فسيفساء الكتابة، المجموعة القصصية “رقصة الغربان” لنور الدين خروب

0 337

عبيد لبروزيين – المغرب

يتشكل فسيفساء الكتابة من عوالم النص وعوالم موازية يختلف حضورها داخل بنية الكتابة النصية، الأثر وما يدل عليه، أو الحضور والغياب، مفهوم يتقاطع مع حوارية ميخائيل باختين وتناص جوليا كريستيفا، حيث يصبح الأثر الأدبي نسيج علاقات متعددة، وهي منطلقات تشكل تصورا منفتحا على النص في سياقاته المتعددة، الأمر الذي يجعل النص معطى لقراءات تأويلية لانهائية، ومن هذا المنطلق نسائل المجموعة القصصية “رقصة الغربان” لنور الدين خروب الصادرة عن دار بصمة للنشر والتوزيع، ط 1، 2024.

يقوم العالم القصصي لنور الدين خروب على مصادر مختلفة تؤثث عوالم قصصه، غير أن حضور البعد الاجتماعي الواقعي، يظل السمة المهيمنة على مجمل قصص “رقصة الغربان”، فالارتباط بمجتمع مليء بالتناقضات، جعل الكاتب يتوغل في بنيته لتعرية المسكوت عنه واللامفكر فيه من خلال أحداث تمزج بين الواقعية والرمزية في توليفة إبداعية تميز الخصائص الأسلوبية للكاتب في رسم معالم تجربته الإبداعية.

وإلى جانب البعد الاجتماعي الواقعي، يحضر البعد الفونتاستيكي بدرجة أقل، لاسيما في قصتي “البطل الذي..” و”البطلة التي..”، وهو ما يمنح المجموعة القصصية فرادتها، الفرادة التي استطاعت أن تشكل فسيفساء من النصوص بأبعاد مختلفة، وذات مقصدية أخلاقية سامية موجهة إلى المجتمع من أجل التغيير، نصوص أشبه بمرآة نرى فيها واقعنا القاتم والبشع، إنه تحقق لرغبات اللاشعور الجمعي الذي يحول هدف الرغبة الحقيقي إلى هدف أقل إيلاما عن طريق ميكانيزمات اللاوعي.

البعد الاجتماعي

يكشف البعد الاجتماعي في المجموعة القصصية “رقصة الغربان” عن تعلق الكاتب بواقع متفسخ أخلاقيا، وبيئة اجتماعية متناقضة لامفكر فيها أو مسكوت عنها، فلم يكن منه إلا أن حمل معول الإبداع لكسر تماثيل الذات الواهمة، والتي ليست سوى ذات القارئ، في قالب قصصي محكم البناء، ولغة سلسة ترسم مشاهد الأحداث بعناية فائقة كما في قصة “حب فوق الجسر” التي جاء فيها: “استيقظت أمي العالية قبل أن ينبلج ضوء الفجر ليوضح الألوان وراء أشجار الزيتون، با العربي ذهب للسوق رغبة منه في التخلص من شنبه مقابل ورقة نقدية خضراء، قالت أمي العالية أن ابن البيولي سيزيده أخرى إن فعل” ص: 6.

يغلف نور الدين خروب عوالمه القصصية بالرموز، با العربي الذي حلق شاربه مقابل مال البيولي، وانقلاب حياته رأسا على عقب بعد ذلك، هي في الحقيقة تأثر الكاتب بتأثير الاستعمار الفرنسي في المجتمع المغربي، الذي اشترى كرامة البسطاء بالمال، وفي معادلة إبداعية بسيطة، استطاع الكاتب بمماحكته اللغوية، ونسج الأحداث المعتمد على الثقافة والبيئة الاجتماعية، ربط الشارب بالكرامة، وهو في الواقع كناية عن الإنسان المهزوم الذي باع روحه/إنسانيته للشيطان، ولم يكن ذلك من أجل المعرفة كما فعل فاوست بل من أجل المال، وهو انتقاد مضمر أيضا للنظام الرأسمالي الذي حول كل شيء إلى سلعة قابلة للبيع والشراء، الكرامة/سلعة والأنفة/سلعة والحرية/سلعة، هذا التجزيء الذي يقود في النهاية إلى جعل الإنسان/سلعة، الاستعباد في ظل نظام كولونيالي رأسمالي ظل جاثما على صدور المستضعفين من المجتمع، والذين لا يملكون في هذه الحياة غير كرامتهم.

ويبلغ انتقاد سلوكات المجتمع أشده في قصة “فوضى أكتوبر”، حيث يظهر الكاتب بشكل جلي تفسخ العلاقات الاجتماعية، والانحلال الأخلاقي، في قالب إبداعي يشهد على براعة الكاتب في تحويل البشع القبيح إلى لغة الإبداع بالمعنى المطلق للكلمة، فها هو ينتقد العلاقات غير الشرعية التي تفشت في المجتمع على لسان السارد الذي ظل مترددا في سرد الأحداث، وهو يختبئ خلف ضمير المتكلم المفرد، حيث يبدي وجهة نظره في الحب، والتي تكشف عن أحداث كان السارد بؤرتها الدلالية: “الحب إذن هو تلك الفوضى العائمة في سرير أكتوبر دون احتساب عدد الأطفال المخنوقين في العوازل ومناديل الورق، الأطفال الذين يتسلقون شاحنات البلدية باكرا ويذهبون إلى الحمام قبل أن يأخذوا طريقهم إلى المدرسة وسط الأشجار ليقفوا في صف المطعم المدرسي في الثانية عشرة تماما. هل فكرت يوما كم من طفل وسيم أرسلناه إلى القمامة بدل أن نضع في يده شوكلاتة ونرسله إلى الروض” ص:12، أطفال القمامة هم أنفسهم أطفال الشوارع الذين يزداد عددهم بشكل مخيف، ألا يحق للضمير الفطن، والفطرة السليمة، أن تكتب الجرح إبداعا؟

يسلط نور الدين خروب الضوء على أحداثة هامشية، أو طابوهات يخشى الكل الحديث عنها، لاستفزازها الشعور الجمعي، لكن القالب القصصي خفف من وطئها، وكأننا أمام تطهير قصصي لكل ذات قارئة.

أما في قصة “خيانة تنزف دما” فقد مزج الكاتب بين البعدين الاجتماعي والرمزي في تشكيل عوالم هذه القصة، خيانة الأنثى التي أغلقت كل سبيل ممكن للعيش، الخيانة التي تجعل الحياة مستحيلة كما في نهاية القصة التي جاء فيها “حاولت الغزالة أن تنسب الآثار له غير أن المنديل المطروح فوق السرير لم يكن له، افتضح أمرها فاندفعت نحوه بقوة لتضمه إلى صدرها رغبة في الصفح لكنها غرست قرنيها في صدره سهوا. وبعد حين من البكاء، شعرت بحبه يطوق رأسها دما ويرسم الخيانة عند قدميها” ص: 29

يهيمن البعد الاجتماعي على البناء الدرامي لأحداث المجموعة القصصية، حيث ينتشر الفقر والخيانة والغدر والانحلال الأخلاقي… غير أن نور الدين خروب استطاع أن يحول كل هذه الأمراض الاجتماعية إلى قصص تغلفها الرمزية، أو المزج بين البعدين الاجتماعي والرمزي، وهي السمة التي تميز خصائص الكتابة الخروبية.

البعد الفونتاستيكي

إذا كان البعد الاجتماعي مهيمنا في نصوص المجموعة القصصية “رقصة الغربان” فإن البعد الفونتاستيكي لا يقل أهمية رغم تجلياته الواضحة في القصتين الأخيرتين فقط، ففي قصة “البطل الذي..” يعمد الكاتب إلى تقنية الكتابة داخل الكتابة، على منوال براندلو في رائعته “ست شخصيات تبحث عن مؤلف”، حيث يتوجه السارد إلى إحدى شخصياته الثائرة التي تريد تغيير مجرى الأحداث ضد رغبة الكاتب، الشخصية التي ترفض الانصياع للسارد في قتل إلهام، ومحاولة الشخصية إقناعه بالعدول عن هذا الفعل الشنيع، كما هو الأمر في المقطع التالي ص ص: 68 69

-قلت لك، عش ما أكتب فأنا الذي صنعتكما وزرعت في صدركما كل الأحاسيس. لقد طلبت منك أن تقتلها فاقتلها. فابستطاعتي تبرئتك وإبعاد التهمة عنك دون أن يقتفي شرطي أو شيطان أثر خطاك.

وبعد صمت أخذ يحوم في بياض الغرفة وهو يتمتم:

-أن تكون بطلا ليس بالضرورة أن تسفك دما. على سبيل المثال، اكتب أنها لا تطيق العالم من دوني سيحبك الناس وستتحدث الصحف عن كتاباتك. هذا أمر جيد

-فن الكتابة صنعة وأنا أعرف كيف أبدع، وما عليك سوى أن تعيش ما أكتب

-لا أستطيع ولن أستطيع قتل إلهام أفضل الانسحاب من هذه اللعبة، يؤسفني أن أعلن ذلك اللحظة. دعني أسافر لعلني ألقاها في مدينتها رغم أني أعرف بأن قلبها ينبض لغيري، هذا قراري ولست أدري لماذا خلقتني لتحسدني بعد فقرتين من الكتابة.

خلق هذه العوالم العجائبية لم يغير من روح الكتابة الخروبية، حيث يوجه مرة أخرى معوله بهذه التجربة للغدر، الفعل المذموم الذي تعرضت له الشخصية الرئيسية من طرف إلهام ليقوم بعدها بالانتحار، أو جعله السارد ينتحر بعد أن رفض قتلها انتقاما منه، هكذا يرسم نور الدين خروب عالما من الجنون القصصي بأسلوب مشوق ومثير.

وقد تتحكم الشخصيات في مجرى الأحداث كما وقع في قصة “البطلة التي..”، والتي جاء فيها: “خرجت من النص لوحدها وأبعدت عشيقها عن القصة والمستشفى، فعادت بين فقرتين تتحسس الورق إلى أن بلغت المطبخ فتحت قارورة الغاز قبل أن تلتحق بعشيقها من جديد، وبعد أن تجاوزا الفاصلة الرابعة في الفقرة الأخيرة، بلغ مسامعهما دوي انفجار اهتزت له باقي الفقرات” ص: 76.

لقد كان البعد الفونتاستيكي في المجموعة القصصية امتدادا للبعد الاجتماعي، حيث ظلت مقصدية معظم القصص محملة برسائل أخلاقية واجتماعية، كاشفة عن اللامفكر فيه والمسكوت عنه بلغة أقل إيلاما، وأقرب إلى الشعرية في التشبيهات والوصف والبناء، وهنا تكمن عبقرية الكاتب في تحويل الموضوع البسيط، من خلال تقنيات الكتابة القصصية، إلى عالم في منتهى الإبداع.

إن البناء السردي لهذا الفسيفساء القصصي يكشف عن كاتب تمكن من ترويض اللغة، والاعتناء برسم معالم الشخصيات الإشكالية التي تنخرط في أحداث اجتماعية وفونتاستيكية ورمزية، وخيال ينفتح على مرجعيات مختلفة يكشف عن تجربة غنية للكاتب نور الدين خروب في أولى باكورات أعماله بعد عشرين سنة أو أكثر من الكتابة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.