تمظهرات الوعي في العلامة الجسدية

0 753

كه يلان مُحمد – العراق

رسخت الاعراف والموروث الاجتماعي ثقافة نبذ الجسد وتهميشه؛ كونه مصدرًا للخطيئة والشر، ولا تنطلقُ النفسُ نحو ملكوت السعادة وفق هذا المنظور إلا بالتحرر من إكراهات الجسد التي تناقض التفكير والمعرفة؛ كما أنَّ اللذة الجسدية ليست إلا وهمًا يهوي بالمرء إلى مرتبة أدنى من الإنسانية؛ فبالتالي يُوصمُ باللاعقلانية. إذاً، هذه الآراء السائدة بشأنِ الجسد تلغي هويته من خلال ازدرائه وتجاهل ما يمثلهُ من الرغبة. عليه، فإنَّ الأمر يتخذُ منحىً أكثر تشددًا مع الجسد الأنثوي؛ إذ يتمُ إقصاؤه من المشهدِ باعتباره مفخخًا بالمحرمات، وهنا طبعًا، يلعب رأس المال الاجتماعي دورًا في تغييب الجسد وحجبه. اللافت في هذا السياق هو ما يقوله أدونيس حول ظاهرة تستر المرأة، فبرأيه أنَّ في ذلك مؤشرًا لتقديس الأنثى، وما يقدسُ في ثقافتنا يحجبُ؛ لكن ما يذهبُ إليه صاحب “مهيار الدمشقى” ليس إلا تأويلاً قد لا يؤيده الواقع الاجتماعي. والأهم، في هذا الصدد، هو ما فرضته الفلسفات الحديثة من التحول في رؤية للجسد بحيثُ لم يعد دون منزلة العقل في الأهمية، فالجسد بنظر “جاك لوك نانسي” يمثلُ ما لا يستطيعُ الفكر أبداً أن يخترقه اختراقًا كاملًا حتى إذا كان موطن تفكيرنا وأصله. كما أنَّ التفكير بالنسبة لنيتشه عبارةُ عن نشاط جسدي ويزدادُ الاهتمام بموضوعة الجسد مع ظهور الفلسفة الظاهراتية حيثُ لا يمكنُ الارتباط بالعالم برأي ميرلوبونتي إلا من خلال الوجود كجسد. أكثر من ذلك، فإنَّ الوعي لدى فيتنغشتاين لا يكون متجليًا إلا على الجسد، ما يعني أنَّ المظهر الجسدي يكونُ معبرًا عن المستوى الإدراكي للمعطيات المحيطة بالذات الواعية. هذا المنطق الظاهراتي هو ما ينعكسُ بالوضوح في محتويات رواية “نازك خانم” للكاتبة السورية لينا هويان الحسن؛ إذ يكتنزُ الجسد بدلالات التمرد والثقافة، هذا إضافة إلى إرسالياته الجمالية والإيروتيكية. بذلك، يتحولُ المعطي الجسدُ إلى وعاء المعنى، وعلامة الذات.

رواية الشخصية

تحيلُ عتبة العنوان إلى أنَّ القصة التي تنبسطُ على مساحة النص تدور حول شخصية واحدة، وهي تنفردُ بالحضور على امتدادِ الرواية، وينفتحُ قوسُ السرد على الشخصيات الأخرى مجيب شان، وكمال بيك، ومارك بقدر ما يخدمُ ذلك دور شخصية ” نازك خانم” التي ولدتْ في قصر فاخر على سفح جبل قاسيون، وما أن تبصر الدنيا حتى تموت أمها، ولم ترتح أخواتها لوجود نازك التي تتمتعُ بمواصفات فاتنة؛ حيثُ تكتشفُ جمالها عندما تختبرُ علاقة حسية مع المحامي القادم من باريس ويطلبُ منها الزواج، وما كان من نازك إلا أن ترفضَ قائلة “أننى أجمل من  أتزوجك”. يُفهمُ، من هذه التجربة، أنَّ معرفة الذات بخصوصياتها التكوينية لا تتم إلا من خلال التواصل مع الآخر، وذلك المبدأُ يؤكدُ عليه ميرلوبونتي، وينتظمُ كلامُ “رسول محمد رسول” أيضاً في هذا السياق، فبرأيه أنَّ الجسد موجود افتراضي في أصله وحقيقي عندما يتفاعل مع غيره. إذاً، فإنَّ البطلة تختبر الحياة من خلال معايشتها لبيئاتها المختلفة، وتكتسبُ وعيًا بنفسها مع المضي في سيرورة علاقاتها بالآخر. بدءاً بفضاء البيت الذي يصبحُ مكاناً طارداً؛ إذ تفبرك لها زوجة الأب تهمةً، تغادر على أثرها دمشق، مرورًا بمغامرتها الحسية مع المحامي، حيثُ يتعمقُ وعيها بالجسد، وصولًا لخيبة أملها بمارك الذي هجرها منصرفًا إلى عارضة بلغارية؛ فبدلاً أن تندبَ حظها وتحملَّ على الرجل، تختارُ نوعًا جديدًا من العطر؛ فالمرأة التي لا تهتمُ بعطرها هي مُتهالكة ومشوشة وغير ممكنة التفسير على حد قول صديقها توم. ولا شيء وصل بـ”نازك” إلى حافة اليأس لدرجة التفكير في الانتحار غير سخرية زميلاتها من صفحات رواية أرادت تأليفها انتقامًا من مارك. كل هذه التجارب قد تراكمت قبل أن تبدأ حلقة أخرى من حياة “نازك”، ويكونُ عنوانها مجيب شان؛ ذلك الرجل الوافد من إيران وهو من أثرياء البترول، ويعترفُ بعقدته مع اللون الأسود. لذلك لا يعجبه تمثال أسبازيا المتدثرة بعباءة لأنهَّ هرب من مكان متشح بعباءات مدلهمة. هنا، تتقابل الصورة الثاوية في الذاكرة مع ما يقعُ عليه النظر من مظاهر التحرر في باريس. يذكرُ أنَّ رغبةً لتذوق تجربة مغايرة تجنحُ به نحو المجون؛ إذ يطلقُ العارضات الفاتنات في واحة قصره ويطاردُ الضيوف الجميلات العاريات ما يذكر بأجواء أعمال ماركيز دوساد.

معجم الجسد

ما يضعُ رواية “نازك خانم” ضمن مستوى مختلف عن الاتجاه الغالب في السرديات الروائية، هو الاشتغال على هموم الفرد، ولا توجدُ سوى إشارات في فضاء النص لما يقعُ خارج اهتمامات الشخصية الرئيسة؛ إذ يومئُ الراوي إلى حرب أكتوبر 1973، فيما تأخذُ ثورة 1968 بمساحة أوسع في شريط السرد، وذلك لأنَّ “نازك خانم” قد شهدت حيثياتها الاجتماعية والثقافية. في هذا التفصيل، تذكرك البطلة بشخصية فردينان في رواية ” التحول”، وهو اقتنع بعد تجربة الحرب بأن الانهمام بالذات هو الاختيار الصحيح. زد على ما سبق، فإنَّ ملمحٌ آخر لهذا المنجز الروائي هو خصوصية حقلها المعجمي، وما يتواردُ في هذا الإطار من الكلمات والمفردات والعبارات تحيلُ إلى الجسد وتمثلاته المرئية لاسيما “الملبس والمشموم”. كما أنَّ الأعمال والمنحوتات الفنية التي تتموضع في نظم السرد، وهي مشحونة بإيحاءات بصرية، تؤكدُ محورية ثيمة الجسد في تضاريس النص. هذا، إضافة إلى أن أسماء مشاهير السينما “صوفيا لورين، مارلين مونرو، بريجيت باردو، إليزابيت تايلور، أسمهان تتعلقُ بطيات السرد؛ ما يزيدُ من إمكانية تثوير العلامة الجسدية الفائضة بالأنوثة. يشارُ إلى أن قصص الرموز الأسطورية تُضفر بقماشة النص، ناهيك عن انسياب حكايات فرعية في تيار السرد وهكذا تحفلُ الرواية بقصص العرافين والفنانين والمفكرين، كما أنَّ أحداثها تتوزع بين مدينتي دمشق وباريس، ويعتمدُ السردُ على بنية مدورة يبدأُ برصد حركة نازك في دمشق وينتهي بمقتلها في مشهد أقرب إلى نهاية الفرسان الروس التراجيدية في المبارزة؛ حيثُ يرديها كمال بيك قتيلة عندما يتأكد بأنَّ الورود التي خبأ فيها المسدس لا ترأبُ بينهما الصدع.

خطاب مُضاد

لا يقيمُ هذا النص الروائي حفلة تأبين ورثاء لمصير المرأة، ولاوجود لنبرة بكائية لدى شخصيات هويان الحسن؛ إنما تتصفُ شخصيتها الروائية بحبِ التمرد، وشق الممرات الجديدة مستلهمة حكمتها من نيتشه الذي يحذر مِنْ مغبة انتظار من يتولى نيابة عنك بناء الجسر الذي يتحتمُ عليك أن تعبره فوق نهر الحياة. إذ تبدي نازك خانم إعجابها الشديد بفرانسواز ساغان معلنة بأنَّ  مرحلة الشباب هبة الحياة لنخطئ فيها؛ كأنها بذلك تكرر ما قاله فولتير “”ثق بي صديقي إنَّ للخطأ أيضا مزيته”، كما راق لها كلام الممثلة الأمريكية راكيل وولش عندما صرحت بأنها في حالة حب مع أكثر من واحد؛ وتضرب بكل التابوهات عرض الحائط عندما تروجُ للخيانة مقتنعة بأنَّها طريقة وحيدة للانتقام؛ وهي حضرت أمام بيكاسو بكامل عريها متقمصةً في هيئتها شخصية “ليدا”؛ وبهذا يتمُ تنافذُ النصِ مع الأسطورة والفنون، وإرث التيارات المؤسسة للتمرد. غير أن ما يسترعي الانتباه، أن نازك التي قدمتها الكتابة – بوصفها شخصية تقوّضُ الخطاب المكرس للتبعية – تستعيدُ مقولات مجيب شان عن الجمال والمرأة، وانساقت وراء موقفه عن المثقفين والحركة النسوية، وتسكتُ عن التفافه على عشيقته الأمازيغية وسيلة بوسيس بتطويع العرافة لخدعتها. الأمرُ الذي يحتمُ التنقيب عما لا يفصحُ عنه النص مباشرة. ضف إلى ذلك، أنَّ نازك انخرطت في عالم الموضة وعرض الأزياء، وتفاعلت مع الوسط الثقافي الفرنسي، ودرست في السوربون؛ غير أنها لا تعرف من هو فولتير، وتسألُ مجيب شان عن معنى الإشتراكية. ما يجدرُ بالإشارة هو التفوق في ترتيب النص وحسن توظيف المقتبسات في مدخل فصول الرواية، واستيعاب المتن للموروث الأسطوري المتنوع.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.