شعرية العوالم

تهويمات عن كتاب خالد عبدالزهرة سلة الرهونات

0 364

عادل مردان – العراق

مشارق ومغارب لن نذهب إلى تقسيم العوالم على أربعة أو أكثر كما يذهب التصوف. فما أعقدها إذا تدرجنا من الكواركات السابحة في اللامرئي، إلى عالم المجرات والسدم مرصودة من المواقع بالتلسكوب العملاق. كان في فضاء المتون عندما اجترحت المخيلة مفهوم العشوائية أو اللاانتظام بينما يرصد خبراء الإنتروبيا (تعني التحول) عشوائية الكون السائدة. أما في الكونيّات فكان الشاعر القلق يهجس ذلك التناسق العجيب لتجاور الأكوان؛ فما بالك بالعوالم متناهية الصغر السابحة في فضاءات الأعماق السحيقة.

في كتاب الرهونات تميز العين العارفة ثلاثة عوالم: الشذرات، والإيكولوجيا، والإيروتك ضمن مفهوم الشعرية. إذ يتخيلها شاعر الانطولوجيا بكل دقائقها وتفاصيلها.

في مبحث الشذرات يقول المعجم بعدها: “الشذور قطع من الذهب يلقط من المعدن من غير إذابة”، وأقدم من زاول فن اللمح الفيلسوف الباكيّ، ومن بعده من قال للديّان قفْ إلى كانيتي. تعد الكتابة الشذرية لمحية مختصرة وموحية، يحملها الفكر التسارري الى مغاور الوجود.

الشذرة قريبة إلى التوقيعة، وهي فن عربي قديم ، يتركّب من سطر واحد، تمتاز بالحيوية والشعور الصادم والغرابة: (هراطقة الثعابين تكتب تحت الأغطية لا يتوفر لنا التأمل في الأشياء الخالدة تمرحين بقطع أجنحة الذباب – على رأسك الحجري تنساب قارة طازجة – الكذبة العظيمة تخلق العدم – قلبي المحطم يجمع – الغبار الموت سحر الأبدية – الإنسكلوبيديا العظيمة تنفر في ذهني).

الإيكولوجيا في الكتاب تتنوع بعدة أنساق، فتتكشف علائق الأشياء عاكسة الرؤى الفلسفية لتوق الرائي إلى ما يحيطه من موجودات الطبيعة، حيث تعمل على توزيع مفرداتها المتشعبة في لسوع الستون، وسمو براعمها تحت شبكة التوجه البيئي الذي يعتبر الأحدث في تحليل منظومات الخطاب. الأشياء في صيرورة دائمة بينما تسوح ظلالها مبثوثة على البياض: الحيوان النبات المناخ مواقيت الزمن وتراث الجيولوجيا.

يتروحن الشاعر المسحور مع العوادي خاصة الحجارة، أليس هو حطاب الغابة المفترضة؟: (العشب الجاف في البقع العالية من ريف رمادي — ثمة حلازين مقوسة فوق الأرضية في غرفة الضيوف تتطلع إلى فئران — في يوم ما ديك راح يلتقط حبّات رمانة انكسرت إلى شظايا — ذرائعيون بقواعد عريضة مصنوعة من البلاستك — قدمي في المحيط ولديّ سبع عشرة حاسة وعشت عشرة آلاف سنة — عودي يا وعولي الصغيرة الغابة التي ورثتها عن أجدادي أخذت تسوّف حياتي.)

في عوالم الإيروتك يتجرد الجسد من أغلاله، الغرض وضع الأعضاء النابضة في اللحظة الحاضرة لتحرير الكائن المغلول، إلى أبعد نجمة في سماء اللازورد، بجناحين هما النرجسي والرؤيوي حيث الفضاء ينفتح إلى فضاءات، إذ كان الوجه المعير بأيقوناته التسع، ثم تشق اللغة الباهرة طرقاً ملتوية إلى نبع الطيّات التي تخلصت من أدرانها ( بختال المرء بخصلة جانبية من شعر أسود — ثم أريتني صورة بنات إبليسيات تحت سقيفة تفسر معتقداً قبلانياً تصحبه موسيقى القرب الجبلية — الكمنجات تصدر لحناً بهيجاً أتعطيني الحلوة أم أقوم بخدعة — أيها الكلب بكل قوة يا أنا كلانا يملك وجهًا مسطحاً وفارقًا آخذًا بالتحلل — تبدأ الشفاء تنتهي الأصابع أتحب شعري الأسود لما يكون مثل جناحي غراب ).

إنمازت نصوص (سلة الرهونات) ، بالحذف والمنتجة والتقطيع، وكثر فيها المسكوت عنه، يؤكد فاليري: القارئ يكتب النصف الباقي. هناك مرح وفنطازيا، إذ التزم الشاعر، بالشكل الكتلي، وهو نسق قصيدة النثر، ثم التصور الفلسفي، لشخصيات الزمن الغابر: ( کرشنا – سقراط – ديوجين – دون كيخوته …) . وباختلاف معانيها عجت صفحات الديوان، بكلمة – حياة – السرد الشعري مضطرب ومتوتر، أيضاً الغموض لبوس يعف النصوص، ويحافظ على ديمومتها. أحيانا يشيع الحوار المسرحي، تقطيع الحروف، وتغير حجمها طباعياً. أما التكرار فقد عزز الإيقاع، وحافظ على البداهة والألفة – ثلاثة نصوص تستوقفني: الأول – هري – نص يسوده التكرار المرح، وهو سياحة في فضاءات الداندي؛ الثاني تسلسل زمني، لحياة قصيرة، للعابر الهائل بنعال من ريح؛ والثالث إنصات لموسيقى خالدة، حينما يتحول الطقس إلى رعب. الختام كان بنص (القلعة) فهي مكان الشرود والتحصن، عندما تضج العوالم بالفوضى لا يشبه الرائي إلا نفسه، مأخوذا بفكر الشعر، تحت مظلته ينمو نزوعه المستشرف، وبعراقة المستغني، يتأمل العالم، من تلك القلعة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.