مراد الجراح – الاردن – سماورد
اليوم فقط ومنذ عدة سنوات أكتب بالعربية، كنت قد هجرت الكتابةَ بها لأسباب أعرفها جيدًّا وتعرفني كنت قد هجرت، وهاجرت، وتهت، وسقطت ونهضت، وتهتُ لأربعين سنة أخرى أو ما يُقاربها ضلالاً. ثم لممت حماقتي، وحزمت الجرح في حقيبة، وها أنا أعودُ عودةَ ابن ضالٍ لأقبل يديها، أطلب الصفح وأطوي الصفحة .
اليوم فقط أدركتُ أنني حين رحلت لم أكن هارباً من بطش أحد ولا بحثاً عن الدفء في حضن أم أخرى، أنا غادرت ُ فقط هرباً من الطفولةِ وبحثًا عن النضج الصاخبِ في ليالٍ تشبهُ في كلِّ شيءٍ ليالي شهرزاد، و تنقصه ضادًا.
اليوم يا حبيبتي أكتبُ لكِ؛ وليقرأ الجميع هذا الدرس الأول في الإملاء والدرس الأخير في الإعراب، سأكتبُ صمتًا على الجميع تعلم أشكال الحروف، كيف يبدو المجرور على الورق، كيف تظهر الضمة على المبتدأ، ليلة البارحة عادت الكوابيس تطاردني، لم أر أحد عشر كوكباً هذه المرة ولم أقصص رؤياي على أحدٍ، و لكني رأيتُ الحشر ولم يكن الناسُ عراة، كان كلهم في زي عربي وعباءة واحدة، بعض وجوهٍ فقط كانت بادية والأخرى كلها مطموسة، وجوه أميّزها وهي بدورها تميّزني، رغم أن صوري لم تنشر إلى جوار صورهم؛ بل أن العديد منهم كان قد ودّع الدنيا و ما فيها تاركاً موضع قدمٍ لي، كلهم مسحوا على رأسي، ثم قال أحدهم لي: لا تحزن، ثم استفقت على صوت ابتهال جارنا الدرويش ساعة الفجر وصرخة ولادة اليوم الأولى “الله أكبر”.
ها أنا أكتب إليكِ رسالة بخط اليد على الطريقة القديمة. أكتبُ لكِ قصتنا من البدايةِ، تذكرةً وعبرةً ونقشِ وترِ كمان في جدار أوبرا فيينا، يشهد التاريخ على ملاحم وسموفونيات قضى أبطالها وعازفيها نحبهم وهي باقية تنتظر. قصتنا ابتدأت منذ ان انتبذت مريم مكانًا قصيّا وهزّت إليها جذع النخلةِ فأسقطت رطباً جنيا، فأنجبت من تكلم في المهد صبيا، هبة من الله إلى العالمين نبيا، فغدر به اليهود ويهوذا إنه كان شقيا،فرُفِعَ المسيحُ إلى ربهِ راضياً مرضيا، و كان من قبل قد بشّر بمحمدٍ بعده رسولاً عربيّا قد نختلف فيما سبق، فإليك عني، أنا الراوي هنا و أنت جمهورٌ من الورق، منذ ميلاد المسيحِ إلى مساءنا هذا جدّ الكثير، آخرها في بلدكِ لبنان الصغير، لعبت أيدٍ بنا و كأننا دمى من خرق قُتِل منا ومنكم من قتل، وأحترق بيت من أحترق، طمعاً في كرسي كبير أو مال وفير أو شهوةِ جاهٍ وأطفاء لا ينتهي لشبق، حكموا علي وأنت بعذاب عسير وموتٍ سادي شهم لبق يقتلنا في اليوم ألف مرة، دون أن يسكن فينا منجله إلى الأبد، فالدبلوماسية تقتضي بأن لا تكون قاطعاً حتى تصل إلى نهاية النفق.
“لولا هذه الدول اللقيطة لم تكن بيروت ثكلى” نعم أقتبس مجددًا من محمود درويش فهو زارني البارحة أيضاً في رؤية المحشر، آه كم بكيت عندما سمعت هذا المقطع الشعري للمرة الأولى فقد مسّ بي وتراً لئيماً، قالها في أمسية و كررها، وكأنه يدري ما بي و يستتر، آه، لولا هذه الدول اللقيطة – نفس الدول اللقيطة – لم نكن الآن أنا أنت نحتضر، ولكان للهلال والصليب مكانٌ للقاء على وسادة ملآنة غير خاوية.
حبيبي كيف لم أعلم من قال لك “اليوم خمرُ وغد أمرُ” عرف كيف يفرق بين المرح والحب، فآتى كل منهما أكله، وأنا لم أستطع يوماً فمنذ أحببتك – أنت زجاجة النبيذ الحلال وطيف السياسة يحضرني عند حضورك، وكذا طيف الفلسفة وطيوف الأدب جميعها، فالتمسي لي عذراً حين أنسى عيد ميلادك وأذكر ساعة الصفر في حرب تشرين، وكأني كنت مع من كانوا ينصتون منتظرين فيروز لتصدح “خطوة قدامكم على الأرض الهادرة”، وكأنها صلاة توبةٍ ما أن يكبر للدخول فيها حتى ترتوي القلوب التواقة من مطر الله، واعذريني حين أرتل بعضاً من نظرياتي المستنبطة من أوراق ابن رشد الباقية ومن كتب ادورد سعيد الراقية، واغفري لي حين انتقد كل ما فيكِ فأي قيمة للمثقف مكتوف اليدين و اللسان؟ وقبل أن أنسى كل المذكورين زاراني أيضا.
نعود إلى قصتنا، أتذكرين كم فتشت عن الله منذ أضعت مصحف الجيب الشريف إلى اليوم؟ أتعجبين حين أقول لك أني وجدته مجدداً حين التقينا؟، كنت أعلم منذ اليوم الذي استدعيت فيه لغرفة المديرة في أحدى الكاتدرائيات الإسلامية في أربد، حيث كنت أجهز بجدية رسالة الدكتوراه في جدول الضرب في الصف الثاني الإبتدائي،إن المسافة الفاصلة بيني و بين القداسة، لا بل النبوءة لا يزيد عن عرض خصر امرأة، حينها كنت أظن أني استدعيت للتباهي بي أمام أحد الضيوف، فجدول الضرب كما الفاتحة وسورة الناس كنت أنا السبّاق لحفظه، ولكني كنت مخطئاً يومها، كنت قد استدعيت فقط للتنبيه والإنذار، كانت قصة حبي لأحدى فتيات الصف الثاني في شعبة البنات في نفس المدرسة قد انتشت على لسان كل طلبة صفوف المرحلة الابتدائية والروضة أيضاً.
لما لا، ليس هذا فحسب، فأنا المغضوب عليه كنت قد أخبرت تلك الفتاة بإن عيونها العسلية بجمال اللؤلؤ والمرجان،فكان لابد أن أستغفر الله ألفاً وأتوب إليه ألفاً، فالحب الذي أراه أنا وحدي في الأفلام العربية حرام والنظرة إلى تلك الطفلة كانت زنى، وفالعين أيضاً تزني والزنى حرام، كنت أنوي أن أسرق قبلة من تلك الفتاة على عجلٍ وبراءة ساذجة في فترة الاستراحة في ذلك اليوم، الحمد لله أنني عدت إلى صوابي ذلك اليوم تحديداً، ألف شكر لتلك المصادفة السعيدة.
تلك الحادثة جعلتني أدرك فيما بعد وبعد الكثير من قصص الحب الطفولية في معظمها إلا ما قل، أن الخطيئة الوحيدة التي يشتهيها شاب مثلي هي امرأة، وأقول خطيئة واصفاً امرأة واكررها، ألم يقولوا أن الخطيئة ليست في تجنب الرذيلة بل في عدم اشتهاءها؟.
إن كنت أشتهي امرأة بكل ما فيها ليس جسدها فحسب وفي اشتهائي لها بعض من الخطيئة فأنا لست من الفضيلة في شيء، وبذا أكون خطّاءً وأنت أجمل الخطايا، هذا لم يجعلني أعتزل النساء ولا رماني للتصوف،على العكس زاد من نهمي للبحث عن تلكك المرأة التي تصفّد عندها الشياطين و تختزل الخطايا و تبدو شهوتي لها عبادة من منظور فلسفي بحت، لعلي أقترب بها قليلاً من خالقها و خالقي، و إذ بنا نلتقي، نعبد ربا واحداً في محرابين.
لم أكن أعلم بعد أني سأحبك كل هذا الحب،وأنا أراهن أنك أيضا كنتِ جاهلةً ذلك، وأدرك حجم المقاومة التي بذلناها لكي ننكر الحب و نتنكر له، فكنتُ أغيبُ طويلاً دون سؤال، و كنتِ كمن حملتِ سفاحاً، تتدارين و تختبئين، ولكن كل ذلك لم يفلح، فالحب كما نور الله ساطع ماحق.
المسافة البعيدة بيننا جاءت لتزيد لهيب نيراننا،و كأن المسافة بين المسجد و الكنيسة لم تكن كافية،كيف لي أن أتحسس مقدار حبك لي اليوم من دون أن أسمع دقات قلبك من على بعد طاولة بيننا؟.
وكيف لي أن أحدق بك طويلاً حتى تختفين خلف الزاوية؟، أتساءل كيف كان ملمسكِ لو لمستك؟، هل كانت حرارة الدم فيكِ ترتفع حين نلتقي فأسرق على عجلٍ و في غفلة من الجالسين أو بعيداً عن أنظار المارة ابتسامةً لم نكن نسمح لأنفسنا بأكثر منها؟.
بت بعيدة الآن وأنا الذي لم ألمسكِ عن شهامة المضيف أحياناً وعن تقوى دائماً، أكتفي بتبادل الضحكات بالساعات عبر الهاتف أو الأنترنت، وحدها الضحكات لا تزني ولكنها تسمن من جوع.
أتراني أفضحكِ حين أتحدث عنك؟، أن قلت سلاماً يا “سيدة حريصا”؟، و سلاماً أيها البحر الذي حملنا يوماً إلى قرطبة ؟أ أفضحك؟ إذاً سأعلن صارخاً من هنا ” عذارى ” جوانية ملكي وحدي ومرفئ الفينيق بلداني و كسروان أرض المحب، ومن أرادها حرباً فليتعلم مصارعة الرجال، أنا الذي أفنيت عمراً في الحرب وتعلم فنون القتال، ومن كان منكم يريد أن يثكل أمه أو ييتم ولده فلينزل أربد و ليسأل عندي” لا تقلقي لن يقتلوني انتقاماً و لا حمية سأموت قريباً و سأموت بعيداً، اليوم أكملت لكِ عشقي و لم أتمم عليكِ سوى البؤس، لم أرض لكِ ديناً و لكن برغم الجميع أحبك.
أحبكِ يا وطناً ويا مدينة حزن و يا قدساً … يا قدس لو تعلمين أنني لست عمر؟، أي رؤيا تلك التي أسلمت على أثرها صيوان المدينة وجرس القيامة، لك الأمان على الكنيسة والصليب وهذه عهدتي ولن يدخل اليهود، لن يبكوا عند الحائط ولن يضحكوا عند الجلجثة.
أودعك الآن كما جرت العادة، سأبكي يتماً وستبكين أيضاً، وحدهم الأيتام تعلموا معنى أن يفقدوا، لكم تمنيت أن تهاجري إليَّ فأكتب إنجيلاً جديداً، وننشأ ديناً جديداً ونعبد الله الواحد الأحد لا ندعو معه أحد، نبحث معا عن بقرة صفراء فاقع لونها ونتحدى النمرود والفرعون معاً، نسرق مخطوط السفينة من نوحٍ وننجو من الطوفان معاً، حتى ينفخ أسرافيل ونحشر معاً، ولكن لا نبي بعد محمدٍ ومحمدٌ قد مات، أخشى على أحدنا فقط أن يدخل الجنة.
ما يثير السخرية أنني تلقيت ثقافة عربية، وتلقيتِ أنتِ ثقافة فرنسية، فإذا ما اجتمعنا ترانا نتحدث فقط بالانجليزية، ياليته كان في الدين كما في اللغة حلولاً وسط، أرضاً محايدة فنلتقي في المنتصف، ثم أزاحمكِ قليلاً بحكم شرقيتي الأزلية ورغبتي الذكورية بأن أنال النصيب الأكبر، حتى إذا ما فزت تنازلت لكِ حتى آخر شبر، ولكنها مشيئة الله السميع الحكيم العليم .
وداعاً حبيبتي …
لن أضع طابعاً بريدياً على الرسالة، ولا عنواناً بريدياً، سأرثُ دون حقٍ شرعي عنوان كاتبٍ لأحد من رأيت في المحشر، سأسرق من الساخر الراحل محمد طمليه وأكتب على المغلف “إليها بطبيعة الحال” فإن ضل ساعي البريد فلا تقلقي فالهدهد يعرف الدرب.