كان من سوء حظي أني شاهدت فيلم (الجوكر) بعد حادثتين مهمتين وقعتا الأسبوع الماضي (نهاية شهر أكتوبر 2019م) في عالمنا الغرائبي العربي الكبير، إحداهما في مصر بمقتل محمد عيد (شهيد التذكرة) الذي قيل إنه قد ألقى بنفسه من قطار مسرع مع شخص آخر بترت ساقه جراء ذلك، بطلب من (الكمسري) لأنهما لا يملكان ثمن تذكرة القطار، والأخرى استشهاد صفاء السراي أو كما يسمي نفسه (ابن ثنوة)، خلال المظاهرات المستمرة في العراق.
كنت قد قضيت ذلك الأسبوع في التفكير في الشهيد محمد عيد، هل ألقى بنفسه حقاً؟ كنت أتخيّل المشهد، وأحاول أن أحلل الموضوع، إن كان هذا ما حدث، فلماذا قبل أن يلقي بنفسه؟ لماذا لم ينتظر حتى يصل إلى أي محطة، ولتأخذه الشرطة بعدها، ما الذي يجعله يصل إلى هذا المستوى من الخوف من الشرطة، ما الذي يجعله يصل إلى هذا المستوى المرضي من الالتزام بالنظام؟! لماذا لم يضرب الكمسري؟ لماذا لم يحتج؟ لماذا.. لماذا؟ لماذا؟ وكل إجاباتي خائبة، مرة أستعين بحنا آرندت، وفكرة تفاهة الشر، وأننا تحوّلنا إلى كائنات بيروقراطية شديدة الالتزام، لدرجة أن كمسرياً بيروقراطياً يمكنه أن يطلب من راكب أن ينزل من القطار وهو يسير بسرعة عالية، أن ينزل منه لأنه لا يملك ثمن التذكرة، ولدرجة أشدّ بيروقراطية يمتثل الراكب ويلقي بنفسه من القطار المسرع لأنه لا يريد أن يذهب إلى مركز الشرطة، ومرة أفكر في حالة الذعر التي أوصلنا إليها النظام الديكتاتوري في العالم العربي، بحيث صرنا كائنات مشوهة حقاً إلى درجة عبثية وسوريالية ولا معقولة بالمطلق، لكنها تحدث، هنا تحدث.
قضيت وقتاً آخر أقارن بين طريقتي استشهاد الشابين، أحدهما في مظاهرات العراق، وهو صفاء الذي لم يدع مظاهرة ضد الفساد في بلده منذ 2011م إلا وكان يتقدم صفوفها، صفاء الذي يريد (عراقاً نظيفاً يعيش فيه الجميع حياة كريمة)، وبين عيد، البائع الجوّال الذي لا علاقة له بالمظاهرات ولا السياسة، وكان ملتزماً بدوره في الحياة، كشخص يعيش على الهامش، ولا يريد أكثر من ذلك، بكيت على عيد كثيراً، أشفقت عليه، رغم أني تخيلت لو أنه مكان الكمسري، والكمسري كان هو الراكب الذي ليس معه ثمن التذكرة، ما الذي كان سيفعله عيد (البيروقراطي الملتزم كما تصوّره الحكاية)؟! هل كان سيطلب من الكمسري النزول من القطار؟ وهل كان الكمسري (البيروقراطي الملتزم هو الآخر) سيترجل عن القطار المسرع مضحياً بحياته من أجل النظام لو طلب منه عيد ذلك!
(حقاً إنني أعيش في زمنٍ أسود، الكلمة الطيبة لا تجد من يسمعها، الحديث عن الأشجار صار جريمة، لأنه يعني السكوت عن جرائم أشدّ، والذي ما زال يضحك، لم يسمع بعد بالنبأ الرهيب – بريخت)
ذلك الأسبوع المرّ، يأتي في نهايته فيلم الجوكر، ولا أعلم إن كان هذا الفيلم قد شكّل إجابة لي على بعض أسئلتي أم أنه لم يكن إلا باباً آخر، تطرقه من الخلف كثير من الأسئلة الأخرى؟! في بداية الفيلم نشاهد آرثر وهو يحمل لافتة مكتوب عليها العبارة التسويقية لدى التخفيضات: (everything must go)، (يجب أن يُباع كل شيء)، بالنسبة لي كانت هذه العبارة العادية، هي مفتاح الفيلم، كأنما قد قال لي مخرج الفيلم، سأذهب معك أيها المتلقي العزيز في هذه الرحلة عبر الشكل الرمزي في الدراما، لا تأخذ كل ما يحدث على محمل الجد، إنما ما سيجري في هذا الفيلم ليس إلا رمزاً لما يحدث أو سيحدث معك في الحياة، فلا تحاول إخضاعه للمنطق، وليس عليك إلا محاولة تفسيره أو إعطائه دلالة ما، قلت له حسناً، أرني أكثر لأصدقك، تتالت الإشارات الرمزية في الفيلم، موظفة الرعاية الصحية للعمال التي ستخبره تالياً أن مركز الرعاية هذا سيغلق لتخفيض النفقات، المسدّس الذي يعطيه له زميله، الحكاية الشكسبيرية عن حمل الأم سراً والحكاية الغامضة عن جنونها وتبنيه، الأم التي عملت لدى (توماس واين)، الرأسمالي الذي يريد الترشح ليكون عمدة بلدتنا العالمية (غوثام)، المدينة التي يضرب فيها عمال القمامة عن العمل، -عمال القمامة أمثال الشهيد صفاء السراي، والذي بقي لآخر يوم في حياته يحاول (تنظيف) العراق، من قمامته- وإضراب عمال القمامة، يعني (رمزياً ) أن تظل القذارة متكدسّة في هذه المدينة. شبكة واسعة من الرموز والدلالات، في الحدث والشخصيات والحوار والصورة والصوت، كلها تحاول أن تأخذني إلى موقع واحد: (إننا نعيش في مكب نفايات، من سيكون أول من يرفض حياة كهذه؟)
في المدرسة الرمزية، ليست الأهمية لمنطقية الحدث، إنما لتشابك دلالته مع دلالات الأحداث الأخرى والشخصيات والحوارات في الفيلم، تعتمد المدرسة الرمزية على الخيال، ولأنها تعلي من قيمة الفكرة أو الموضوع، فإنها لا تولي أهمية لواقعية أو منطقية الأحداث، وهذا هو ما حدث في الفيلم، فالأم التي أهينت واحتقرت وخدعت وطردت من قبل الرأسمالي (توماس واين) ما تزال ترى في الرجل المنقذ، ما تزال تعتقد أنه يمكنه أن ينقذها، إنها رمز لشيء أعلى، رمز للإغراق في البيروقراطية، رمز للالتزام التام بالنظام، ولذا، فإنه بالرغم من فظائعية مشهد قتل الأم في الفيلم من الناحية الواقعية، إلا أنه مشهد مهم ومحوري من الناحية الدلالية الرمزية، إنه مشهد القطيعة مع الشخصية السابقة للإنسان في عصر الرأسمالية المتوحشة. الشخصية الخاضعة، الشخصية الملتزمة، الشخصية (المحبة لتوماس واين باعتباره كذلك رمزاً هو الآخر لهذا النظام البشع)، المخدوعة فيه رغم قساوة ضرباته عليها، المدافعة عنه رغم وحشية تخليه عنها.
هل قلتُ لكم إن صفاء يسمي نفسه (ابن ثنوة) بسبب محبته الكبيرة لأمه (ثنوة) المصابة بأربعة سرطانات، والتي ماتت قبل عام فقط من استشهاده؟ هل قلتُ لكم إني أتخيّل نقمة الولد صفاء على مجموعة أنظمة فاسدة ديكتاتورية، سببت لأمه التي يحب هذه السرطانات ولم تحاول علاجها منها؟ أما آرثر، فقد أطبق بالوسادة على أمه، وإذا أردنا ربط المشهدين فإن آرثر قد خنق أمه من أجل أن تعيش أم صفاء، ومن أجل ألا تختنق أم محمد عيد بالبكاء على ولدها الذي مات لأنه لا يملك سبعين جنيهاً.
يبشّر الفيلم كما التوقعات الاقتصادية بأزمة كبرى وشيكة في الاقتصاد الرأسمالي في العالم، لكنه إضافة إلى ذلك، يبشّر بفوضى، بخراب، ليس ثورة، إنما خراباً، يبدأ في المدن ولا ينتهي عند شخصية الإنسان، لقد أهاننا هذا النظام، امتهننا، أنجبنا وتركنا للقذارة، موظفوه يسخرون منا، يقطع عنا كل ما يمكن أن يصلح شيئاً من أرواحنا، يفسد عقولنا وقلوبنا، ما الذي يتوقع أن ينتج كل هذا؟ غير إما الجوكر أو أمه، إما الفوضوي في أقصى درجات الفوضى، أو الملتزم البيروقراطي في أشدّ درجات الخضوع..
إنني أفهمك يا آرثر
إننا نعيش في مكب نفايات
يطردوننا من العمل
يغلقون كل الأبواب
الرجال ببذلاتهم الأنيقة
الرأسماليون وموظفوهم
يستخدموننا، ثم يرموننا في المكب
يسخرون منا
نحن مهرجو القاع
ثم يطلبون منا أن نشفق
لا، لا شفقة بعد الآن
إنما هي الضحكة الوقحة
إنما هي الضحكة الغصة
إنني أفهمك تماما
هذا هو الواقع،
كما هو دون زيف الفن
كما هو دون رتوش الخيال
بشع ومنحط ويستحق ولا يستحق
وليست ثورة ما سيحدث
ليست ثورة
إنما فوضى وغضب
فوضى وصراخ
غضب وتحطيم
ليست دعابة غير مفهومة
إنما دم توماس واين مع قمامته على الشارع
لستَ رمزاً أفهمك
لست رمزاً لشيء
إنما كما نحن جميعاً
احتجاج على عدم وجودنا
احتجاج على وجودنا المريض
إنني أفهمك
لكنني أحاول انتزاع القناع عن وجهي
ولا أقدر.
صفحة فلم الجوكر في الموقع العالمي IMDb