برلتراس حدائق من الشعر أم حرائق من الشر؟

0 72

ربيعة عروس هديدر – تونس

جاست بذهني أسئلة جمة، وانا اتجول في بر لتراس، أتصفح صحائفها القديمة، عن الخيال والواقع، عن أمجد والراوي، عن التغير إلى الحيوانية، عن المسخ والمسوخ، عن أكوام الرماد، وهول السواد، عن الإحساس بالهزيمة والخذلان، عن مطاردة الذل والهوان، عن منزلة الشعر، عن دور الشعر القديم، والثقافة وروح الثقافة، عن المثقف ومنزلته ودوره، عن الحراك والثورة، عن اختيار الأسماء؛ أمجد، صبح، تبر، حسن الزيني. أ ليس في ذلك تثمين للشعر؟ سيما إذا علمنا أن هذه الأسماء تخص الحافظين للشعر القديم أو الرواة، أو مقيديه، وسواهم من الشخوص، كالمسوخ، فهم نكرة بلا أسماء. أما باقي الشخصيات فهم مرقمون كالسجناء، إلا من أراد لهم السرد تسمية، مثل روح وماس وسهى ومينا وفضة وريمة، وغير ذلك.  لماذا تحول أغلب سكان البلاد إلى احصنة وأفراس وبجع، ما عادا أمجد؟

  رواية برلتراس تنتمي إلى الواقعية السحرية، أو الواقعية الجديدة. تحجب الواقع بالخيال وتكشفه بالنقد والسؤال. وما الخيال سوى أداة فنية لإعادة تشكيل الواقع، كما يقول غابرييل غارسيا ماركيز.

وهي تمتعك بلوحاتها السريالية، على قتامتها وأحداثها العجائبية، رغم بشاعتها، وكذلك بشعريتها. تؤنسك بعميق موضوعاتها. وتثير العقل بما ترمي إليه من فضح للخواء الثقافي والخور القيمي والفساد السياسي، “مهم أن يطير الناس وهم مجرد مواليد، كما تطير خيراتهم أمام أعينهم”. ص 139

وها نحن نسير في بلاد، تداركها الله، يندق سم الظلام مثل أزاميل صدئة في لحم الوجود أمام أعيننا. ص 146

 وهي كذلك إدانة للصمت الرهيب عن الظلم والانتهاكات، “وحرت كيف افسر لمسخين سر الضوء المخنوق بنهارات الذل”. ص 139، وإدانة لطحن الناس بلا رحمة أو شفقة. “نحن مجرد كلاب حراسة… ما لنا نحن وقرى الأعضاء البشرية؟ وتسفير الصبيان المجنحين الجدد بطرق نظامية؟ ما لنا نحن وبيع النسوة كاملات، أو قطع غيار؟” ص145

  وهي تزودك مع ذلك بنبع اللذة، لتنهل من معين الشعر وسحر البيان، فتبدو مقاطع شعرية، تشرق فيها شمس الحروف، يشع منها نور يزيح الغيوم، وموجات الظلام، ويبدد السواد الممتد على مدى الرواية، إذ لا تكاد صفحة، بل فقرة تخلو من لفظة مقترنا بالرماد مما يصبغ الرواية بجو من القتامة والكآبة، يجعل روح السرد إلى التشاؤم أقرب، بل يجعل الأثر ضربا من ضروب المراثي، تبكي الخير المنسحق أمام آلة الطحن الرهيبة للشر، أمام الآلة العمياء التي” تدهس الناس وتاكلهم لحما وترميهم عظما.” ص 187. ما حدا ببعض الدارسين إلى اعتبار الرواية ديستوبيا. ومعلوم أن الديستوبيا، وهي عكس أدب المدينة الفاضلة، تصور عالما ليس للخير فيه مكان. “يحكمه الشر المطلق ويهيمن عليه الخراب والفقر والمرض والقتل… باختصار هو عالم يتجرد فيه الإنسان من إنسانيته، ويتحول فيه المجتمع إلى مجموعة مسوخ تناحر بعضها بعضا.” وقد استحالت برلتراس من التوحش، “زريبة حيوانات حقيقية”، دوما ترى الأرواح فيها تزهق. بل هي“بئر حيّاتٍ”، أبدا غراب البين فيها ينعق. فشاء لها قدرها السردي أن يلفها ليل أبدي بلا قلب، وتغشاها سحائب سود كأنها قطع الرعب، تمدها بحبائل من الأشلاء، تناثرت من كل حدب وصوب، حتى فرد اللحِمامُ عليها جناحيه، ينذرها بلعنة الحاضر والغيب.

”يقول الأستاذ عقيل الخطيب : ”هكذا اذا، كانت ديستوبيا “نصر سامي“ سياسية للنخاع، واقعية للعمق، تفضح الإنسان العربي وتعريه أمام نفسه، وتلزمه إن بقيت له كرامة إنسان أن يتحرك، أن يواجه، ويقاوم. (مجلة قلم رصاص الثقافية).

لكن الطريف أن الراوي وهو يوثق مآسي سكان برلتراس، بلون من الشفقة أحيانا، أو بضرب من البرود واللامبالاة، احيانا اخرى، وقد يحوم شبح السادية بالذهن طورا ٱخر، تراه يستمتع بسماع الشعر فيتحول السرد إلى تغن بما به يلتذ. يتحدث صبح عن أثر ما يسمعه من شعر جاهلي، وعن قصيدة من المفضليات، للمفضل بن محمد بن يعلى الضبي:” كانت القصيدة مشحونة، بالأسى والعويل، بداخلها غيوم حبلى، ملفوفة بالموت والأخطار، لكن القصيدة بهية ثرة رقراقة.” ثم يضيف:” وحين رأى اهتمامي، روى لي قصيدة الأسود بن يعفر النهشلي، …وشرحها لي بالتفصيل، فكدت أرى لحسن وصفه دمع الشاعر المسكوب على ذكريات الشباب…أما تركه صرعى الدهر صرعى… فلقد كان عندي عسلا مصفى، واستمتعت بما كان من تردده على الخمارين، ووصفه السقاة والقيان وصيده، وما يرافقه من أمور هي من عجيب الشعر. لا يعلم أمجد ماذا يفعل بي شعره لكنني أستلذ كل بيت… يراني، ويرى وجهي وهو يقرأ، ويرى جريان الرياح على روحي بعطور لا قبل لي بمثلها. ”ص32  وترى الراوي يوظف حواسه، من شم وبصر وتذوق عندما يصف أثر الشعر فيه. يقول:” شممت وأنا أكتب ما رواه لي امجد رائحة النعناع المحتحت بين الأصابع، وامتلأت عيناي بالنور. وامتلأ قلبي بالصفاء”. ص63

نعم الشعر عنده نور وريح فيحاء وثمر ناضج. وكان جائعا. وما جوعه إلا نهم للشعر. و” انه لا يشبع من روحه الجوع. ويمضي في نقد أدبي يذكرني بالمعري، الشاعر الضرير، في غفرانه، يحلل كلمات الأبيات، ويتحسس مجالات السحر فيها. “جلبت انتباهي القصيدة بحديثها عن عنق الفرس، … ووصفه النبال بانها نبت كراث منزوع من الصريم أي قطع الرمل” ص37 وكم من شاعر مغمور الذكر أصبح معروفا.

ولم يكن القريض وسيلة متعة فحسب، بل هو فسحة يحتمي بها الرواة من جحيم برلتراس” وهل الشعر إلا ذلك؟” يقول الراوي:” يكلمني أمجد، فانخلع تماما من أجزاء برلتراس الدامية”.ص92 . إن الشعر بمثابة الهواء المتنفس بعيدا عن جو الدخان والرماد والعواء الذي يريم على السطح، وكأن لسان حاله يردد بيت نزار قباني

كل الدروب امامنا مسدودة

وخلاصنا في الرسم بالكلمات

ويمضي الراوي يكتب ما يمليه عليه أمجد من شعر جاهلي، به مفتونا، مرغما القارئ على التعرف عليه، بل آخذا بيده إلى سبيله من خلال شروحه وتعليقاته في شعرية تنساب كماء زلال، تُلَيِّنُ السائد عنه، باعتبار صعوبة فهمه، وحوشي لفظه. وبذلك تكون الرواية صرخة في وجه من ينكر أطراسه، أو من يختزل موروثه الشعري في البكاء على الأطلال، معتبرا إياه نشازا، لا يتناغم وعصرنا. بل تجد تبرا الراوي متأثرا به كأنما يرى فيه حاضره، يقول:” ألست ترى انه يروي حكاياتنا؟ ص218 .

ذاك هو مقام الشعر ومنزلته في الرواية، سيما في نفس الراوي أو أمجد، فعندما يصيران إلى مجلسهما ترِقُّ الحواس، وتلين الجوارح وتنتشي، وتستعد الروح للاستمتاع، ويحصل الأنس والإيناس، وتصبح الطبيعة مزهرة، زاهية؛ ترقص الأشجار، ويسطع نور الشمس، يخترق الظلام والسواد، “وشمس الفرح تخترق فؤادي”.ص134 “و تورق في قلبي زهرات بيض من كل بيت اسمعه، وتنداح منه ثمرات لا يراها الليل”. ص 92. باختصار تتمرد الحياة على الموت، وتهزمه، ويحل معجم الضياء والخصوبة، والرواء محل الظلام والقحط والسغب. “لكنني فتنت بالكلمات التي كانت تشكل الجزء المضيء في حياتي”. ص 33

 فالحياة إنما تتلخص في الشعر أو العلم أو الثقافة. وهذا ما يضمن إنسانية الإنسان. وبدونها ما الذي يميزه عن الحيوان؟ ولا يفوت السارد أن يميز بين الثقافة وروح الثقافة.. يقول صبح:” الثقافة حسب رأيي …أن أجمع وأجمع ولا أتوقف عن الجمع، أما روح الثقافة فهي شيء أكثر عمقا يجعلك وأنت تقرأ نصا لا تفهمه تحبه وتحن إليه وتشتاقه. وأنا أحببت ما رواه لي امجد. فتحت لي الكلمات عالما حرمت منه أجيال كاملة في برلتراس”. ص 78

و يقول عن دور الشعر في تحقيق إنسانيته: “لا يعيدني إلى بشريتي غير صوت تبر وهو يقرأ لي من صفحات نفسه، وصوت امجد وهو يصحح “. ص191 وإذن لا نستغرب بقاء امجد على إنسانيته، جزاءً له على علمه وحفظه، ولا نعجب ايضا من تحديه الموت، “لكنه يظن أن الموت نفسه لا يستطيع أن ينهي حكاية امجد العظيم الذي أمسك العصب الحي ببرلتراس.”ص 221   وقد اختير للبطل هذا الاسم، من المجد. فالأكثر مجدا هو الأوسع أدبا وعلما. وفي حديث عن اللغة يقول أحد المرقمين: “اليوم أو غدا ستنشر الريح بقايانا… سننسى كما أنسيت لغتنا. لن يبقى إلا هذا المسخ الذي يتعاظم كل يوم، ويطحننا”. ويعلق الراوي: “يدري صبح أن ارضا دون شمس، أرض عمياء، لا تنبت إلا العماء”. ص 218

 ولا ريب أن الأسماء قد قدت اختيارا، تثمينا للشعر، فاختيار اسم صبح، إنما للإيحاء بالإشراق، في حين يدل اسم تبر على الذهب الخالص وحتى اسم حيا الله حسن المعروف بالزيني فليس بعيدا عن معنى الحياة البهية، إذ هو من حقل دلالي له بالجمال والحسن صلات ووشائج. وهذه نقطة الضياء والتفاؤل في النفق المظلم وفي الجو الكئيب والنواحات الدائمة. والشعر وحده قادر على منح الرواة ضربا من اللذة والمتعة والصفاء. فحين يكون الراوي في رحاب الشعر القديم، “يتعطل الزمن المسخ الملعون المميت، وينسل من الصفحات زمن آخر، لا بداية له ولا نهاية”. ص191 وتنضج في روحه روح شاعرة، نلمسها في الفصل الثاني والعشرين على سبيل المثال، عندما تظهر ريمة في حياته، إذ ينشأ مقطع شعري فتان. يقول: “…وطار فؤادي في رماده مثل عنقاء الأساطير، آه، يا ريمة، يا ثلج العمر، يا ريمة، يا حجر الرحمة، يا ماء الغفران”. ص 157 …يحب تبر أن يعد لنا كل شيء ويغيب، وكنا في غيابه فحم لذات. تهدمت، وكسرتني الحياة، لكنني ثَبَّتُّ تلك الطفلة تحتي، واجريت بين يديها القصص والحكايات، وجعلتها تؤمن بي. أما هي في صمتها العميق، فلقد كان آخر ما تريده الكلمات. عيناها بحيرتا خوف، خوف قديم، ممزوج بياس عتيق، لا براء منه، لكن جسدها حي.” ص158

 ولأول مرة، تجد البياض والضياء وينتهي الليل أو يتحول السواد إلى ذهبي “يشبه شمس بلادي”. وتكون الطبيعة حاضرة معجما، ورسما متناغما فتانا من ريشة فنان في لوحة فنية وكل ذلك مرتهن بكلام امجد، يقول الراوي عنه” وهو يتكلم، تحط عصافير لا مرئية على النوافذ الواسعة، تطير فراشات دون لون في فضاء الغرفة، لا يراها امجد، وأراها أنا، تندس في شفتي وقلبي، تنمو قصائد بيض صغيرة فوق أصابعي، لا يقرؤها امجد، وأشعر أنها تورق وتزهر في روحي. حين يتكلم امجد يضاء النهار بطريقة ما، يتفجر في قلبي حنين لكل شيء وتصطخب أمواج شوق عات لا أعرف لمن. ولا يعود الوقت ميتا، ولا أرض سموم، وتتسع البلاد يسيل فوقها مداد ذهبي يشبه شمس بلادي”. ص191: أما عن أثر القصيدة فيه، فتقرأ قوله ” تمكنني القصيدة من حياة ثانية، تحميني من الموت، تتولد كلمات عميقة لم اعتدها في كل قراءة، وتنضج روح في روحي”.ص 193إنه يستمتع بسماع الشعر ايما استمتاع .. يقول :”أمضينا في ذلك (رواية القصائد) عشية كاملة، لا اعرف أخف منها زمنا، ولا ألطف منها متعة.”ص38

ولم يكن القصيد أداة متعة فحسب، بل هو قد فتح للراوي باب الوعي، وحرك سواكنه الراكدة، وفتح بصيرته على أمور كانت غائبة عنه، فتفجرت عيون الأسئلة، ترجه رجا، وتزلزل الثوابت لديه. وانفتح له باب الرأي والتفكير في وضعه المرير، وفي فكر الناس الأسير، يقول: “كان لقائي بأمجد أمرا رائعا، كيف عشت حياتي قبل لقائي به؟ كيف كنت انظر لأمور الحياة قبله؟ كيف بقيت مسلوبا ومقطوعا من لغتي كل هذا الاستلاب وكل هذا البتر؟

… شاهدت أقواما كثيرة في رحلاتي السابقة، لكن برلتراس كانت وطنا لا يشبه الأوطان التي عرفتها في سابق عهدي. هل يعقل أن ينسى بشر لغتهم؟ هل يعقل أن يتحول تاريخ بشري بشكل شبه كامل

إلى تاريخ حيواني؟ هل يعقل أن يصير الإنسان حيوانات ومسوخ ومجرد سوائم بلا عقول؟ القصائد رمتني بعيدا في التاريخ حين كان البشر بشرا، والحيوان حيوانا، أما الآن، فما من لغة قادرة على وصف كراث الصريم المزروعة في رمل، والمنزوعة منه. ص 38_39

هكذا نستشف مما تقدم مأساة الراوي “الغريب ” في تردده بين الآدمية والحيوانية، وبين حدائق الشعر، وحرائق الشر.، في واقع موبوء، واقع وان حجبه الخيال، فقد فضحه النقد والسؤال. وما كثافة الأسئلة، وهي فؤوس صدئة، إلا دليل على وعي مشروخ للفكر وحيرة دامغة تجاه التصحر في العقول والاستلاب أمام السيل الجارف للعولمة، وما يأتي به الغرب من طرائق ووسائل تزج بالمجتمعات العربية في متاهات الاغتراب.

و هي اسئلة تفيد الإنكار والإدانة، وتدل على النقمة الثاوية في روح الراوي، حتى وإن كانت” روحا ملوثة.” ولئن كانت الروح من أمر ربي فإن التلوث من فعل الإنسان. ولعل تحول صبح إلى قاتل يتقن القتل، وتريم عليه بعده “راحات منعشة”، أظهر دليل على نقمته ورفضه الواقع الذي فقد هويته وقيمه الأخلاقية والثقافية، فنسي لغته وتراثه، وانسحق أمام الغزو الثقافي. وقد صور مأساة الوعي هذه، في مقطع، يرشح ألما وبؤسا. يقول: ” …اقسى لحظات حياتي بؤسا حين يبكي امجد، روحي ينبت فيها نبت حوشي، تطلع له السنة غريبة. تندق في قلبي عضات مكتومة، أتذكر معها عمري الضائع عبثا في برلتراس، ونبكي. سنوات مرت الآن، وأنا أتوجع، وأمجد يتعرى من كل شيء فيه، حتى صار عظما محروقا.

… أما الأحصنة الوليدة والبجعات والمسوخ، فإنها لا تتذكر ماضي آبائها البشريين عبر أحقاب وأحقاب فائتة. كانت حيوانات حقيقية، دون حنين ولا ذاكرة ولا ماض. الروث والظلام وحدهما كانا يلفان برلتراس التي كانت تلتم على نفسها دون أن تحتاج إلى كلمات.” ص33

ولذلك كانت الكلمات هي الحل للنسيان، والسبيل إلى التحليق فوق الأحزان، والأيدي التي تمد للطيران. يقول أمجد:” أنا روح ملوثة، يا غريب … أترمد في النهار، وأعود بشرا في الليل، لا أعود بشرا، بل مجرد رقم محفور في اللحم، وانت يا غريب مثلي، روح ملوثة… عجزت أن أصير حصانا…ولكنني لن أعجز عن الطيران. الكلمات تمد لي يدها لأطير “. ص 24.  نعم الشعر هو الأمل في التحليق بأجنحة الحلم. وهو الرسالة النبيلة وستظل وظيفته حمل القلوب على الأخلاق الحميدة.

إن تركيزي على هذه المسالة، دون غيرها، مرده الحضور اللافت للشعر اسلوبا في الكتابة واستدعاءً للموروث، إذ تجد تضمينا له في ثنايا السرد، مثل شعر المتنبي:” ونفسي بها أنف أن تسكن اللحم والعظم “. ص197 أو مادة حدثية، وعاملا بنائيا، يذكي الصراع، ويسهم في بناء الحبكة، بالنقص عقابا لذوي الجهالة، وأصحاب الذائقة المخربة، وبسده ثوابا لحفظته وكاتبيه. وهو إلى ذلك مقصد من مقاصد القول.

وإذا كانت الرواية جنسا أدبيا قائم الذات، مختلفا عن سائر الأجناس، فإن رواية برلتراس حسب رأيي قد تمردت على جنسها. ولا أراها إلا مكتنزة شعرا. وقد أبالغ من فيض الشعر فيها، فأقول إنها رواية قصيدة، فيها الخيال الشعري أوسع ما يكون، فيها الصور الشعرية تفتن العقول والعيون من خلال تكثيف الاستعارة والتشبيه. فيها من غموض الشعر الحديث نصيب، ومن جزالة الشعر القديم حظ خصيب.

نعم هي رواية قصيدة متعددة الأغراض لكن أظهرها غرض الرثاء، لذلك اعتبرها مرثية من مراثي الإنسانية، ترثي الذات أولا، ثم الضمير والوطن والقيم الحميدة أيضا.  انها رثاء للذات وقد أثقلها صدأ الموجود، وأثخنها قلق الوجود. يقول الراوي: “الأسئلة فؤوس صدئة، من سنوات وانا اطرح الأسئلة، وما من مجيب.”ص183   هي تفجع على الذات، أمام تصدعها بفعل الصراع بين مختلف نوازعها، فهي ذات منكسرة ، قد تكسرت، وتدشدشت, فتناثرت كشظايا البلور المكسور. إن الشخصيات الرئيسة أربعة رواة، لكنها جمع في صيغة المفرد. الأصل ذات واحدة، بيد أنها مقسمة مشتتة. يقول الراوي:” أمجد هو أنا”. ص 79. وقد كان يصرخ بعد موت تبر، داخل نفسه:” فجعت فيك يا حبيبي، فجعت فيك يا تبر”. ص 183 أما الراوي الجديد حسن المعروف بالزيني، فهو ظل باهت لصبح الراوي. رماه قدره السردي في خضم الحكاية، خلف صبحا بعد أن استنفذ ذخيرته السردية، وانقطع عنه الجهد، خاصة بعد موت امجد، فتاهت عنه قبلته وضاعت جهاته.

وما هذا التعدد إلا حيلة فنية تجعل الرواية مذهلة في حبكتها السردية. وقد كان السارد يستعمل في البداية لفظ الداخل للتعبير عن باطنه ثم اضحى يستعمل كلمة الدواخل تعبيرا عما يعتمل في ذاته من نوازع مختلفة.

الرواية إذن تفجع على الذات الفقيدة، وقد فقدت كل إحساس بالرحمة، وتحولت إلى مُدْيَةٍ حادة تقطع في برود وفعالية. وحادت عن مبادئها، وعجزت “عن أن تكون ملاكا أو أن تكون شيطانا”، فتحتحتت، مثل وريقات النعناع، وتطايرت نحو المجهول، حيث الغربة والضياع. لقد تخلت عن مسؤوليتها تجاه الوطن الصغير والوطن الكبير، فَطُحِنَت تحت الإحساس بوخز الضمير. ولذلك اعتبر الرواية القصيدة رثاء للضمير الذي تخاذل أمام الخور، واكتفى بالصمت الرهيب والمراقبة، وهو يرى الآلة العمياء تحكم قبضتها على جميع دواليب الدولة، وتمعن في امتهان الشعب، تفقره، وتدوسه بغير وجه حق. “نسي الجميع انهم بشر، حتى البشريون منهم لم تعد بشريتهم تعني لهم شيئا، فهم مستباحون بشكل كامل، مرقمون، لكنهم ليسوا مواطنين. مفرغون من معانيهم، …لا حقوق لهم… وجميعهم ملغيون”. ص129

 وهى تفجع على الوطن الذي خذله الكثير من مثقفيه، وخذلوا أنفسهم. وصمتوا عما يكيده” الاقتحاميون والانتهاكيون”، الذين يعيثون فيه فسادا، ويدمرون شعبه وأمنه. وقد استحال بعض المثقفين أدوات بيد السلطة ترسلهم عيونا على الناس، فأضحوا مخبرين، يمتهنون الوشاية والقوادة، ويؤدون مهامهم على أحسن وجه. و“برلتراس وحش دموي بلا عينين ولا رأس، برلتراس بئر حيّاتٍ. “ص79. والملاحظ أن الراوي نادرا ما يستعمل لفظة وطن عند ذكر برلتراس بل يذكر البلاد. وإن استعملها، فمستدركا نافيا:” لكن برلتراس كانت وطنا لا يشبه الأوطان التي كنت اعرفها في سابق عهدي.” ص 38. “نرى، ونحن نمر الناس وماهم بناس… والوطن وما هو بوطن”. ص 208. لكأن الوطن حلم لا يرى إلا في الأغنيات، أو في صوت ماس. يتحدث عنها بعد موتها وكانت تغنيه:” يا خيل سالم باش روحتولي”, يقول:” أحب صوتها، ولكنه كان آخر اهتماماتي وهي حية، أما وقد ماتت، فإن صوتها تحول وطنا. وقالت:” تبدو بلا وطن. من أي البلاد أنت؟”. قلت لها:” من بلد فيها شمس”. ص 78 علما وأن أغنية “يا خيل سالم باش روحتولي” هي من عمق التراث الفني الشعبي، وقد غنتها المطربة التونسية الراحلة صليحة، مما يجذر الرواية في صميم الواقع التونسي، وفي فترة الثورة وما تلاها من سنين عجاف. والقرائن الدالة على ذلك كثيرة. فلفظة الثورة متواترة، وكذلك لفظ الحراك. ويمكن أن تذكر الحوار الذي دار بين الراوي وامجد, يقول صبح الراوي:” ما رأيك أن نجلس لساعات في عتبات الجامع؟ تشتاقنا تلك العتبات، لم نجلس فيها من أيام الثورة. أتذكر؟ فيقول لي:” لقد خذلنا الثورة، وخذلنا أنفسنا”. ص 173

ولأنهم خذلوا الثورة والوطن وأنفسهم، وتحولوا عن مبادئهم، وتاهت عنهم بشريتهم، فقد كانت نهاية الرواة الأربعة بلون السواد والرماد الذين راما على البلاد، إيحاء بأن الشر لا يثمر غير الوبال والهلاك. فأمجد مات، وقد أصبح مسخا، يدير العمليات القذرة من مكتبه الذي يطل على تلة الراجبوت. “لكن روح أمجد القديم، أمجد البشري، تئن تحت ثقل المسخ الذي يتلبس بجسده”. ص170 وقد “صار آلة قتل، صار يقتل بدم بارد لأقل سبب”. ص 174 مات وهو يئن تحت ثقل الغربة والضياع. يقول: “غريبان نحن هنا، يا صاحبي، ما لنا طريق”. ص 204. وهو الذي ضيع علمه مثل تبر. وهذا الأخير قتل شر قتلة عندما كشفت خيانته. يقول حسن الراوي:” لا يعرف صبح عن تبر شيئا، وربما لذلك يحبه، أما أنا فأعرف تبرا معرفة دقيقة، لذلك كانت مهمة قتله من احب المهمات إلى قلبي… تخلصت منه مثلما يتخلص الإنسان من حشرة. قتلته ببرودة دم … حملته معي، وطرت به عاليا، وفي السماء البعيدة، قطعت أطرافه، وحدفتها من فوق الغيوم البعيدة”. ص184.

أما صبح الراوي فيبدو أكثر معاناة واعمقها. قد طعم العذابات كلها، فمن عذاب الحرمان إلى عذاب الفقد، ومن عذاب وخز الضمير إلى عذاب الخوف من المصير. والخوف أس البلاء، فهو علة ما آلت إليه نفسه من شقاء. إنه الخوف من الموت إن لم يصبح رجلا من رجالهم واداة قتل يشهرونها متى ارادوا. ” كان التهديد واضحا، إما القبول بالمهمة أو الموت في بيت المسوخ، ولم يكن له من خيار، والنفس مجبولة على الخوف”ص 220. “وروحي كانت قد انسلت مرارا مني منذ تحولت مخبرا “. ص 88. وإن لم تكن نهايته الموت، فإنه لا يشعر انه حي. يرد على تبر إذ قال له:” سنموت في هذه البيداء الموحشة “:”وهل نحن على قيد الحياة”. ص 161. وأنى له الحياة، و”روحه مطحونة بيأس وفقد لا تحتمله جبال برلتراس”؟ وكيف يطيب له العيش وقد “نسي عروقه البشرية التي ظنها أورقت”؟ وكان خسيسا، قد وصلت خسته القاع”؟ كيف يستقيم له العيش، وهو يرى “نفسه حقيرا، بل نذلا، تطوف برأسه رؤى، لكنه يسارع لطمسها. حجره موضوع بمهانة في قلب الجحيم، وترسه مشدودة بيد عمياء، وهو في نظر نفسه روث حيوان لا غير”. ص221. إنه عاش فعلا “عيشة طويلة كما يليق بكلب حقيقي” ص82. أي حياة لمن يعيش غريبا وحيدا كئيبا؟ وقد لخص حاله البائسة في هذا المقطع، يقول:” الآن أنا في بر لتراس، أعوي، ولا يسمع عوائي أحد. عروقي يابسة، ووجهي تحت غلائل السواد، متجهم، وعيناي مفتوحتان، والنهار كعادته مجرد ليل مستمر”. ص68

لقد أوشك على الهلاك حين طعنه شاب مترمد، وحاول هو أن يجهز على نفسه، لولا أن أسرع به المسوخ محاولين إنقاذه. وشهد حسن الزيني الحادثة ولم يكن بوسعه فيما بعد إلا أن يرجو له الشفاء. “لعل صبحا يشفى” ص 241. ولم تكن نهاية هذا الأخير بأفضل من سابقيه إذ آل إلى حال من الشقاء بموت زوجته، وعجزه عن تحقيق حلم اخته، بأن يعيد إليها ولديها جابر وشهرزاد وهما إبنا صبح، فجنت، وماتت من الفقد. وانتهى إلى ضرب من العدمية والعبثية وقد مات كل معنى لديه وكل شعور.

كل هذه النهايات الأسيفة هي عقاب سردي له مراميه، عقاب على التخلي عن قيم الخير والشرف والنخوة، والرحمة، والمواطنة، وغيرها. ومن هذه الناحية، تبدو الرواية رثاء للقيم النبيلة، التي تلاشت، وحل محلها الشر والدناءة والخسة والتوحش والجهل بمعنييه. وكأنني بالمؤلف يشير إلى الحل والوسيلة الكفيلة بالخروج من نفق الشر المظلم. انه الحب. يلمح إليه في جملة استفهامية وردت على لسان أمجد ردا على شكوى الراوى:” الغربة، والضياع، أي مصير هذا يا مجد؟”. يقول:” ألم يكن من الممكن أن نبذل حياتنا في الحب، لا في هذا الشر المحض”. ص205. ولعل هذه الجملة زبدة الحكاية، وبيت القصيد في الرواية. ذاك أنها على اختزالها، تحتوي عديد المعاني. وهذه سمة الكتابة الشعرية في الأثر. يلمح ولا يصرح. يقول الكثير في حيز نصي قصير. تلك هي وفرة القلة وعين البلاغة. فالاستفهام انكاري يفيد الحسرة وما يتبعها من ندم على ضياع الحياة في الشر المحض. وقد قابل بين الحب والشر ما يعني أن الحب هو الخير. وهو وحده الكفيل بدحر الشر وإقباره. ثم إن السؤال قد يتضمن الإجابة. ففعل البذل ممكن، لكن الشخصية هي التي اختارت الشر. وهي المسؤولة عن اختيارها. لذلك بدت نادمة وهنا تطرح مسالة الجبر والاختيار، ذاك أن الراوي لا يعتبر نفسه حرا. يقول مناجيا روح ماس بعد أن قتلها:” لو كنت حرا حقا ما قتلتك”.

وفي الجملة نجد اسم الإشارة للقريب “هذا ” يحيل إلى المقابلة بين الماضي والحاضر، ماضي الحب وحاضر الشر. وما أجمل كل زمان باستثناء الآن. وكانني أجد دعوة ملحة إلى الحب والعودة إلى ماضينا المشرق بدل الارتماء في أحضان الغرب وما يؤدي اليه من استلاب واغتراب. ولعل سبب ضياع الشخصية وغربتها فقدها الحب. فالحب هو مفتاح الخير وإن تراجع تستوطن في القلوب الحرب. وسيصبح المجتمع عويلا ونباحا في الصحراء. وما أكثر العويل والنواحات في برلتراس! وهذا ما تجده في الأغاني والأشعار، ومنها:

“يا ناس حبوا الناس.  الله موصي بالحب

الحب شرع الناس    يا ويلو الل ما بحب”

ومثل هذه الدعوة ثاو في بطانة الجملة.

هكذا تبدت الرواية عميقة في محتواها، وثيقة الصلة بالواقع   التونسي والعربي والإنساني، بموضوعات سياسية واجتماعية وقيمية وأدبية ووجودية، اعتمد فيها الرمز والإيحاء، سواء في اللغة أو الأحداث الموظفة لخدمة الفكرة، أوفي الشخصيات، أو في الإطارين المكاني والزماني، فالمكتب الأبيض على سبيل المثال، _ وهو “مبنى لا يعرفه إلا المسوخ وقلة من تابعيهم، يقع على امتداد تلة الراجبوت العليا”_، ما هو إلا رمز للبيت الأبيض الأمريكي أس الإمبريالية ومصدر الحروب. وما استبداد ليل بطيء الكواكب ببرلتراس، إذ “نهارها ليل بلا قلب”، إلا إيحاء بعمق المأساة، واستفحال الجهل، أما حدث عودة الأرواح، مثل والدي امجد، وتبر فإنما يرمز إلى أن الوطن باق رغم الداء والأعداء. والمفردات رموز، وإيحاءات، كلفظة الليل والسواد والرماد. والشخصيات أيضا رموز وظلال. فالراوي بمأساته، إنما هو ظل للمثقف العربي، يرى نفسه محروما معدما، يشير صبح إلى قلبه: “هنا وتد صدئ قديم، عشت محروما، ولا أزال، يا أمجد ، ضمني”. ص 70 يعمل عملا لا يليق به، أو يفر بعيدا عن وطنه، او يعمل. مخبرا، “أهدأ يا مرقم يا قواد”. يقف في الصف الثاني بينما يتبوأ ارذل الناس أعلى المراتب. يعيش حقيرا ويموت حقيرا وقد عبر عن ذلك صبح الراوي في مطلع الفصل التاسع حين يقول: “أجمل أوقاتي قضيتها في كتابة نصوص غفل، تركتها للطل وانداء الليل، وهربت طول الوقت من كل شيء. لم اتحمل مسؤولية شيء. اكتفيت بالمراقبة. وقفت في الصف الثاني…اكتفيت بعمل لا يصلح لي. أضعت عمري …بعت الوهم. بائع وهم أنا. معلق في الفراغ، أرى الجميع، ولا يراني أحد”. ص 65

تلك هي مأساة المثقف، معلق بين الأرض والسماء متردد بين مطلق إرادته وحدود إمكاناته. وقد كثف الكاتب من النفي تعبيرا عن انعدام الجدوى والفاعلية لمن، من المفروض أن يكون في الصف الأول. وباعتماد الرمز والإيحاء والتلميح دون التصريح، يشارف الأثر الرواية الذهنية، مع استيفاء شروط الكتابة الروائية، وتوظيف أدوات فنية مثل الأسطورة والحكي الشفوي والخيال وغير ذلك.

والخيال في الرواية حكاية كبرى ذات نكهة خاصة. وقد تنوعت أشكاله، فنجد الخيال الواقعي والعجائبي والغرائبي باعتماد آليات مختلفة مثل التركيب والتحويل والتضخيم. ومنذ مطلع الرواية، تجد “أكثر رجال برلتراس يتحولون إلى أحصنة، ويطيرون. تنبت لهم أجنحة طويلة، ويطيرون …وأغلب النساء يتحولن إلى بجعات، ويطرن بعيدا. بعضهن فقط يتحولن إلى أفراس.” ص 7

” وأمامي على طول الطريق كنت أرى شجرا تنبت له أجنحة يتململ ويطير”. ص 21. وكل ما في الرواية يحملنا إلى عوالم غريبة، هي إلى عالم الخرافات والأساطير اقرب. كما تعددت مصادره. تجد الواقع والأسطورة والخرافة والتراث الحكائي الشفوي والشعر العربي والقرآن. فحدث حرق الضحايا أحياء، وهي طريقة صبح في القتل، له مرجعية واقعية. أ لم يشهد العالم مثل هذه الجرائم المرعبة بعد الثورات العربية؟  وفي الرواية يبعث الأموات أرواحا لا ترى لكنهم يقومون بأدوارهم مثل سابق عهدهم وهم أحياء. وحدث البعث هذا له مرجعية دينية. وكل مصادر التخييل وآلياته تسهم في إنشاء عالم سردي ممتع أخاذ.

   إن رواية برلتراس أثر أدبي لا يشتمل على الإمتاع والمؤانسة فحسب، بل يدل على حسن استغلال المؤلف نصر سامي للموروث الأسطوري الإنساني، والحكائي الشفوي، فظل الحكواتي يصحب أكثر من شخصية. ويدل ايضا على هضمه للأدب العربي والعالمي. وقد وجدت في الخطاب أصداء لأدباء وشعراء كثيرين، قدامى ومحدثين كأبي العلاء المعري والمتنبي والمسعدي والطيب صالح وماركيز وسارتر والسياب وغيرهم. كما يشف عن اتساع ثقافته الشعرية خاصة، وبعد نظره. وهي نموذج فريد في جنسه لا أراه إلا أهلا ليحصد أكثر من جائزة، ويترك أثرا في القارئ، بقدر ما يمتعه يثير بلابله وحيرته، خاصة في الفصول الأخيرة حين يظهر الراوي الجديد حيا الله حسن المعروف بالزيني. اذ يتشعب السرد وتتداخل الضمائر وتتوه بين ضمير الغائب وضمير المتكلم، ولا تدري أحيانا من السارد؟، صبح أم نسيبه حسن؟ يرجك السؤال ولا تظفر ببرد اليقين، إنما أقصى اجتهادك ضرب من التخمين. أيكون صبح قد أنكر ذاته، وأصبح من الاغتراب يحدث عنها بالغياب؟ هل يعقل أن يصبح إلى هذا الحد منكسرا, فينقسم نصفين؟ أتراه يعاني الانشطار والانفصام؟ هل هو مريض شيزوفرينيا؟ إن يكن، فلا غرابة فهو الذي نشأ مريضا وظل عليلا، فلم يجده إليه البرء سبيلا. يقول: “قالت لي بشرى ونحن أطفال نتلاعب في الصغر: “أنت مريض”. وقالت لي ضحى، وقد بدأ يورق في جسدينا لحم الغيب: “أنت مريض”. وقالت لي كوثر: “أنت مريض”. وأنكرت طيلة أربعين عاما. آخر مرة قالت لي ابنتي: “أنت مريض يا بابا”. فلم أنكر. مريض منذ الطفولة … والآن في برلتراس يستفحل في جسدي مرضي ذاك. تصبح لي روح داخل روحي.، وجسد داخل جسدي”. ص 66

على كل حال، لا يعتبر تداخل الضمائر بدعة أو عيبا. فهو من تقنيات الرواية الذهبية، يعتمد للتعبير عن تمزق الشخصية، وعمق الصراع الداخلي، خاصة اذا كانت في مثل مأساة الراوي يئن تحت ثقل الإحساس بالصغار ورخص الدم. يقول بعد قتله ماس: “قتلتك بدمي الرخيص، لو كنت حرا حقا ما قتلتك. .. نذالتي تنبت لها عروق، العروق تضرب في الأرض. تثمر في القاع ثمرا اسود مسموما أعمى ينداح أمام الكل. وأنا في داخلي أرض، في داخلها عرف نذالات ممدود، ولي ثمرات سود في لحمي”. ص 88. ويتعمق الإحساس بالمأساة فيعبر عن تمزقه، بتداخل الضمائر، في حوار باطني: “لم أفهم إلى الآن من أين حفظت ماس ذلك الصوت …لا جدوى من التذكر، أهدأ يا مرقم، يا قواد، أهدا. راحاتك طالت والمسوخ ينتظرون. اهدا يا بصاص”. صص88_89.

وتزداد الحيرة عندما يتحدث الراوي الجديد عن صبح، وهو الذي يعرفه ويعرف حياته السابقة كلها، ويبدي رغبته عن الحكي عنه. ومع ذلك يسرد بنفس اسلوبه ويظهر مثله في النذالة والحقارة، حتى ليخيل أنه نسخة منه بالكربون. أترى المبدع قاصدا أن يربكنا أم يعتمد ضربا من التجريب حتى يزرع في القارئ روح الثقافة، ويحرك الساكن فيه، فيحمله على الوعي بخطورة المسألة؟ وكم شدني الخطاب، وحملني إلى عوالم قصية، فيها السحر، وما يحمل على التفكير في جملة من الثنائيات، (الحلم والواقع، التشاؤم والتفاؤل، الخير والشر، الأصالة والمعاصرة وغير ذلك). و”القارئ لا يقرأ إلا ما كان مكتوبا في وجدانه اساسا”. ولعلك واجد نفسك فيها.

ولا شك أن الرواية ستترك علامات وأثرا في وجدان قارئها وفكره، خاصة المثقف العربي الذي يتماهى وضعه ومأساته، ووضع الراوي ومأساته إذ يجد نفسه رجل أمل لا رجل عمل، يكتفي بالمراقبة، لان القرار والسلطة بيد آلة عمياء، وعصابة من المسوخ،” أظلمت الدنيا حقا في أيامهم”، إذ كانوا “يتسترون على أخطائهم، ويساوون بين الضحية والجلاد، ويطبقون القانون على الضعيف فقط. وما كانوا يأخذونه بالغصب، صاروا يأخذونه بالقانون”.ص222. أما المثقف فله أن ينطح الصخر. وكم من مثقف جن أو لازمته علة أو مات من القهر والكمد او انتحر.

 وإذا كانت برلتراس تعني بر الصحف القديمة (الأطراس) مثلما وضح ذلك امجد في الفصل التاسع، فاني الفيتها تعني بر الأثر والعلامة، مثلما أوحى لي العنوان ونطقه، إذا جمعت بين الدال العربي (بر) والدال الفرنسي( la trace ). وكل ما فيها موسوم، ذو علامات واشيات، بالكي أو بالحرق أو الترمد أو الترقيم. وجميع هذه المصادر ذات رموز تحيل إلى النار القادرة على إبادة كل مظاهر الشر، والخضوع والإسلام. ولعل أس الثورة شرارة.

وإذا كان الحل عند المعري كامنا في الطوفان من خلال قوله

والأرض للطوفان مشتاقة   علها من درن تغتسل:

فإنها في الرواية تحتاج إلى نيران تطهر من النجاسة.

…”الجدة هنا لا تكمن في النار، فكل فرد في برلتراس يترمد ببطء، والحرق نوع من التطهير”.ص 124 وانى لبرلتراس المتحولة، ماء يغسلها من الأدران، وهي التي ما ماجت فيها بحور، ولا جرت بها نهور، إلا من دماء، ولا اخذتك بها ورود وزهور، أو سقسق فيها عصفور؟ وحتى تضاريسها فهي جبلية وعرة لا تلين بها الصخور. “فالنهر عندما كان هناك نهر، كان يغسل المدينة. والورد حين كانت هناك أحواض الورد، كانت تضفي على الشرفات في المساءات البليلة منظرا مغويا، أما الآن فخرابات يعوي فيها ريح الموت”. ص 79

وإن اختلفت وسيلة التطهير، فإن صدى المعري حاضر. ففي نهاية الرواية، نجد قصة الراوي مع الشاعر الضرير، يروي له حكاية شرمباق وشاق؛ “زوجان كانا في أول عهدهما شابين ساذجين أحمقين”. كانا يفرقان هداياهما على الشجر والصخر والحيوان، رقةً ورحمةً وشفقةً. فهل هذه القيم خرافة كبرى أم هي حمق وسذاجة، أم هي وهم وخيال لا يوجدان إلا في أساطير الأولين؟. وما أشبه الأسماء والأحداث بأجواء بلاد الواق الواق، في حكايات ألف ليلة وليلة! مما يدل على أن الأسطورة والتراث الحكائي الشعبي، والخيال مهما تنوعت مصادره واختلفت أشكاله، ما هي إلا وسائل فنية اعتمدها المؤلف للتعبير عن الواقع، وفق رؤيته الخاصة وطرائقه في تصريف اللغة.

ولنا أن نتساءل لماذا اختار الكاتب شاعرا ضريرا؟ ألا يذكرنا ذلك برهين المحبسين أبي العلاء المعري، بما يختزله شعره من فلسفة التشاؤم وسوء الظن بالماهية الإنسانية إلى حد تفضيل الموت على الحياة؟

فيا موت زر إن الحياة ذميمة   ويا نفس جدي إن دهرك هازل.

وأي حياة لمن يعيش العبث “لا حي ولا ميت”، وهو فاقد معنى الحياة. “أما أنا، فمن أنا؟ حياة أفضل منها الموت”. ص 199 وهو في هذا يكثر من النفي تعبيرا عن الإحساس بعدم الجدوى والفاعلية. وربي عيش أخف منها الحِمَامُ، لذلك طغى على الشخصيات التشاؤم. :”وانا بالفعل متشائم من هذا العالم المشؤوم الذي عشت فيه”. ص186

ولا نستغرب إذن أن تنغلق الرواية على أربع جميل منفية، وقد مات في الراوي كل احساس، إحساس بفقد الحنين وموت الخوف من الوقت وضياع الذات والمعنى:” لا أعلم الآن على وجه اليقين من أنا. ولا يهزني الحنين إلى شيء، ولا يخيفني الوقت، ولا شيء يعنيني”.

لا شيء سوى العدم العدم

والموت هو الموت الباقي.

لكن هذا التشاؤم ليس وليد إحساس بانسداد الآفاق، أو يأس مطبق إلى حد القنوط، إنما هو تشاؤم العقل، يرى التفاؤل ضربا من الغباء والحمق. هو حسب رأيي فلسفة تقر بأنه “فرصة الخلاص الوحيدة”. هو تشاؤم الوعي. تشاؤم قائم على الفكرة، وهو القادر على تغيير العالم. وعلى المفكرين إذن أن يتجشموا، وأن يتحملوا مسؤولية التغيير. ولعل هذا هو جوهر الرسالة في الرواية. وفي هذا السياق يقول الأستاذ عقيل الخطيب:” إن رواية برلتراس هي رواية مرعبة في قتامتها، مذهلة في حبكة سرديتها، سوداوية في مضمونها، لكنها بديعة في جوهر رسالتها”. مجلة قلم رصاص الثقافية.

وقد اختار المؤلف أن يضمن في التصدير الثاني قولة رشيقة لجوزي ساراماغو. فيها رؤيته الخاصة وتصوره للتشاؤم ومن ورائه يعبر المؤلف عن تبنيه ذات الموقف. أما التصدير الأول، فجملة يحدد فيها صاحبها جيل دولوز ماهية البشر:”نحن صحارى تسكنها قبائل ووحوش ونباتات”.

وليس الجمع بين التصديرين اعتباطيا، بل هو اختيار، إذ يمثل الأول مبررا للثاني. ذاك أن طبيعة البشر في ترددهم بين الآدمية والحيوانية، وما قد يعتريهم من تصحر وتوحش سبب كاف للتشاؤم.

 على اني ارى رغم القتامة والظلمة، بصيصا من الأمل. ذاك أن صبحا لم يمت. ولعله يشفى، وبموت الخوف من الوقت لدى حسن الراوي، قد يامل أن تنبثق فيه بذرة التحدي والشجاعة. وكأنما يبدو لي، في منطقة وسطى بين التفاؤل والتشاؤم، أو هو متشائل على حد عبارة إيميل حبيبي.

وعسى القادم يزيح القتامة، وتحل الأفراح بديلا عن الأحزان، فيطالعنا مبدع يوما ما يكتب عن “برلعراس”. وهذا موكول لذوي الفكر النير، ورهين صحوة الوعي الحر، وقدرة المثقف على تحدي الحدود والعراقيل. “ويهمس لي (أمجد) في هدوء: “قد خسرنا كل شيء، لكن هل يجب أن نخسر المستقبل؟”.

  هكذا قرأت رواية برلتراس، والفيتها صرخة من مؤلفها إلى كل مثقف تخاذل عن واجبه، واكتفى بالمراقبة، سواء في الداخل أو في الخارج. هي صرخة فزع وانين، اذا ما لم تاخذه إلى وطنه نسائم عشق وحين.

وقد تكون فيها نظرة استباقية. فما أشبه أحداث برلتراس بما يحصل في غزة والقطاع الآن، وما حدث منذ السابع من أكتوبر من جرائم ومجازر، وتفنن في التمثيل بجثث الضحايا، مثلما فعله قاتل تبر! وليته اكتفى بالقتل، بل عَنَّ له أن يقطعه أطرافا، ويطير بالأشلاء، حتى تدق أبواب السماء، فتمطر قطع غيار لحمية. ويظل المشهد حديث الناس، يظنون أنه ابتلاء.

 والرَّزِيَّةُ أن كل ما يحدث من مجازر وجرائم تعذيب في غزة، يقابل باللامبالاة. فما من محركٍ ساكن. والجميع قد كفّ عن الكلام. والصمت الرهيب مطبق كأنه الجثام.

والعالم المنكود ليس يضيره*** أن يستباح دم الولائد في السُّرُرْ

فيا للبشاعة، ويا للفظاعة!

 بيد أن المؤلف استطاع بحنكة مقتدر أن يحول المرعب والقاتم من الأحداث والمشاهد إلى ما به يُعْجَبُ القارئُ فيستمتعُ. والصور على قبحها وسماجتها، استحالت جميلة. وهو في ذلك يسير على خطى كبار الشعراء في تجميل القبيح، مثل المتنبي وهو يصور مشهدا في الحرب مرعبا، تصويرا مُعْجِباً مُطْرِباً.

نثرتهم فوق الاحيدب كله كما نثرت فوق العروس الدراهم، ولذلك وجدت الرواية من الناحية الفنية، رغم قتامتها المرعبة، حدائق فنون مختلف ألوانها. فعند تجوالك بها يغازلك الغناء بأصوات قدت من بدوي اللحن وعامي الشعر. تصادفك مومياوات منحوتة على الصخر. وتُفْجِؤُكَ تصاوير ورسوم بغير ريشة أو حبر. وتحملك الكلمات إلى غريب القص وفني النثر. أما حدائق الشعر القديم، وقد أختار منه المفضليات، فأنت مسافر فيها بغير جواز للسفر. ولا نستغرب أن يهدي الكاتب روايته إلى محققي المفضليات الغائبين عبد السلام هارون وأحمد محمد شاكر.

فكل التقدير والامتنان للمبدع الفنان “نصر سامي” الذي أتحفنا بهذا الأثر، وقد رد فيه الاعتبار إلى المهمل من اللغة والمنسي من الأشعار. وأدان من سلك سبيلا إلى الاستلاب والصَّغَار.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.