«MP3» كراب «الأخيرة» فتنة التكنولوجيا في العرض المسرحي

ورشة فن - مسرح

0 854

خالد الرويعي – مسرحي بحريني-سماورد

يضع صموئيل بكيت في مسرحيته (شريط كراب الأخير) الرجل العجوز وجهاً لوجه أمام ذاكرته، عساها أن ترمم الصدع الذي حل بها، صمت كبير والشريط لازال مستمراً.
(كراب) في هذه المسرحية ينصت أيضا لذاته، يتأملها بشغف العاجز؛ لكن تصحيحها الآن لم يعد ممكناً، ففي الذاكرة مازالت الصورة حاضرة بكل تفاصيلها. (كراب) لحظتها كان يعاين صورة قديمة لصوت قديم وبحال آني ليس أفضل مما سبق.

لعلي من (شريط كراب) أنظر قليلاً إلى شيء آخر. بماذا أسعفت التكنولوجيا والمتمثلة في شريط كراب بذاكرة ومخيلة كراب نفسه؟ هل هذه التكنولوجيا التي نتحدث عنها؟ ربما؛ لكن بقليل من التأمل سنكتشف بأن (كراب) كان يتأمل حديثه. لو أن مثل هذه الكلمات تتغير إلى الأفضل؟ لو أ ن المشاعر كانت بذات النضج الذي أعيشه الآن؟ كلها أسئلة تحاكي نفسها، وهي ذاتها عندما نتأمل في المرآة.

لكن (العالم الذي صنعنا قد انقضى، والعالم الذي صنعناه عالم جديد، عالم لا نملك سوى قدرة ضئيلة على فهمه).(1)

ولذلك، فإن ما نصنعه من قيم جمالية جديدة على مستوى التلقي باستثمار التكنولوجيا، علينا في البداية أن نستوعبه بشكل مثالي – حتى لا أقول معقولاً فحسب – فالتماهي في التكنولوجيا لم يعد ترفاً الآن، لقد أصبح واقعاً وعليه فإن أساليب اكتساب العادات البشرية بما فيها الفنية ستتغير وفق ما يتغير تكنولوجياً أيضا.

ولكن يبدو أن ذلك سيكون بطيئاً وفق ما تمليه المرحلة من معطيات؛ فالاندفاع والإحساس بفاعلية التجربة يمثلان شكلاً من أشكال الحرية. أما الاضطهاد الذي تمارسه الذهنية العربية فإنه يخفف من نقاء الشكل الأسمى للحرية؛ وبالتالي تكون عناصر الدخول في متاهة التكنولوجيا قاصرة؛ ولكن يبدو أن الأجيال الجديدة، وإن عصفت بها ذهنية الاضطهاد، إلا أنها تمشي في طريقها مرحبة بعنف التكنولوجيا. التكنولوجيا لا مفر منها أبداً. وهي باتت منطقا إنسانياً للتحول والتطور كحال الطبيعة ونشأتها وتأثيرها في الإنسان. وعليه، فإن التمازج مع التكنولوجيا يجعل من فضاء المخيلة أوسع وأرحب. وربما هو منطق آخر في تأمل تحركات المخيلة ومراقبتها عن قرب كحال تأمل (كراب) شريطه.

إذا افترضنا أن الحاسب الآلي يضعنا بالقرب من مخيلتنا ونظرتنا للعرض المسرحي المجرد، فعلينا بالضرورة أن نرى ما يراه الحاسوب. التشكل الجمالي (الترفيهي) والحسابي للعمليات المعقدة في الجهاز وازع مهم لتقليب أساليب وطرق التفكير في العرض المسرحي، إذ يرجع ذلك إلى أن (الحاسب الآلي يشكل تحدياً، لأنه يفسد إرادتنا بل أيضا طريقة تفكيرنا. انه يقلب بيروقراطيتنا وطرائقنا العقلية رأساً على عقب. في كل خطوة يضع الحاسب بحوزتنا الآلاف المؤلفة من المعلومات التي تغمرنا وتعودنا على حساب الملايين بل والمليارات كما لو كانت مجرد وحدات رقمية مفردة.

الحاسب يغير أبعاد وسرعة حياتنا، سواء أحببنا أم لم نحب فإنه يخلق في المجتمع شبكات ليست لها أية علاقة بأي شكل من الأشكال بالشكبات أو البنى التقليدية، فلا يمكننا الاستمرار كما كان عليه الحال من قبل. وببساطة، ولأن الحاسب موجود هنا فلا يمكن تجاهله).(2)
وبهذا، يكون محور حديثنا حول (التوظيف الدلالي والجمالي في التكنولوجيا في الرؤية الإخراجية) مدخلاً مهماً لإمعاننا في أسئلة من هذا النوع، ودراسة ما يخص المعنى الدلالي للعلاقات في الرؤية والعرض المسرحي، وبحيث يمكننا دراسة المتغيرات التي طرأت عليها. كما أن استثمار طرق التحليل والتفكير من بين ما هو (تناظري analog) القائم على الموجات إلى (الرقمية digital) المعتمدة على الأرقام، يجعلنا نمعن في ماهية التحول في طرق رؤيتنا إلى العرض المسرحي، وعندها يكون باستطاعتنا أن نحول طريقة التفكير في العملية المسرحية من (التفكير التناظري) إلى (التفكير الرقمي). وبهذا، تتشكل حساسيتنا تجاه المخيلة مبنية على لعب الأرقام وليست الموجات، ومن ثم استثمارها في ما طرحه الناقد الألماني (هانز روبرت ياوس 1921 – 1997) باعتباره أحد منظري جماليات التلقي بشأن (الفراغات الصالحة للعب Spaces For Play)، وكيفية ملء هذه الفراغات بطريقة ذات دلالة، وكيفية الاعتناء بالتربية الجمالية واستخدامها بوصفها مصدرا لإمداد الإنسان باللعب الحر باعتباره مبدأ جوهرياً في المسرح.

’’كيف تنتج الثقافة في عالم التكنولوجيا والعولمة. وهذا التساؤل في حد ذاته يهدد -أو يعمق- نظريات التلقي التي تعتمد على بناء واستقبال المتلقي في إعادة إنتاج العمل الإبداعي’’

على الجانب الآخر، هناك أيضاً مفهوم الصناعات الإبداعية، وهو مفهوم يسعى بحسب (جون هارتلي) إلى التقارب المفاهيمي والعملي بين الفنون الإبداعية (الموهبة الفردية) والصناعات الثقافية (النطاق الجماهيري) في إطار تقنيات إعلام جديدة(3).

العالم يتساءل الآن عن وضعية الثقافة. إذ كيف تنتج الثقافة في عالم التكنولوجيا والعولمة. وهذا التساؤل في حد ذاته يهدد -أو يعمق- نظريات التلقي التي تعتمد على بناء واستقبال المتلقي في إعادة إنتاج العمل الإبداعي، فالألعاب التفاعلية مثلاً، والتي تعد ثقافة مختلفة عن ما هو سائد تؤكد لنا مدى استجابة الآلة بأفقها المفتوح (المغلق) مع العناصر البشرية.

في لعبة (Play Station) قامت شركة (Sony) بتحديث برمجيتها بما يتوافق وإنتاج العالم التفاعلي. وكل ما عليك سوى الوقوف أما التلفزيون واللعب بكامل أجزاء جسمك لمحاكة اللعبة، وفق استجابة نموذجية مختلفة.

وهذا أيضا يحيلنا إلى الإمكانات المتاحة التي يقدمها (الواقع الافتراضي Virtual reality) وهو الأجواء التي يحاكيها الكمبيوتر باعتبارها مقاربة للواقع. إذ يقوم هذه النظام على إمكانية الانغماس من خلال اللعبة أو التدريب؛ لكن ألا تحيلنا فكرة الانغماس إلى فكرة التماهي مع العرض المسرحي في أحيان؟ ألا يمكن استثمار هذا الواقع الافتراضي باعتباره جزءا رئيساً من المشهد المسرحي؟ ربما.

مسرحياً، ترتبط النظرة الجمالية لأي عرض مسرحي بالجسر الممتد بين المكون الإخراجي من جهة والمكون السينوغرافي من جهة أخرى، وهما عنصران رئيسان في هندسة الفضاء المسرحي.
ولقد تطورت مكونات الاشتغال بالفضاء المسرحي بتطور إمكانات الأدوات المساعدة. وفي أحيان كثيرة، تكون المخيلة دافعاً قوياً لابتكار هذه الأدوات، لقد كانت الشمس حتى القرن السادس عشر هي مصدر الإضاءة الوحيد بعد استخدام النار في العصور القديمة؛ لكن عام 1514 شهد أول عرض مسرحي مضاء بإضاءة صناعية على يد المخرج بيروتسي (Baldassarre Peruzzi 1481-1536) (4)، وتوالت بعد ذلك الرغبات في الخروج من أسر المصادر المتاحة للإضاءة.

وعليه، فإن كل ما يستحدث من أدوات مساعدة ما هي إلا نتاج طبيعي لمخيلة المبدع. وهذه المخيلة تستمد مقوماتها من التجربة وتبادل الخبرات وأسئلتها. ولذلك، نشهد في العصر الحالي ثمرة لمخيلة لهذا المبدع؛ لكن هذه المخيلة ليس بالضرورة مطلقة لعنان أخيلة أخرى، فلربما تكون حصاراً أيضا لمن ستقف بهم المخيلة إلى حدود الجاهز.

التكنولوجيا التي يشهدها العصر الحديث تم تصميمها لتلبي رغبات البشرية؛ لكنها في الوقت نفسه تقفل عتبات المخيلة لما تتمتع به هذه التكنولوجيا من امتدادات. والحال نفسه أشبه بالقفص الكبير. فإذا لم يكن الفنان المسرحي مستوعباً لمثل هذه المتاهات، ستكون الممارسة الجمالية للعرض المسرحي ما هي إلا صدمة وانبهار لما تستطيع التكنولوجيا أن تحققه. وعليه، فإن الركض وراءها سيكون بمثابة رغبة جامحة مصدرها فتنة التنكولوجيا. وستكون هذه الفتنة أشبه بحالة الاستهلاك التي يتمتع بها مستهلكو الجيل الثالث من الهواتف النقالة؛ في حين أن مثل هذه الهواتف تتعدى فكرة إرسال واستقبال المكالمات، وباستطاعتنا حينها أن ندير – تقنياً – عرضا مسرحياً بأكمله بواسطة مثل هذه الهواتف؛ فإمكانيات الصوت والصورة وتقنيات الإرسال والاستقبال السلكية واللاسلكية تجعل من الهاتف نموذجاً فريداً في إدارة المشهد المسرحي بكل يسر.

ماذا نريد من التكنولوجيا بمعناه السائد؟

أميل هنا إلى التعريف العلمي للباحث (أر. إيه. بوكانان) (5) حيث يعرفها بأنها دراسة الأساليب الفنية – التقنيات – البشرية في صناعة وعمل الأشياء. إن التكنولوجيا تصبح هنا بمعنى الدراسة والتفسير للتقنيات لا أن تمتلك التقنيات ذاتها وهى موضوع دراستها. إنها تدرس وتبحث عن هذه التقنيات بأسئلة المربع الذهبي المعروف: متى؟ وأين؟ ولماذا؟ وكيف؟
في التكنولوجيا ما يغري وما يفتن الفنان عن مشروعه الرئيسي. ولقد لاحظنا كثيراً من التجارب التي مارست تشويها متعمداً في مشروعها المسرحي لمجرد الانسياق وراء هذه الفتنة. يأتي المخرج المسرحي أمام باب النص المسرحي الذي تمتد خيوطه باختلاف قراءته؛ لكن هذا المخرج يقطع هذه الخيوط لمجرد الجاهز من الأشياء، فنراه يختزل حالات النص بصورة مرئية مثبتة على جهاز العرض لتضيع حينها الحالة الجمالية لفضاء العرض من جهة، وحالة الممثل البشرية من جهة أخرى.

من المسرح الكازاخستاني
من المسرح الكازاخستاني

إن فكرة استثمار العناصر أو الأدوات التكنولوجية ليست بالأمر، لكن مدى توافقها مع العرض المسرحي هي المسألة المهمة في ذلك. فحساسية الضوء والمشهد في جهاز العرض (data show projector) – مثلاً – تختلف كثيراً عن حساسية الكائن في مكان العرض. الصوت وتقنياته أيضا، ماذا نريد أن نُسمِع المتلقي؟ هل الصوت البشري؟ التقني؟ المحسن؟ هل الصوت بتقنية المسرح المنزلي هو ما نريد؟ أم أن مصدر الصوت يجب أن يظهر من مقدمة المسرح؟ بحسب وجهة نظري، لا يوجد على المسرح أي شيء بمحض الصدفة. إلا إذا كان ذلك ما يريده العرض المسرحي؛ ففي الصدفة هناك (رسالة) وعلاقات وشبكات يتم بناؤها بين العرض (كمرسل) والمتلقي (مرسل إليه)، وهي حالة أشبه باللعبة المسرحية يكون فيها العرض مرحلة من مراحل اختبار ردود أفعال المتلقي.

لكن على الجانب الآخر، أجدني غير متعاطف البتة في ما تفترضه المسلمات في مكان العرض المسرحي. فأحياناً، يلجأ المخرج إلى تعميم المايكروفون على خشبة المسرح – مكان التمثيل – لمجرد ضرورة وصول صوت الممثل لأكبر قدر ممكن من الجمهور؛ لكن هذا المخرج لم يسأل التالي: ما الفرق بين (المونولوج monologue) أو (الديالوج dialogue) إذا كان كلا الصوتين سيصلان إلي من نفس المصدر؟ هل عليّ كمتلقٍ أن أستسلم لمسلمات كهذه؟ بالنسبة لي، لن أسلم بها؛ لأنها وببساطة هذه هي رسالة العرض، وسأدخل حينها في تحليل الصوت العابر من خلال الأسلاك وليس الصوت البشري، حينها سأسأل أسئلة العصر وبين ما هو مسجل ومعالج بالتقنية. سأفتح الاحتمالات على آخرها. وعندها، سيبدو ذلك عائقاً في طرح أساليب جديدة في بناء التلقي المسرحي. وسيكون على المسرحيين عندئذ أن يعالجوا الخلل البالغ الذي أحدثوه في مخيلة المتلقي، فلا يمكن أن تكون المسلمات أدوات قابلة للاحتمال، ولا الاحتمالات قابلة للمسلمات.

إن (التكنولوجيا تحسن من الأدوات التي تسمح للإنسان بتشكيل المحيط الذي يعيش فيه، والفن يقدم لنا أجوبة أصيلة عن الأسئلة التي يطرحها المحيط الذي يعيش فيه، ولذلك هناك توحيد بين التكنولوجيا والفن في العصر الراهن، لأن التكنولوجيا تستعين بالفن في تعديل وتحويل البيئة التي تتدخل فيها، والفن يهتم بشكل أساسي بدراسة العلاقة التي تنشأ بين الإنسان والمحيط الذي يعيش فيه). (6)

وعليه، فإن الفن الذي يهتم بدراسة العلاقة التي تنشأ بين الإنسان، والمحيط الذي يعيش فيه، لابد أن يعادلها تطورٌ من ناحية الجهد البشري والذي يوازي بذلك حركة التفكير مجتمعياً؛ فعبر أساليب التفكير في النظرة الجمالية للعرض المسرحي، سيحتاج المجمتع من خلال ذلك إلى مشروعات تنموية يكون المسرح رائداً من روادها لاستنهاض حواس أفراد المجتمع عبر وسائل عدة لكيفية التعامل مع هذه التحول الجديد. لقد حرصت نسبة كبيرة من العروض المسرحية على اعتماد حالة الاستهلاك بعيداً عن السير في طريق المنتج أو المرسل لطرق استخدام التكنولوجيا، فالجاهز من الوسائل التكنولوجيا يضع الفنان في أحيان كثيرة في منطقة العاجز عن محاورة هذه الوسائل، ويكون بذلك أسيراً كما أسلفنا لفتنة التكنوجيا.

كما أن الطرق المثلى في استثمار التكنولوجيا عن طريق التفكير أو الاستخدام يحفز الجنس البشري على مواكبة ذلك بالسرعة ذاتها دماغياً. إذ ربما يحتاج الإنسان إلى الجهد في ذلك كعامل قوة؛ ولكن دماغياً باستطاعته مسابقة هذا كله، فالذي أوجد ذلك باستطاعته ملاحقته.

وعليه فإن التوظيف الدلالي والجمالي عبر التكنولوجيا في الرؤية الإخراجية لا تتحقق بمعناه الدلالي والجمالي إلا إذ توافرت عدد من القيم الجديدة لعصر جديد.

المخيلة عليها أن تبقى رياضية، وأن يكون فهمها للأشياء رياضياً أيضا؛ ولهذا سيكون على المبدع المسرحي تحوير فكرة الاستخدام التكنولوجي لما لم يخلق له أصله من الناحية الوظيفية. أجهزة العرض (data show projector) عليها أن تتماهى مع الفضاء المسرحي بما يضمن للعرض نسيجاً مترابطاً وخلاقاً في الآن نفسه. وهذا ينطبق على المؤثرات الصوتية أيضاً. قنوات الصوت في الإعداد الموسيقي والسينمائي -مثلاً- لم توضع ترفاً بل وجدت استجابة لوضع المتلقي في الحدث نفسه. طلقات الرصاص أو بعض الأصوات الصادرة من خارج الكادر لا يمكن تلقيها من المكبرات الأمامية، فصوت الرصاص سيتمد بنا من المصدر وحتى الجهات التي ستنطلق إليه.

ولتوضيح فكرة المخيلة (الرياضية)، أحاول هنا أن أطرح أعمال المخرج البولندي (ليزك مونجيك Leszek Madzik) نموذجاً. في عروضه التي تتبع فلسفة خاصة إزاء العصر، ينقلنا بكثير من العناية لطرق تفكير واستخدام التكنولوجيا. عروضه المسرحية تعتمد بشكل رئيسي على النظرة الجمالية للمشهد المسرحي إذ تتمتع بحساسية عالية تجاه استخدامه للإضاءة.
وهذه الحساسية تمثل نظرة جمالية قائمة على مبدأ التأمل وتناسق الفضاء المسرحي؛ لكن فيها ما يشي بتعميق فكرة التعامل مع التكنولوجيا. الفكرة ليست في استخدام أكثر الوسائل المتاحة لإنتاج العرض، وإنما في استثمارها بشكل واع ومدروس، فـ (مونجيك) لا يستخدم في المشهد المسرحي سوى الإضاءة والعتمة؛ لكنك فور مشاهدتك للعرض ستشك لحظتها بأن ذلك مشهد مسرحي خالص من دون أي عناصر مساندة؛ فالإيقاع والأحجام والأبعاد والعناصر والبطء وحساسية الضوء، كل ذلك مكون لصياغة شكل مهندس تكنولوجياً بحساب آلية التكفير وليس استثمار الوسائل.

الذين يمارسون العمل المسرحي متماهين مع التكنولوجيا، لأبعد درجاتها، من دون الدخول في تفاصيل هذه التكنولوجيا سيكونون أسرى لها حتماً؛ فالعمل المسرحي لا يعتمد على الجاهز من الأشياء بل هو رفيق التجربة والاختبار. لقد (غزت التكنولوجيا خشبة المسرح، ودمرت البعد الإنساني فيه، وقامت محاولات لخلق مسرح بلاستيكي، كنوع من التصوير الحركي البديل للكلمة المنطوقة. ومثلت المسرحيات بدون حوار أو إضاءة أو ممثلين، باستخدام الدمى والعرائس التي تدعمها مؤثرات ضوئية متعددة.. لقد حاولت التكنولوجيا أن تحوّل المسرح إلى عرض ألعاب نارية، أو استعراض تافه).(7) لكن علينا هنا أن ننتبه إلى سمة مهمة في بعض العروض التي استطاعت التكنولوجيا أن تسلبه من العرض المسرحي، وهو (الإبهار). الإبهار ليس عيباً أو نقيصة، إنما الهيمنة هو ما استطاعت به التكنولوجيا أن ترسيه، وباتت هي مخرج العرض الرسمي بدلاً من المبدع.

الإبهار حقيقة هو ما يجذب المتلقي إلى مناطق غير مألوفة، وبه تكون حالة الانغماس كما أسلفنا سمة مهمة للعرض. الأمر أشبه بسيمفونية، يعرف فيها الموسيقي أين تكون مناطق الذروة والاسترخاء، أين تكون مناطق الصمت، وبأي آلات سيبدأ بها بعد كل هذا الصمت.

أما على صعيد التجربة، فاستثمر في العروض التي أقدمها عناصر وطرق تكنولوجية تساعدني على ترجمة الكثير من الأفكار، فهناك ما أقوم به قبل العرض وأثناءه، وبما يحفظ للعرض خصوصيته.

عبر القراءات المستفيضة حول النص، استجمع ما يمكن قراءته أدبيا وبما يضمن تعميق رؤيتي للتصور(السينو/إخراجي). وعندها، تبدأ ملامح الخيوط الأولية للشخصية في الظهور. وما إن تبدأ التدريبات، حتى يلازمني الخيال إلى أبعد درجاته؛ ففي المراحل الأولية لهندسة الفضاء أحاول رسم ذلك كله عن طريق الكمبيوتر بتفاصيله اللونية وأبعاده. إذ ثمة مساجلات تدور هناك، بين الإنسان والآلة. ومن خلال تجربتي في التصميم الفني (Graphic design)، منحني هذا المجال أفقاً آخر في هندسة الفضاء المسرحي، وعدداً من الإمكانيات التي من خلالها تتحفز المخيلة لاختراق آفاق أخرى. تصميم ظلال الممثلين وانعكاسات المرايا وتحديد زوايا وأحجام انبعاث الأشعة من أجهزة العرض، إضافة إلى التأثيرات اللونية المناسبة من خلال الأجهزة، كلها ثمرة هذه التجربة.

عبر جلسات النقاش والتدريب مع الفريق العامل في العروض التي أخرجها، استطعنا أن نترجم إمكانات أخرى لمثل هذه الأدوات التكنولوجية، فأجهزة العرض الثابتة (Slide projector) لم تعد ثابتة بعد الآن، والأمر نفسه بالنسبة لـ (data show projector) إذ لم يعد مسلطاً بعد الآن على الشاشات التقليدية أو حتى مثبتا في مكان ما، بل صار متحركاً وبحيث لا يفقد القيمة الجمالية للعرض الحي.

في مسرحية (الرسائل) العام 2000 المعدة عن رسائل الشاعرين محمود درويــش وسميــح القاسم كانت البناء (السينو/إخراجي) قائم على سمة التناظر:

– سمة الداخل /الخارج (سميح/درويش)

– الموت / البعث

-اليأس/ الأمل

– المقعد / الماشي

– القتل/النضال

تبدأ المسرحية بدخول المتفرجين على شاشة التلفاز، وهي تبث أخبار (الانتفاضة)، حيث يتواصل التلفاز حتى نهاية المسرحية. وبين عدد من المشاهد نلاحظ في خلفية العرض رجلاً يبدأ بمحاولة رسم ما، لحظتها نتبين شيئا فشيئا صورة الشهيد الدرة، في محاولة لإعادة إحيائه وتقديم شهادته بعد بث تفاصيل الحادثة على شاشة التلفزيون في بداية العرض.
عند نهاية العرض تعرض الخلفية لقطات فيديو للمتفرجين عندما دخلوا، كنا قد صورناها في بداية العرض وأعدنا بثها من جديد، ويتزامن ذلك مع ذهاب الممثلين الذين يجسدون الأموات إلى قبورهم.

في عرض مسرحية (إيفا) عام 2001 تأليف: وليد فاضل والتي تتناول حقبة الديكتاتورية في الأرجنتين، كان الاستثمار مختلفاً. هناك التصوير والعرض للأحداث يبث حياً، ففي بعض المشاهد يخرج أحد رجال المخابرات ليصور وقائع ما يجري بين الممثلين ويبث ضمن نسيج العرض. أضف إلى ذلك، استخدام جهاز العرض للصور الثابتة، والذي يعبر عن دواخل الشخصية؛ ففي عدد من المشاهد نلحظ صوراً تم تصميمها خصيصا للعرض يتم بثها على أرضية التمثيل.

وبالرغم من بعض المشاهد التي كانت تفسر حالات العرض مما سبب – خدشاً ربما – في عملية التلقي، إلا أنها كانت تجربة تعني أيضاً بالجانب الجمالي للعرض، وهذا ربما ما تم تداركه في عرض (حب بطعم الشوكولا 2003)، و(أخبار المجنون 2005)؛ حيث ذهب الاستثمار إلى أفق آخر، وتوسيع نطاق التأويل بما يسمح للعرض أن يثريه. إذ كان الاجتهاد في هذه التجارب لتقريب فرص هذا الاستثمار بما يضمن خصوصية العرض المسرحي كوحدة جمالية ودلالية في الوقت نفسه.

***

يقف (كراب) أمام ما حدث، يستمع إليه، لكنه ربما الآن سيتمكن من تصحيح ما قاله، فالتكنولوجيا لم تخلق للاستمتاع بها، بل بمحاورتها أيضاً. فـ (كراب) هناك ظل أسير الموت، أسير نهاية العالم، أسير ذاكرته وأسير العبث الذي يحيط به، وهو بالضبط عندما يرتهن المبدع لأسر التكنولوجيا وأوهامها.

هوامش:

1- عقل جديد لعالم جديد (روبرت أورنشتاين) خدعة التكنولوجيا.. تأليف: جاك ألول – ترجمة: د. فاطمة نصر. إصدارات (مهرجان القراءة للجميع 2004م).

2- الصناعات الإبداعية.. (مجموعة مقالات) تحرير: جون هارتلي – ترجمة: بدر الرفاعي.. إصدارات عالم المعرفة ع 338 أبريل 2007).

3- الإضاءة وخشبة المسرح – كلير دافيد – (السينوغرافيا اليوم) إصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي. الآلة قوة وسلطة..

4- النص الأدبي بين المعلوماتية و التوظيف الفني- د. رمضان بسطاويسي محمد http://www.azaheer.com (فيكتور هيجو راسكن باندا – كاتب مسرحي – فنزويلا) رسالة اليوم العالمي للمسرح 2006.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.