أغوارها، فاللغة كما هو معروف تتحدد في السرعة والمسافة أي سرعة النطق والإجابة والفهم العميق للكلمة، وكل هذه الأمور تعود بالنفع على المعنى الذي يمثل أعماق الشاعر، ولعله حاول بذلك التركيز على الذات الإنسانية التي تعدّ الأساس في الكون.

     من الصفات البارزة لأصوات صفتا الصفير والتفشي. أما الصفير فتعني حدَّة الصَّوت، كالصَّوت الخارج عن ضغط ثقب وحروف الصفير هي الصّاد والسّين والزّاي([19]).  أما التفشي فخلاف الصفة السابقة، فهـــو انتشار خروج الرِّيح، وانبساطه حتى يتخيّل أن ّ الشِّين انفرشت حتى لحقت بمنشأ الظـّاد ([20])، ويقع التفشي في حرفين هما  الشين والثاء ([21]). حدة الصوت وانتشار الصوت هما الأساسي في صفتا الصفير والتفشي. ولعل هاتين الميزتين تجعل للصوت صفة مضافة لما سبق من الصفات كالجهر والهمس والرخاوة والشدة… إلخ ولكننا يجب أن نجعل لهذه الميزتين مكانة في دراستنا كمكانتهما في النص الشعري، فعلى الرغم من كون الحرف يمتلك أكثر من صفة، إلا أن كل صفة من هذه الصفات تؤدي دوراً مهماً في السطر الشعري يتمثل في إغناء البؤرة الصوتية، وتركيز المعنى، وجذب اهتمام السامع مثال ذلك نظرته لما يمثله الحرف من قيمة:

        الشمس تشرق في النقاط وفي الحروف ([22])

     وهذا الأمر يدلنا بوضوح على قدرة الشاعر، وفهمه العميق لما يحمله الصوت من معانٍ وخير دليل على ذلك استعماله لفظة (الشمس) ولفظة (تشرق) التي ضمتا حرفاً من حروف التفشي، وهو الشين، فهذا الحرف حمل لنا صوتاً انتشر في الفم كانتشار اشعة الشمس المشرقة، فحينما نلفظه نشعر بالهواء وقد انتشر في جهازنا النطقي كانتشار أشعة الشمس في الكون، وهذا الأمر نستشعره في حروف كلماتنا، وهذا ما أراد الشاعر أن يسلط الضوء عليه. فأصواتنا العربية ليس أصواتاً تطلق في الهواء من غير معنى، بل هي أصوات تحمل دلالات تبين أصالة هذه اللغة واعتزاز الشاعر بها وبعروبته.

       صفة الاستطالة، هي ((تمدّ عند نبات الضّاد للجهر والاستعلاء تمكنها من أول حافة اللسان إلى منتهى طرفه ؛ فاستطالت بذلك فلحقت مخرج اللام)) ([23]) وهذه الصفة في هذا الحرف قد اكسبته تميزاً حين نقطه تمثلت في مكانته التي احتلها في اللسان حين نطقه، مثال ذلك قول الشاعر:

          لو كلَّ نجمِ هَا هنا في ظلمة

          وأراد ضوءاً  ها هنا أضوائي

         أضيء حتّى الضوء أرضعُهُ بحبرِ

        ليس تعرفه الملائكُ في السّماءِ    ([24])

  شكل صوت الضاد بنية صوتية مميزة أضفت نغمة ومعنى على ما يحاول الشاعر عرضه من مكانته، وقدرته الشعرية التي أشبعت ضوءاً شارداً يضيء الظلمة وتتعرف عليه الملائكة.

           ومن الصفات التي تميزت بها صوت اللام صفة الانحراف، وتعني ((خروج من صفـة إلى صفة فاللام لم يعترض في منع خروج الصّوت اعتراض التشديد، ولا خرج معـــه الصّوت خروجه مع الرّخو والرّاء انحرف عن مخرج النّون الذي هو أقرب المخارج إليه إلى مخرج اللام))([25])  شكلت اللام في قصيدته بداية لمقاطعه الشعرية فجده يقول في بداية قصيدته:

           لا الليلُ ليلي ([26])

    ومن ثم كرر هذه العبارة في مقطع آخر فقال:

           لا الليلُ ليلي لا الهواءُ هوائي ([27])

    وعمد إلى هذه العبارة مرة ثالثة فقال:

           لا الليلُ ليلي لا السّماءُ سمائي   ([28])

       ولولا حلاوة هذا الصوت، وقدرته على التعبير عن أعماقه ؛ لما كرر الشاعر هذه العبارة ؛ ليجعلها محوراً لقصيدته التي مثلت جيلاً كاملاً بصوت الشاعر الذي حمل هموم عصره وجيله الذي عاني ما عاناه من آلام وحرمان وجور.

       صفة التكرير وتعني ((تضعيف يوجد في جسم الرّاء لارتعاد طرف اللّسان بها، وتقوي مع التشديد، ولا يبلغ بـه حدا ً يقبح)) ([29])هذا الحرف  فهو  ((الحرف الوحيد الذي تتردد فيه حركة اللسان في سقف الحلق، فكأنما  تكراره  في البيت يوحي بالتوتر، والاضطراب والتردد بين امواج الأفكار المتلاحمة)) ([30])، على الرغم من كون هذا الحرف يمثل مطية الشعراء  مثّل نوعاً من السحر في نطقه على ألسن الغانيات ولا أعجب من أهمية وجوده في القصيدة، ومكانته التي تخلب الألباب:

         أنا فضةُ الأسماءِ

         برقُ سلامِها

         فيروزُها المنثورُ في الآلاءِ ([31])

      تمثلت الرقة في وصف نفسه فقد أختار الفضة، والمعروف عنها جمال صياغتها وضم هذه الجملة إلى الأسماء، وكأنه جمل من اسمه اسما يفيض بالرقة، وجمال الصياغة وعمد إلى استعمال كلمات تحمل حرفاً يتردد الصوت في (برق، فيروزها، المنثور)  فهو حرف يحمل في جسده من التكرار ما يجعلنا نتصنع الرقة رغماً عنا لما يحمله من اضطراب، وتردد أمواج الصوت وأكمل هذا الأمر في السطر الأخير من هذا المقطع في قوله (فيروزها المنثور) فلم يكتفِ الشاعر برقة المعنى بل أسنده برقة المبنى فالفيروز معروف بلونه المميز، ومكانته بين الأحجار فوصف نفسه به فهو العربي الأصيل كأصل هذا الحجر الخام الذي لم تمسه أيدي الصياغ.

    استعمل الشاعر أسلوب تكرار الحرف عن طريق التشديد، وهذا الأمر يصعد من نغمة الكلمة الصوتية، أي ((زيادة الصوت على الفعل الثلاثي ليكون رباعيا ً إنما يمَّثل تقوية لدلالته، فضلاً عن تمُّخض الجانب الإيقاعي الذي يصعد من قوة الشحنة التأثيرية، بفعل تصاعــد طاقة التعبير))([32]). استغل الشاعر هذه الميزة في البنية الصوتية للكلمات العربية ؛ ليشكل ضغطاً صوتياً ؛ لكوّن دلالة خفية فيها أنواع التأكيد، والتجلي لمشاعره التي وجدت من التشديد بؤرة صوتية قوية التي تدل على التركيز على حرف ما من بيت حروف السطر الشعري، وبذلك جعلنا ننصت إليه فرغبته النابعة من تشديد الحرف ولاسيما في نهاية القصيدة أوصل لنا فكرة تمسكه بالآراء، والأفكار التي تعرضها القصيدة. ولو قرأنا نهاية القصيدة سنجد مصداق ما تعلق به قلب الشاعر:

      قَلبي هنا في تونسِ الخضراءِ

     يمتد في الزّيتونِ في الأعنابِ

     في حوضِ الشّتولِ

     وفي المدى المتنائي

     قلبي الذّي في نبضه تجدْ

     البلادُ التّونسيّةُ كلّها

     من سينِها للتّاءِ ([33])

  فالتشديد شكل بؤرات صوتية تناثرت في السطر الشعري من المقطع الأخير من القصيدة ؛ لتبين اعتزاز الشاعر بوطنه (تونس الخضراء) التي شكلت لديه جغرافية خاصة فلم يقل من الشمال أو الجنوب، أو من الشرق إلى الغرب، إنما قال من التاء إلى السين فكانت تونس خريطة خاصة ظهرت عند الشاعر بطرقة ملفتة للانتباه.

        شكل الصوت في قصيدة الشاعر نصر سامي بناء معنوياً تسلل من بين أصابع الشاعر ؛ لتعبر عن مشاعره رغماً عنه ولكنه لهذا الأمر واعياً لما امتلك من إمكانيات لغوية وصوتية وفرتها له أعوام الدراسة، فهو بحق الصوت الشارد الذي نطق بمعاناة جيله من الكتاب ومحاولة إثبات وجوده في عصر غير محدد المعالم ونجد في قصيدته طبقات صوتية تمثلت بصفات الأصوات التي جاء مرة مجهوراً، ووأخرى متفشياً، وقد تنتقل هذه الأصوات لتعبر عن صفات أخرى تمثل نغمة مضافة فتمتد لتصل إلى أقصى درجات الموسيقى الصوتية ؛ لتكوّن قيمة مضافة للمعنى المقصود.

([1]) ينظر، الطريحي، د. محمد حسين محمد كاظم، البنية الموسيقية لشعر المتنبي، رسالة ماجستير، كلية التربية، جامعة بغداد، 1990: 2ـــ 5.

([2]) ينظر أنيس، د.ابراهيم، موسيقى الشعر، المطبعة الفنية الحديثة، ط4، 1972 م: 31.

 ([3])إ. أ. رتشاردز، مبادىء النقد الأدبي، ترجمة وتقديم د. مصطفى بدوي، مراجعة: د. لويس عوض، مطبعة مصر، القاهرة ـــ مصر، 1961 م: 192.

[4])) هلال، د. ماهر مهدي،الاسلوبية الصوتية في النظرية والتطبيق، مجلة آفاق عربية، كانون الأول، العام (17)، 1992 م: 73.

[5])) الصالح، د. صبحي، دراسات في فقه اللغة، منشورات المكتبة الأهلية، بيروت، ط2، 1382هـ ـ 1962 م: 148.

[6])) ابن الطحان، ابن الاسبغ السماتي الاشبيلي المعروف بابن الطحان، تحــ: محمد يعقوب تركستاني،  مخارج الحروف وصفاتها، مركز الصف الألكتروني، لبنان، ط1، 1404 هـ ـــ 1984م: 93.

[7])) مخارج الحروف وصفاتها: 87.

[8])) سفر البو عزيزي: 37.

[9])) سفر البو عزيزي: 38.

[10])) اللغة الشعرية (دراسة في شعر حميد سعيد )، محمد كنوني، طبع ونشر دار الشؤون الثقافية العامة (آفاق عربية )، بغداد ـــ العراق، 1997 م: 137.

[11])) مخارج الحروف وصفاتها: 93.

([12]) ينظر مخارج الحروف وصفاتها: 88.

([13]) سفر البو عزيزي: 38.

[14])) مخارج الحروف وصفاتها:93.

[15])) مخارج الحروف وصفاتها: 89.

[16])) سفر البو عزيزي: 39.

[17])) مخارج الحروف وصفاتها: 94.

 ([18])سفر البو عزيزي: 40.

[19])) مخارج الحروف وصفاتها: 91.

[20])) م. ن.: 94.

[21])) م. ن.: 91.

[22])) سفر البو عزيزي: 40.

[23])) مخارج الحروف وصفاتها: 94ـ 95.

([24])سفر البو عزيزي: 40.

([25]) مخارج الحروف وصفاتها: 95.

[26])) سفر البو عزيزي: 37.

 ([27])م. ن.: 39.

[28])) م. ن.: 40.

([29]) مخارج الحروف وصفاتها: 95.

[30])) خضر، د.فوزي، عناصر الإبداع الفني في شعر ابن زيدون، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للأبداع الشعري، الكويت، 2004 م: 242.

[31])) سفر البو عزيزي: 37.

([32]) البنى الأسلوبية (دراسة في أنشودة المطر للسيّاب ): 137.

[33])) سفر البو عزيزي: 41.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.