أحجية إدمون عَمران المالح ..لعبة التيه في حكايات الوهم

0 1٬021

سماورد

مع بداية هذه الألفية تحصل الكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج على عدد من الجوائز الشعرية المحلية، وأتبعها بإصدار مجموعتين قصصيتين: “أشياء تحدث” 2004، و”انتحار مرجأ” 2006. غاب بعدها، ليعود في السنتين الأخيرتين من هذا العقد روائيًا، يكتب بطريقته الخاصة “التجريبة”، قدم خلالها عملين مختلفين هما: رواية “ليل طنجة” التي فازت مخطوطتها بجائزة إسماعيل فهد إسماعيل للرواية القصيرة (2019) لكنها لم تحظَ بفرصتها في النشر؛ ورواية “كافكا في طنجة” (دار تبارك للنشر والتوزيع، القاهرة، ديسمبر 2019). خلال هذا الشهر، أي بعد أقل من سنة، صدرت له رواية  “أحجية إدمون عمران المالح” عن دار هاشيت أنطوان/ نوفل، في بيروت. هذه الرواية الأخيرة لا تختلف عن سابقتيها من ناحية المحاولة الجادة في مواصلة التجريب الروائي.

يمكن اعتبار رواية “أحجية إدمون عمران المالح” احتفاءً غير مباشر بالكاتب والصحفي المغربي، ذي الأصول اليهودية، إدمون عمران المالح. وهو كاتب وصحفي مغربي أمازيغي، يهودي الديانة، معارض بشدة للصهيونية ورافض لقيام دولة إسرائيل. ولد في مدينة آسفي سنة 1917 وتوفي سنة 2010 في الرباط. اشتغل صحفيًا ومدرسًا للفلسفة، وبدأ الكتابة الأدبية في سن متأخرة بعد أن تجاوز الستين من عمره. رفض ترجمة أعماله إلى العبرية حتى لا تتاجر الجهات الإسرائيلية بأفكاره. كتب بالفرنسية وترجمت أغلب أعماله إلى العربية، لكن بحكم مواقفه الرافضة للأفكار الصهيونية مورس عليه نوع من التعتيم والتجاهل وأدرج في قوائم المعادين للسامية.

ليس في متن الرواية إشارة مباشرة إليه، ولا حتى شخصية باسمه. هناك شخصيتان، بل ثلاث، تتشارك أجزاءً من اسمه: عمران المالح يواجه نفوذ اليهود في فرنسا ويصطدم بالناشر فرانز غولدشتاين. إدمون المالح في ستينيات المغرب يتورط مع المخابرات المصرية ويتلصص على قوارب الهجرة السرية ليهود المغرب نحو إسرائيل. ولدينا عيسى العبدي، الوجه الآخر لإدمون ولعمران أيضًا، الصحفي الشيوعي المتمرد على الملكية المطلقة. علمًا أن عيسى العبدي هو الاسم المستعار الذي كان يوقع به إدمون عمران المالح، الحقيقي، مقالاته الصحفية في المغرب قبل أن يختار المنفى في فرنسا.

تتحرك الرواية في الشد والجذب ذهابًا وإيابًا عبر أزمنة مختلفة لتسرد شذرات حكايات يتفرع بعضها من بعض وتتناسل دون توقف لتحكي مصائر شخصيات وأوطان، وقصص حروب وهجرات، وأحلام وكوابيس شخصيات معذبة بحبها وبطموحها وبتيهها اللامتناه. هذه الحكايات المتشعبة يجمعها الوهم الذي يفرض نفسه ضمن لعبة اسمها “التيه” تبرز فيها ثيمات مختلفة، مثل: فساد الجوائز الأدبية والقائمين عليها، هجرة اليهود المغاربة والأسرار خلف ذلك، وأوجه من الصراع العربي الإسرائيلي، وصدمة الأيام الأولى في الأرض الموعودة لحفنة قليلة من البشر، ولا ينقصها تشويق يفرضمها الاستغلال السياسي للثقافة والممارسات الجاسوسية.

تناولت الرواية هذه القضايا الجدلية – ولم يزل بعضها جدليًا حتى الآن، وليس فقط في زمن أحداث الرواية – مشتبكة معها في سياقات نقاشية وتأويلات متعددة؛ وربما تُدْخِلها  – عند النظر إليه من إحدى الزوايا – إلى خانة أعمال الميتافيكشن. ولعلنا نقترف محذورًا – في سبيل تقديم استعراض مختصر للعمل – عند محاولة الحديث عن هذه القضايا مقرونة بنقاشاتها وسيرورة الشخصيات معها ضمن الحبكة التي قدمت من خلالها؛ لما قد يسبب ذلك من جناية على الرواية. ولعل هذا المعنى التفت إليه الكاتب حين قال: “التلخيص، كما الترجمة، خيانة. كلاهما يقوم على التأويل. تجد في الرواية أحداثا وأفكارا قابلة لتأويلات متعددة، مختلفة أو متكاملة، أو حتى متناقضة. حين ترتكب جرم التلخيص فإنك تضطر، بوعي أو من دونه، إلى انتقاء تأويل واحد فقط. هذه خيانة للنص. الروايات العظيمة لا يمكن تلخيصها. العظمة تأتي من تعدد مستويات القراءة والتأويل. التلخيص يقتل ذلك.” (ص: 24).

تتشكل حبكة المحور الرئيسي للرواية في الصراع بين قبول الإغراء ورفضه، ويظل صراخ هذا الصراع يتردد طيلة الرواية، ولعله الشيء الوحيد الصامد في ذاكرة البطل التي لم يبقَ فيها شيء إلا خيالات باهتة، وشذرات متفرقة من ماضٍ تحضر كيفما شاءت مصادفاتُ التذكر.

رواية “أحجية إدمون عمران المالح”، رغم قصرها (96 صفحة)، إلا أنها رواية ممتلئة تقول الكثير، والقارئ يقرأ من ورائها ما هو أكثر. هموم محمد سعيد احجيوج في روايته وما فيها من عذابات ممتدة ولم تتوقف بعد، ولحظاتها ستستمر ولا يبدو أنها ستنتهي قريبًا؛ لأن الفاعلين فيها مازالوا يمارسون الإغواء ويخاطبون الآخر “عزيزي، نحن نفكر في المستقبل ولا نسجن أنفسنا بمحدودية الحاضر …. هذا العالم لنا. كان لنا وسيبقى لنا” (ص 41)

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.