أجيال دون أوزار الحرب

0 119

أيوب إبراهيم – الدنمارك

بين الجرح والصمت، بين الماضي الذي لم ينقضِ والمستقبل المعلّق في المجهول، يقف الناجون من الحرب مثقلين بأوزارها، يحاولون العبور فوق أنقاضها، بينما تسكنهم ندوبها التي لا تُرى.

إلى كل من نجوا من الحرب بأجسادهم، لكن أرواحهم ما زالت هناك… الحرب لا تخلف وراءها أنقاض المدن فحسب، بل أنقاض الأرواح. تترك في النفوس ارتجافًا يسري في الظلال، رهابًا يختبئ في التفاصيل اليومية، في الأصوات المرتفعة، في الأحلام التي استحالت كوابيس، وفي الخوف الذي يزحف بلا استئذان حتى إلى أكثر اللحظات طمأنينة.  أرى الجميع ضحايا، ليس فقط لسياط الحرب، بل لأدلجة ممنهجة وتدجين طويل صاغه النظام. ضحايا تماهوا مع القهر حتى صار جزءًا من ملامحهم، فبات البعض يتفاخر بالركوع تحت البوط العسكري وكأنه وسام شرف، بينما يختبئ آخرون خلف الصمت خشية أن تطحنهم آلة البطش.

لم يعد الرهاب حكرًا على العلاقة بين الجلاد وضحيته، بل صار متأصلًا بين السوريين أنفسهم، بين من يبحث عن النجاة، ومن يرى في نجاته خيانة. هذه الحرب لم تكتفِ بتمزيق الجغرافيا، بل أمعنت في اقتلاع الثقة من القلوب، وجعلت الخوف ميراثًا يتوارثه الأبناء كما تُورَّث الأسماء.” والعنف الذي وُئد طويلًا، ماذا لو استفاق من رقاده؟ ماذا لو أُطلق له العنان؟ كيف سيفيض، وفي أي الجهات سيتفجّر؟ هذا العنف ليس محض غريزة، بل إرث عقودٍ من القهر والتهميش والخذلان. إن لم يُواجه بوعي، فلن يكون سوى إعادة تدوير للجريمة، صدىً لحروب لم تنتهِ وإن تبدّلت وجوه أطرافها. الإرث ليس مجرد ممتلكات تُورَّث، بل هو أيضًا ندوب غير مرئية تسرّبت عبر الأجيال. نحمل في صدورنا أوجاعًا لم نعشها، لكنها تتغلغل فينا كما يتغلغل الملح في البحر، كأن الألم يجري في عروقنا، وكأن الخوف يتوارث كما يتوارث الدم.

تبقى هذه الجراح نازفة حتى تصل إلى من يقرر أن يكون آخر السلسلة، من يختار المواجهة بدل الهروب، من يدرك أن الشفاء ليس ترفًا، بل قرار مصيري لا يقل شأنًا عن النجاة.” نحمل جراح الحرب، لا من تجاربنا فحسب، بل من آبائنا وأمهاتنا، حتى باتت جزءًا من هويتنا العائلية، والشعبية، والدينية، والثقافية، والوطنية. نشربها كما يُشرب الماء، ونسقيها لمن بعدنا دون أن نعي أننا بذلك نُعيد إنتاج الدمار بدلًا من التحرر منه. هل نفعل ذلك لنحمي أطفالنا؟ أم لأننا نخشى أن نكون آخر السلسلة؟ أن نكون أول من يتوقف، أول من يشعر، أول من يعالج الجرح بدلًا من توريثه؟ الحرب لا تنتهي حين يصمت الرصاص، بل تبقى متربصة في الصدور، في العيون التي فقدت الأمان، في الأيدي التي ترتجف رغم هدوء المشهد، في الأرواح التي لا تزال عالقة هناك.

ما مررتم به ليس ضعفًا، وما تشعرون به ليس شيئًا ينبغي تجاوزه وحدكم. لا ترثوا الألم، ولا تتركوه إرثًا لمن يأتي بعدكم. لا تجعلوا الخوف خيطًا ينسج حياة الأجيال القادمة. ما خلّفته الحرب فيكم يحتاج إلى مواجهة ووعي، لا إلى إنكار وصمت. العلاج النفسي بعد الحرب ليس رفاهية، بل نجاة.

لا تحملوا أوزار الدمار وحدكم، ولا تجعلوه قدرًا محتمًا لمن بعدكم. الشفاء ليس حلمًا مستحيلًا، بل حق، وخيار، ومسؤولية. ليكن الجيل القادم بداية جديدة، لا امتدادًا للألم.” “لا يكفي أن نعيد بناء المدن بعد الحرب، بل علينا أن نعيد بناء الإنسان. مواطنٌ محطمٌ نفسيًا لا يمكنه أن يصنع وطنًا مستقرًا، ومن يحمل في داخله إرثًا من الرعب والخذلان لن يكون قادرًا على بناء غدٍ مختلف. إن التعافي النفسي ليس رفاهية فردية، بل هو حجر الأساس لمجتمعٍ سليم، لوطنٍ لا يعيد إنتاج الألم، ولأجيالٍ تبدأ حياتها دون أوزار الحروب التي لم تخضها.”

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.