واحد آيسكريم لأبي

1 773

يوسف علي الشاعل – السعودية

دلف العم عبد الوهاب للمطعم الشهير.. أصابه الدوار للحظة من الازدحام المشوب بضوضاء الزبائن. ظن العم الستيني أن شراء وجبة غداء لابنته الحبوبة قمر من أيسر أعماله اليومية، إلا أن المشهد أفصح عن العكس، وأن مجهودًا إن لم يكن جهاداً لابد من بذله بين حيطان هذا المطعم الشهير. كله لأجل القمر قمر ولن يخيب ظنها بنشرها صورة وجبتها لزميلاتها كما يفعلن هن بالمقابل. حدّث العم عبدالوهاب نفسه مسليًا حاله بحاله، وهو يقف في نهاية الطابور المتعرج الذي لا يخلو من فوضى: “ذهابي بالأمس للفحص الدوري لم يأخذ مني ما سيأخذه لأجل وجبة؛ على الأقل كانت سيارة سامي تستحق المشقة فلم يترك جزء منها دون إعطاب أو تلف”.

جلس العم أبو سامي – ولن ندعوه لاحقاً بهذا اللقب فشهرته بين الناس لقبه البسيط بساطة صاحبه: العم عبدالوهاب أو وهاب – في المساء على عتبات العمارة المهجورة المجاورة لمنزله، حيث يستمتع منذ صغره في تأمل الأماكن المفتوحة، ويتسلى بالحديث مع المارة والمعارف، سواء أكان عامل النظافة الذي يمضي يومه يتسكع بالحارة لجمع الخمسات والعشرات من الريالات أكثر من جمعه للقمامة، أو مع الضابط المتقاعد الذي عاصر ترقياته من ملازم حتى تقاعده عميدا، ويمتد تواصل العم عبدالوهاب لكافة أطياف الحي؛ ومنهم الشيخ عبدالله الشاب الذي يؤم بهم الصلاة في المسجد، ويكتفي العم بمصافحته وتحيته دون أن يزيد؛ تقديراً لمكانته الوظيفية كقاضي. والعم خبير بالناس يحادثهم وفق ما يقبلون منه، حتى جارته الأرملة أم فواز لا يتركها بحالها ويطلبها للزواج مرتين في اليوم: في الصباح عندما يلتقي بها في باب مستوصف الحي ليقيس كل واحد منهما مستوى السكر، ويطلبها للزواج عصراً عندما تذهب لشقة ابنتها في العمارة المقابلة لتبقى بالقرب من طفلها الصغير حتى عودة ابنتها من النادي الرياضي. وتجيبه أم فواز بعبارات تهكمية محاولةً استفزازه كقولها:

-ماذا أستفيد من رجل ينام العشاء!

 فيعبر عن ردة فعله بضحكة بريئة كبراءة طفل معلنًا من خلالها اللامبالاة.

ومع حسن علاقته بالجيران وتودده لهم، إلا أن العم وهاب حصر حياته في أسرته؛ فسعادتهم سعادته وراحتهم راحته، ولم يخرج يومًا لمسامرة صديق أو مجالسة قريب إلا في المناسبات وتلبية الدعوات.

أمضى العم وهاب عمره موظفاً في الإدارة المالية بمديرية الصحة. لم ينل شهادات في مجال عمله فقد التحق بالوظيفة بشهادة الثانوية العامة؛ إلا أنه كسب المهارة بالخبرة لاحتكاكه وظيفيًا برؤساء متمرسين بالشؤون المالية، وحرم نفسه الكثير من الدورات والترقيات بمواقع بعيدة عن مقر الأسرة ليبقى بجوارهم؛ يقضي حوائجهم ويذهب بالأولاد للمدرسة.

وكثيرًا ما قيل له إنه يستحق راتبًا أعلى وفق خدمته لو قبل ما عرض عليه من دورات وترقيات، وكان يرد ممنيًا نفسه بأنه قانع بحاله، ولو ذهب بعيدًا عن بيته لتكبد خسائر وتحمل ديون. مع أنه بعد إحالته للتقاعد تبين له صحة ذلك؛ فرفاقه بالخدمة يزيدون عليه بما يقارب ألف ومائتي ريال من الراتب التقاعدي. وكان العم وهاب شديد الحاجة لأي زيادة؛ فلا مصدر آخر لدخله غير الراتب، لكنه سرعان ما يردد عبارة يرتاح لها: “الحمد لله، والقناعة كنز لا يفنى، ويكفي أن وفقني الله لامتلاك هذه الشقة الفسيحة أستر بها أسرتي”.

تناولت ابنته قمر وجبتها الثانية من المطعم الشهير بعد أسبوع من الوجبة الأولى، وكان الوالد وهاب يجلس بالقرب منها في شعور مزدوج؛ فهو سعيد لسعادة قمر ذات الأربعة عشر عاماً وهي تأكل حبات البطاطا وتحتسي المشروب، وتتابع برنامجها المفضل بالجوال الذي اشتراه لها بابا بالأقساط؛ أما الشعور المعاكس فالحسرة على الأربعين ريالًا التي اشترى بها وجبة الطعام، وكان على وشك التوجه لمحطة الوقود لتعبئة السيارة التي تضيء فيها إشارة عداد الوقود محذرة من قرب نفاده؛ مع أن مؤشر الوقود اعتاد ذلك، فباستثناء الأيام الأولى للشهر لا يفارق المؤشر منطقة التحذير تلك. ماذا سيفعل العم وهاب في صباح اليوم التالي حتى يقل أولاده للمدارس؟

دعا بصمت “فرجها يارب كما في كل مرة”.

أذن المؤذن لصلاة المغرب، فنزل للمسجد من فوره. ما إن رفع رأسه بعد أن أولج حذاءه في الدروج بمحاذاة الباب الرئيس؛ إلا والإمام الشيخ عبدالله بمواجهته واقفًا بالباب ويبدو وكأنه خارج من المسجد.

بعد السلام…

-سلامات يا شيخ عبدالله كأنك طالع.

رفع الشيخ يده اليمنى ممسكاً بظرف ورقي ملفوف بشكل مستطيل، وكأنه يقول هذا الذي أخرجني.

-ياعم عبدالوهاب معي مبلغ من زكاة أحد التجار ويرغب توزيعه على المحتاجين قبل شهر رمضان، وتعلم أن رمضان على الأبواب فأرجو أن تساعدني في توزيعه كونك من أهل الثقة والأمانة ومن أهل الحي العارفين بالمحتاج فيهم أكثر مني.

-لكن لما تكلفني دون غيري بهذه المهمة وهناك آخرون..

قاطعه الشيخ عبدالله..

– يا عم كما تشاهد للتو خرجت من المسجد، وقد قررت أن أستعين بأول شخص أقابله ممن أثق به، وأعرف أنك والعمين سالم ومحمد أبوعمر تأتون مبكراً وقد سبقتهم أنت، ولك أجر إن شاء الله. تذكرت يا عم عبدالوهاب دائما ما كان التاجر يردد أبلغوا من يوزع الزكاة أن له منها نصيب ألف ريال، وإن كان له عائلة كبيرة لا مانع أن يأخذ الضعف، وأنت مكلف بتوزيعها وأصبحت من العاملين عليها.

في تلك الليلة وقد اطمأن العم وهاب أن موضوع الوقود قد حُل زال عنه القلق، فذهب وملء خزان سيارته من المحطة. وقعت عيناه على محل البنشر المجاور بأرففه العلوية حاملة إطارات سيارات بأنواعها؛ تذكر أن إطارات السيارة بحاجة تبديل فكثيراً ما ضرب أحدها في عز الحر وأتعبه بتبديله؛ فاشترى طقماً كاملاً من الإطارات متوسط الجودة واستبدله بالقديم، واحتفظ بالمبلغ المتبقي لليوم الثاني مقرراً شراء وجبات العشاء من مطعم ابنته قمر المفضل لكل أفراد العائلة.

دخل العم وهاب على الأسرة وهو يحمل في كلتا يديه الوجبات، واشترى لنفسه أيضاً وجبة بعد أن شعر برغبة في تذوق ما يقدمه ذلك المطعم، فرحت الأسرة وتقاسمت الوجبات وعاد العم وهاب للشارع ليبحث عن موقف لسيارته التي تركها أمام باب العمارة متعجلاً حمل الطعام للبيت، ولم يجد موقفاً كالعادة في هذا الوقت من اليوم فأوقفها قرب المسجد، وعاد منتشيًا ليحتفل مع أسرته بمناسبة اللامناسبة فقط يحاول العم أن يعيش فرحة أولاده. اتجه للطاولة التي سبق ووضع عليها الطعام ومد يده للكيس وإذا به فارغ.

-أين الوجبة التي في الكيس؟

-بعثتها أمي لجارتنا أم أحمد..؟ أجابت ابنته الأصغر حلا.

-لماذا؟

وتبين للعم وهاب إجماع الأسرة على أنه أحضر بالخطأ وجبة إضافية وبعد محاولات من بعضهم في تقاسمها؛ قررت الأم بعثها لجارتها التي تعيش وحيدة تعاطفاً مع حالها ورغبة في إسعادها.

غضب العم وهاب وحاول الصراخ وسط أسرته معلناً أن الوجبة لم تكن خطأ بل كانت صواباً اشتراها لنفسه؛ فهو مثلهم يجوع ويعطش ويشتهي الطعام، لكنه سكت وتأمل التصرف المناسب، ثم تركهم يستمتعون بطعامهم، إلا أنه قرر أن يخبرهم عن قصة الوجبة وأنه اشتراها لنفسه. وفعلاً أخبرهم بذلك باحثاً عن ردة الفعل المتعاطفة معه كما تعاطفت زوجته مع أم أحمد، لكن لا تعليق من أحد. وعلى الأرجح، لم يستوعب أحد ما قاله؛ فالجميع بمن فيهم الأم مشغولون بازدواج بين الطعام ومتابعة الجوال.

رغم هذا الموقف المستهتر بمشاعر الفرد الأول بالعائلة مصدر فرحها، وحاميها بعد الله، بلسم كل واحد منها في مرضه وحزنه وإخفاقه. رغم ذلك، واصل العم وهاب يومياته المعتادة المستظلة بمبادئه وخصاله الإيجابية.

العم وهاب مثال للإنسان الذي تحلى بالمرح رغم قسوة الأيام، والقناعة رغم ضغوطات الحياة، والتهذيب الذي وضعه في غربة مع محيط لا يعرف إلا لغة السباب لأتفه موقف،

لكن تفاني العم وهاب في خدمة أسرته والناس يقابله عدم شعورهم بحقه في الانتباه له حتى بأمور صغيرة، فلم يفكر أحد مثلًا أن يعزمه على فنجان قهوة بمنزله أو كاسة شاي بمقهى الحارة أو عزومة بمطعم؛ رغم أن الجميع يحبه ويستمتع بالحديث معه ليسمع من المخزون الواسع المنوع من قصص الحياة التي مرت بالعم أو سمعها بدوره من غيره.

حتى أولاده لم يفكر أحدهم بإحضار هدية رمزية له كقطعة شماغ أو حذاء أو حتى طاقية يحمي بها نافوخه من حر الشمس، وهو يتنقل بين المحلات ملبياً رغباتهم.

العم وهاب مستمتع بخدمة أسرته، ويحمد الله دوماً على راحة البال، إلا أنه يعاني الإهمال المستمر من المقربين منه، ويظل لكل أمر مدى،  والمشاعر الإنسانية ليست شيكاً موقعاً على بياض.

تمضي الأيام ومعها يواصل العم وهاب يومياته المرتبطة بتلبية حاجات أسرته؛ إلا أن الحزن تسلل لكيان الستيني، وبدأ في مزاحمة المرح ومتعة خدمة الأهل. وهكذا على هذه الحال التصاعدية كآبة تتراكم وسرور يتآكل حتى تجاوز خط الكآبة البياني الأحمر على خط السرور الأخضر؛ راسماً شخصية حزينة تائهة سالكة طريق الانحدار النفسي.

لا يبالي أحد بالحزين وهاب، وقد تحول لآلة تعمل وتطحن، والآخرون غافلون عنه مستمرون في حياتهم وملذاتهم التي تقتات على دخل العم الحزين.

فقد العم وهاب شهيته للطعام، ونحل جسده، وتلاشت مع الوقت منه كل الأحاسيس بما فيها الحزن، ومات شعوره بأي شيء حتى الألم، وأصبح جسم مادي يتحرك كالروبوت

بالكأد لاحظت ابنته الكبيرة المتزوجة أمل حال والدها بسبب غيابها عنه عدة أسابيع، وهي الأقرب له كونها عايشت مراحل حياة الأب طيلة الأعوام الحلوة؛ وهي صغيرة ووالدها في شبابه، وعايشت شيء من مرار السنوات اللاحقة. ناقشت والدتها وبقية الإخوة والأخوات ساكني البيت عن حال والدها. أجمعوا أنها أعراض التقدم بالعمر ووالدهم كغيره ممن هم بسنه.

– لكن أبي المرح لا يتحدث، لا يبتسم، لا يصدر عنه أي ردة فعل كالدمية، وعادة من هم بعمره ليسوا بهذه الصورة، وكأن الأشهر تمر على أبي كالسنوات.

وحدها أمل في وسطهم كانت تبكي.

اتفقوا أن يذهب به سامي للمستشفى.

– الطبيب: كل الفحوصات سليمة ولا أجد سبباً لكتابة الدواء له. لكن والدكم يحتاج اهتماما شخصيا به.

– ما شكل الاهتمام دكتور؟

– مثلاً الخروج به لنزهة برية، أو حتى سفر قريب تجديد غرفة النوم أو أثاث المجلس؛ حتى ملابسه قد يحتاج الجديد منها؛ مثل هذه الأشياء ولو كانت غير ضرورية لكنها ترفع المعنويات، وتعطي صاحبها مؤشرات إيجابية باهتمام من هم حوله، وتزيل معها بإذن الله الشعور السلبي للحياة. قدموا له الهدايا أحدكم يقدم له عطور وآخر ساعة وهكذا.

– لكنه في هذا السن ليس بحاجتها، والسفر مكلف دون فائدة مضمونة. (كان باب العيادة قد فتح من قبل الممرضة لإدخال ملف المريض الآخر؛ مما مكن العم وهاب من سماع حديث ابنه)

– كطبيب مرت عليّ حالات كثيرة مشابهة، وأنا أتحدث معك كإنسان بعمر هذا الرجل وأشعر بشعوره. هل تشركونه بكوب عصير أو قطعة آيس كريم عندما تشترون لأنفسكم؟

– لا.. لا نتوقع أنه يهتم بها..

– أنا أشرب العصير وآكل الايسكريم مع أولادي.. والدكم قبل عشرين عاماً كان شابًا عاصر المتغيرات والنهضة التقنية والبث الفضائي وظهور الانترنت، وحتماً تنقل برفقة أصدقائه بين المطاعم السريعة. والدكم يعد رجلًا مخضرما كان بالإمكان أن تقتربوا منه أكثر؛ فهو يفهمكم أكثر مما تظنون..

– إذًا يا دكتور والدي غير مريض وفق حديثك.

– شخّصت لك الحالة، وافهمها كما يحلو لك. لقد أخذت من وقتي الكثير.

وطلب من الممرضة إدخال المريض الآخر.

خرج سامي من غرفة الطبيب وتفاجأ بعدم تواجد والده. هرع للشارع ولم يجده. بحث في المحلات المجاورة والطرقات الخلفية ولم يعثر عليه. وكان الوقت الذي قضاه الولد مع الطبيب كافٍ ليختفي فيه الأب عن الأنظار. اتصل بأهله في الطريق أثناء توجهه للبيت وكان الرد: غير موجود. مضت ساعات ولم يعد المفقود. حل الليل. سألوا عنه في كل مراكز الشرط وطواريء المستشفيات دون أثر. وتمضي الأيام والأشهر على هذا الحال.

توارى في السابق إحساس العم وهاب وظل جسده. واليوم يتوارى معه الجسد. لم يمت حقيقة كما يموت الناس ليستقر بقبر يزار فيه. العم وهاب اختفى كإنسان تماماً. لا شعور.. لا جسد.. ولا حتى قبر..

نشرت أسرة العم وهاب صورته تحمل عنوانا “خرج ولم يعد/مفقود”، وطلبت ممن يعثر عليه إبلاغها على هاتف ابنه سامي. شاهد الإعلان صديق قديم لوهاب، واتصل بسامي وطلب مقابلته فهو يعرف مكان المفقود.

تشوق الولد للقاء. وما إن أقبل عليه صديق والده القديم حتى سأله بشغف أين والدي.. أين؟

والدكم موجود.. موجود في كثير من المنازل.

قد يعجبك ايضا
تعليق 1
  1. يوسفـ .. يقول

    ملائمة لفيلم سينمائي..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.