عن التبعات المشؤومة للموهبة المهدرة، قراءة في فيلم” banshees of inisherin”

ورشة فن - سينما

0 333

صنيتان بن وافي – السعودية

لم يكن فيلم banshees of inisherin والذي قمت بترجمة السيناريو الخاص به الى العربية تحت اسم (نذر الشؤم في انيشيرين) إذ وجدت أنها الترجمة الأدق لاسم الفيلم تبعًا لمعطياته، خلافًا للتسمية العربية الدارجة –   أقول لم يكن هذا الفيلم فيلم عاديًا، فقد تناول مسألة شكلت في رأيي صلب العمل، وهي مسألة من العمق بما يكفي لتجعلنا نطيل التفكير فيها. مسألة تبعث على التأمل الطويل وتشاكس شيئًا في دواخل النفس الإنسانية فتجعله بهذا فيلمًا كئيبًا ومأساويا.

كان (كولم) الشخصية الرئيسية في الفيلم، كما شاهدنا موسيقيًا عاطلًا، يعزف الكمان أحيانًا، في جزيرة معزولة – في عشرينات القرن الماضي – في آيرلندا إلى جانب عدد من أهل الجزيرة العاديين حيث يعيش ويقضي معظم أوقاته متسكعًا في أحاديث وثرثرة لامبالية مع الحمقى البسطاء من أمثال (بودريك سوليفان)، ولكن ذات يوم وبلا استئذان، كهجمة الموت المتربص، وجده بودريك (رفيقه الأثير) وحيدًا يدخن سيجارةً ويحدق في الفضاء، مسلوب الروح، شاحب الوجه، يعالج شيئًا ربما لا يعرفه حتى هو نفسه.. فما الذي حدث لكولم؟!

إني أقترح هذه القراءة التفسيرية للفيلم، صحيح أني لم أقرأ أي مراجعة حوله، ولا أدري أتوصل أحد الى هذه النتيجة من قبل أم لا؟، ولكني لما رأيته وتأملته بدقة وجدته يتحدث عن قضية بالغة العمق والمأساوية على حد سواء هي التبعات المشؤومة للموهبة المُهدَرة.

لقد كان كولم رجلًا موهوبًا، وتلك كانت معاناته الأولى. كان بمقدوره أن يكون عظيمًا كـ (موزارت)، ولكنه أهمل ذلك. وحكاية الفيلم بأكملها تدور حول هذا المعنى، أي ما الذي يمكن أن يحدث للإنسان عندما يتجاهل مواهبه الفطرية مستعيضًا عنها بالتسلية والإهمال، كما كان يفعل (كولم) قبل أن يصل الى المرحلة التي بدأ عندها الفيلم.

إن الموهوب بطبيعته كائن إشكالي، يعيش حياة بطبيعتها معذبة، وهو إذا ما تأملنا حياته بدقة بعيدًا عن بهرجة الاحتفاء والشهرة (إن حصلتْ) وجدناها – من منظور الانسان المتوسط – باعثةً على النفور. إن الموهوب يبدو كمن يسير على حبل رقيق، إنه ببساطة لا يستطيع أن يعيش عاديًا، ليس بمقدوره ذلك إطلاقًا، حتى وإن أوهمته المشتتات التي يبتدرها لنفسه في ريعان شبابه أنه بخير فسرعان ما ستطلّ عليه الموهبة لاحقًا -دائمًا بعد فوات الأوان- لتذكره بكل ما فات وتعبّر عن انتقامٍ يتناسب طرديًا مع قوة موهبته وأصالتها. وهذا بالضبط ما حدث لـ (كولم)، لقد انتقمت منه موهبته التي حاول أن يدفنها بعيدًا في أعماقه بإفساد ما تبقى من حياته، وبإلقائه اللوم على الآخرين، وبالانتقام المادي من نفسه ذاته، انتقام متطرف!، كان يبتر أصابعه!، بالمعنى الحرفي للكلمة، ويفعل ذلك بشهوة خفية يدركها من تأمل في مشاهدة الفيلم مرات ومرات. ولكن لماذا كانت الأصابع هي الأداة التي عبرت بها موهبة كولم المجروحة عن انتقامها؟!. لأن الأصابع هي أداة الموهبة إيّاها لو أنها أفلحتْ!.

وهذه تفصيلة فنية جعلها كاتب العمل كذلك إمعانًا في التأكيد، إشارةً إرشاديةً لمن فاته أن يلتقط هذه المعاني الخفية للفيلم. أما في الواقع فإن الموهبة ستعبر عن انتقامها بطرق شديدة التخفي والاحتجاب (أهمها لامبالاة شاملة تسيطر على كيان الإنسان).

لقد حاولت جاهدًا أن أبحث عن أسباب نفسية أو مجتمعية أخرى قادت (كولم) الى فعلته هذه، ولكني لم أجد! لأن شيئًا لا يمكن أن يعبر عن هذا بأكثر من حقيقة الموهبة. إذ لو لم يكن كولم موهوبًا لكان مثله مثل (جونجو) رب الحانة، أو (بودريك سوليفان)، أو أي أحد من بسطاء القرية التي يعيش فيها. وإن اليأس العام، يأس القرية حيث يعيش، اليأس المشترك، اليأس المجتمعي لا يمكن أن يقود بأي حال إلى هذه النتيجة، مطلقًا، وهذه من النقاط البارعة في الفيلم، إذ قدم أشكالًا مختلفة لتعاطي العامة مع هجمات اليأس المشترك: (بيدر) الشرطي كان يعبر عنها بأشكال رأيناها في الفيلم، وبقية البسطاء يعبرون عنها على الدوام في الحانة. و(شيفون) شقيقة (بودريك) كانت تكافحها بالقراءة والبحث المستمر عن مهرب، و(بودريك) نفسه كان يكافحها بتسليته اليومية مع (كولم) ورعايته اليومية لحيواناته (وبالأخص جيني).  كل هذه طرق يتعاطى بها العوام مع غزوات اليأس فيستطيعون مع ذلك البقاء على قيد الحياة إلى أن يضع الأجل لمعركتهم هذه حدًا. وبالتالي تبعًا لهذا المعطى لم تكن حياتهم وتفاصيلهم التي رأيناها تشتيتًا في الفيلم بعيدًا عن المعنى الذي يشير إليه بعمق، وإنما كانت تأكيدًا على أن معاناة كولم ويأسه كانا من نوع مختلف. لم يكونا نتاج اليأس العام، فاليأس العام لا يفعل ذلك؟ لقد كانتا نتاج ردة فعل جامحة، آتية من الأعماق، متسلحةً بشهوة للانتقام، معلنةً عن نفسها بطريقة سوداوية قاتمة.

حين تنادي الموهبةُ الإنسان داعيةً إياه ليخوض الرحلة، فعليه إما أن يمتثل أو أن يرفض.  فإن رفض النداء فلن يلقي به ذلك إلا إلى مهاوي العدمية، ونداءها هذا ذو طابع بطولي، لأنه نداء لخوض رحلة يتخوفها الإنسان ويحذرها، وبالتالي ينطبق عليها – برأيي – ما ينطبق على النداء الذي تحدث عنه جوزيف كامبل في كتاباته.

إننا نعرف المبدعين الذي أخلصوا لمواهبهم بأعمالهم ومنجزاتهم التي أظهروها للعالم، ولكننا لا نعرف شيئًا عن أولئك الموهوبين الذي أهملوا مواهبهم، وتركوها منذ سنوات حياتهم الأولى في زوايا اللاوعي تربي شراسة انتقامها في ركن ظليلٍ هناك.

إن الموهبة الأصيلة عذاب حقيقي، فهي إما أن تجعل الإنسان يعيش معها أجمل أحلامه أو تكون – حين يهملها – أسوأ كوابيسه.. (موزارت) عاشهًا حلمًا، و (كولم) عاشها كابوسًا.

يقولون إن المواهب – عندما تُهمل – تموت. بلى، هذا صحيح، ولكنها لا تموتُ حتى تنتقم..

The banshees of inisherin
الفيلم من إخراج وتأليف مارتن ماكدونا، ومن بطولة كولين فاريل، وبرندان غليسون، وكيري كوندون، وباري كيوغان. عرض الفيلم لأول مرة في العالم في مهرجان البندقية السينمائي الدولي 79 في 5 سبتمبر 2022
قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.