برلتراس رواية نصر سامي الجديدة تبحث عن الإنسانية المفقودة
سمارود
صدرت عن دار مسكيلياني رواية برلتراس للروائي نصر سامي، في 250 صفحة، وأبدع غلافها الرسام توفيق عمران، ويعتبر الغلاف مدخلا مشوّقا للقراءة، إذ تظهر صورة رأس حصان لكنها عند التدقيق أجسام بشرية متماثلة دون ملامح أو علامات مميّزة، ونرى بجعتين، ومخطوطا يستأثر بالجانب الأيسر للغلاف، وهي علامات مهمّة تمثّل إذا أضفناها للعنوان لغزا بحاجة إلى التعمّق والكشف.
وهذه الرواية مرثيّة كبرى من مراثي الإنسانية. نتعرّف من خلالها على الشرّ الذّي يمحو تدريجيّا الأثر الذي تركته الإنسانية منذ بدايتها. تصوّر برلتراس هذا الأفول العظيم، وتمعن في متابعته وتسجيله وتوثيقه، وتشهد على الفناء المظلم الذي تغرق فيه حياتنا اليوم. ومن خلال قصص كثيرة تحدث في مكان غريب اسمه برلتراس، نشهد تخلّي البشر عن بشريتهم وانسحاقهم أمام آلة جهنّمية غادرة قوية مرعبة دموية لا إنسانية رهيبة، هم داخلها مجرّد قطع لحم في آلة كبيرة من الصّدأ، تفرمهم بلا هوادة!
لا يبقى الناس في برلتراس أناسا، يتحوّلون أو تنثرهم رياح المساء رمادا في العشايا. كلّ جيل جديد هو النسخة الأسوأ والأغبى والأكثر جهلا. تذكّر الرواية بكتّاب مثل جورج أورويل أو كافكا، ولكنها تتحرّك ضمن المشترك الإنساني القيمي المهدّد ذاته الذي تحركت فيه المرويات الكبرى، وبرلتراس تمعن في كشف الحيوانيّ المختبئ فينا، إذ أنّنا نفقد المعنى، نصبح أحصنة حقيقيّة في مراح حقيقي، نجرّ عربات الأحمال ونروّث، أو بجعا، أو ضروبا أخرى من الحيوان! وفي المقابل يظهر المسوخ، هؤلاء القادرون على تحويل برلتراس الجنّة إلى برلتراس المغلقة الشمولية المعلف الكبير والسجن الرهيب! في الرواية الكثير الكثير ممّا هو إنساني، لكنّه يذبل ويذوب بين يديك وأنت تقرأ! وفيها الكثير من الحيوي الذي يقاوم، وينتهي في إحدى مقابر الرقود السبعة! لا أمل هناك أبدا، لا ضوء مطلقا، لا شيء.
المؤلّف نصر سامي يصعب أن يصل في يوم من الأيّام إلى كتابة نصّ سردي بهذا التماسك والتأثير والقوّة. فبعد توظيفه لإحدى المرويات المتعلقة بوالد المسيح في روايته الأولى (الآيات الأخرى)، فإنّه يواصل هذا النهج بتوظيف حكايات محلية وعالمية في روايته الثانية الفائزة بجائزة الشارقة (حكايات جابر الراعي)، وفي روايته الثالثة الفائزة بجائزة كتارا (الطائر البشري). ولم تخل روايته الرابعة (العطار) من مرويات تخصّ الشّكل الشعبي لافتتاح الفصول وبعض الطرائق الفنية التي يصرّف بها الراوي الشعبي قصصه، وها هو هنا في (برلتراس) يواصل تمسّكه بتسريد ما يسمّيه المرويّات الكبرى، باشتغاله العميق والغريب والجريء وغير المسبوق على نصّ شفوي قديم يضمّ أقدم كتاب عربي للشعر (المفضليات)، وهو إذ يهدي روايته لمحققي المفضليات أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون فإنه يوثّق بطريقة سردية لافتة قصة جمع هذا المصنّف القديم وتحقيقه، ولعلّ أروع ما في هذه الرّواية هو تلك الحساسيّة الفاتنة التّي قدّمت بها القصائد، وتلك العروض القصيرة المختزلة لمحتواها وذلك التفاعل العميق في تدبّرها وتوثيقها. وعلى امتداد الرواية يتمسك أبطالها بتسجيل القصائد لأنّ ذلك هو الشيء الوحيد الذي يثبت أنهم ما يزالون بشريين بطريقة ما.
تتطرّق الرواية دون مواربة لمقولات الشرّ السياسي، وتستبطن بوضوح مقولات إيمانويل كانط المتعلّقة بجذرية الشر، وبول ريكور المتعلقة بالشر المؤوّل، وجيورجيو أغمبمن المتعلقة بالإنسان المقدّس، وحنّا أرندت المتعلقة بتفاهة الشر والإنسان الزائد عن الحاجة، وميشال فوكو المتعلقة بالبيو سياسة وسياسة الحياة. وتتفاعل لترى الواقع ليس كما يبدو بل كما هو في الحقيقة حيث الإنسانية شيء غابر قديم لا صدى له في الحاضر، وحيث الحضارة تهترئ في مواجهة مسوخ لا حضارية يشكّل التوحّش شكلها الخارجي وتلتمّ على الوحش. يترمّد الإنسان، ويتهدّم. ينسى، تمّحي ذاكرته تماما، وينقاد إلى المعلف سعيدا، ملتذّا بالنير المذهّب الملتفّ على جسده. المرعب ليس الأجيال الحاضرة بل الأجيال الجديدة التّي تحيونت بالكامل. نسيت ماضيها البشري القريب، وكفّت عن الحنين لما هو بشري، ولم تعد تحلم، واستبطنت تواريخ عبوديتها باعتبارها أعيادا، وطفقت تحتفل، وتبدع في الانبطاح والخسّة والذل.
يقدّم الراوي ومن ورائه المؤلّف نصر سامي الحالة الرّاهنة “للإنسان” في دولة الغولاك، المحاط بالأسوار اللامرئية السالبة للإنسانيّ والحيويّ. ويتحرّك في تلك المساحات المظلمة القاسية بأقصى ما تستطيع أرواح أبطاله قبل أن ينطفئوا، يحاذيهم، يحبّهم، لكنّه يشهد انهيارهم المدوّي وتخليهم المرعب وسقوطهم الذي يدكّ العظام، وربّما رافقهم وهم يترمّدون أو يتّجهون إلى المعالف التي كانت من قبل مؤسّسات للصحة والتعليم. برلتراس هي هذا كلّه، لكنّها أيضا صرخة مدوّية في وجه التوحّش والبؤس والعولمة وأساليب الامتهان والتبخيس من شأن الكائن، ورغم كلّ ذلك ينتصر نصر سامي للتراث اللامادي في وجه مظاهر الحضارة المادية، ولقد استطاع أن يأخذ وعينا بعيدا عن راهنه المطبّع مع الاستلاب والوحشية والنذالة إلى عالم آدمي، تكون فيه برلتراس وطنا تشرق فيه الشمس الطبيعيّة، ويعيش فيه الناس إخوة للحيوان، لا حيوانات، ولا متحولين ولا مسوخ ولا هوامات مستذئبة. المرئيّ في برلتراس ليس حقيقيا، الحقيقيّ هو اللامرئي الجوّال، غير القابل للامتهان والتحقير، الجوهري، الذّي يبقى بعد أن يفنى كلّ شيء!
حين تفتح المعجم لن تجد كلمة برلتراس، لكنّك بعد أن تنتهي من قراءة هذا الكتاب، ستكون قد صادقت على توسيع المعجم، بإضافة كلمة جديدة للغة العربية، تلك الكلمة التي نحيا الآن فيها، ولا نجد لها اسما. إنّها بكلّ بساطة برلتراس.