فن الالقاء للممثل

1 2٬196

سعاد خليل – ليبيا

ماذا يعني فن الالقاء؟ عندما نقول الالقاء يعني كيفية التعامل مع الجمل والكلمات من كافة نواحيها: في ترتيبها وتقطيعها؛ وفي مخارج ألفاظها؛ وفي الطريقة والهيئة التي تصل للمتلقي، وأكثر من يهتم بذلك، بشكل خاص، هم الاعلاميون والممثلون خصوصًا على المسرح.

أول ما يواجه دارس (الفن التمثيلي) في دراساته هو الاختبار المبدئي لمعرفة مدى استعداده الفني لذلك الفن. من أهم الاختبارات هو اختبار الالقاء الذي يكشف مقدار لياقته الصوتية ومدى سلامة حروفه وقدرته البيانية في التعبير بالكلمة، ثم إذا اجتاز ذلك الاختبار، يبدأ في تلقي الدروس الاولي لفن الالقاء نظريًا وعلميًا.

ولو نظرنا إلى ما هو سائد اليوم، نجد هناك ضعفًا كبيرًا لدى بعض الكوادر المسرحية أو الإعلامية كالمذيعين ومقدمين البرامج وغيرهم، وهذا سببه ربما عدم وجود مؤلف لهذا النوع من الفن ألا وهو فن الالقاء.

طالعت كتابًا يتحدث عن فن الالقاء لمؤلفه محمد ماهر فهيم؛ يتناول في فصله الأول فن الالقاء باعتباره نتاجًا لغويًا موجهًا إلى جماهير، وعما مر به هذا الفن من تطور صاحب الإنسان في مراحل حضارته وعن محاولات التأليف في هذا الفن، وأيضًا عن فن الإلقاء العربي والمؤلفات القديمة فيه والحديثة، والفرق بين الإلقاء العادي والإلقاء التمثيلي الذي يجمع إلى جانب السلامة اللغوية وسلامة الحروف والنحو والصرف إعطاء الكلمات معانيها الخاصة، والتعبير عن طبيعة الشخصية، وإبراز العواطف والدوافع النفسية التي تسري في النص وتكمن تحت السطور في إطار من التنوع بحيث يسيطر على مزاج وعواطف الجمهور.

أما الفصل الثاني الذي من الكتاب فهو عن ثقافة الممثل العامة والخاصة التي تأتي في مقدمتها علوم اللغة والنحو والبلاغة، وعلم النفس، وأدب المسرح وفن الالقاء. إن الممثل، بشكل خاص، أكثر من يعنيه هذا الأمر وهو فن الالقاء، إلى جانب لياقته الصوتية باعتبارها أساسية وجوهرية في فن الألقاء بصفة عامة، وفي فن التمثيل بصفة خاصة. كما يتعرض المؤلف في إيجاز لظاهرة الصوت عامة، والصوت الانساني بصفة خاصة ثم لأعضاء النطق وكيفية الحفاظ عليها باعتبارها ثروة فنية للإنسان. وهناك الظواهر اللغوية من حيث الجهر والهمس، والشدة والرخاوة، إضافة للأصوات الساكنة وأصوات اللين.

في الفصل الثالث، يتناول ضوابط فن الإلقاء العامة باعتبارها مدخلًا للضوابط التفصيلية؛ لنصل إلى الفصل الرابع، والذي يتحدث عن أهمية الممثل والملقي على السواء، وأغراض الوقف وأهميتها تفصيليًا فيما يتعلق بالتنفس والتهيؤ للمعني المقبل والخروج عن الرؤية الواحدة والرتابة، واستثارة السامع وتشويقه، ودفع اللبس والابهام، وضوابط الوقف ومواطنه.

أما الفصل الخامس فخصص لعلاقة بين علم المعاني، من علوم البلاغة، وفن الالقاء؛ على أساس أن دراسة علم المعاني تمكن دارسي فن الالقاء من الكشف عما تحت السطور من معاني خفية يستشفها من السياق والأسلوب بما يضفي على إلقائه تنوعًا وجمالًا، ويدفع عنه الرتابة. عندما نقول (فن الالقاء) يعني أننا أمام انتاج لغوي موجه إلى الناس، أي أننا اما ملق وأمام مستمعين. يقول المؤلف لا شك أن كل هذا يشكل ظاهرة اجتماعية متطورة بالنسبة للإنسان الذي تدرج في مدارج متطورة في نشأة اللغة عنده عندما حاول النطق في العصور الحجرية، وكان الدافع الأول لهذا النطق مجرد مصادفة، إذ نمت فيه قوة السمع قبل قوة النطق، فسمع الاصوات الطبيعية، ثم قلدها في مرحلة متأخرة جاءت بعد أن حاول هو النطق أولًا. وهكذا، فإن ذكاء الانسان وصل به إلى اللغة الانسانية بمقاطعها، وأدّى كل هذا آخر الأمر إلى تكوين لغته ذات القواعد والأصول؛ ثم بعد الرحلة الحضارية في تطور لغة الانسان التي خلفت وحفظت لنا نتاج فكره معبرا عن أحاسيسه، وعما يدور حوله من احداث، وجدنا أنفسنا امام آداب انسانية أنتجته قرائح الشعراء والخطباء الأدباء والكتاب، سواء الآداب العربية أو اليونانية أو الرومانية أو الانجليزية أو الفرنسية، إلى غير ذلك مما أنتجته حضارات وثقافات الشعوب في ملاحمها وآدابها وأشعارها.

إن فن الالقاء صاحب الإنسان منذ اكتملت عنده أداة التعبير اللغوي، وأراد بها أن ينقل أفكاره ومشاعره للآخرين عن طريق المشافهة. غير أن هذا الفن لم يكن قد دوّن بعد، حتى وصلنا إلى زمن المعلم الأول (ارسطو).

” لا يكفي ان يعرف الانسان ماذا يقول، ولكنه ينبغي أن يعرف كيف يقول. “

وفي سيرة (ديموسثنيس) أعظم خطباء اليونان، ما يعبر عن بلورة فن الالقاء وتحديد مشكلته، حيث خرج في إحدى المرات من الجمعية العمومية مهمومًا لأنه فشل في القاء خطبته، فقابله ممثل شهير وأخذ يهون عليه الأمر، ثم طلب إلى ديموسثنيس أن يسمعه شيئًا من الشعر، فأنشده بيتين لسوفوكليس، ولكن ذاك الممثل القدير ألقاهما عليه على نهجه فأعجب ديموسثنيس وأدرك في التو أن الخطابة هي الالقاء. هذا مثل بسيط يبين الفرق بين أن تتحدث وأن نلقي خطابًا بصوت ضعيف ونفس قصير. إذن، فن الإلقاء يتلخص في أن: كيف يقول الملقي ما يريد أن يعبر عنه من أفكار وعوطف.

لا يمكننا أن نقول إن الاقدمين لم يتركوا لنا مؤلفات حول فن الالقاء، فهذا لا يعني أنهم لا يهتمون به أو لم يعطوه ما يستحقه، لأن طبيعة اللغة ذات القواعد والأصول، ومنها فن الخطابة، تقتضي الإفهام والتأثير والاقناع، وكل ما كان أن اهتماماتهم بذلك الفن جاء من خلال الرواية للأشعار والملاحم والمسرحيات القديمة. كان الشاعر يقوم بتمثل رواياته / والمنشد كان يلقي ما نظم هو نفسه، فلم تكن هناك حاجة إلى ممثلين محترفين، ولم تكن ضرورة لتعلم فن الالقاء والتمثيل. يقول المؤلف لقد أخذت الخطابة مكانتها المرموقة بين أهل أثينا في عصر بيركليس وقويت فdهم رغبة القول، وكان هدف الخطيب هو التأثير على نفوس السامعين فأصبحت دراسة فن الالقاء لازمة.

السوفسطاzيون كانوا أول من اتجه إلى استنباط تلك القواعد. كانوا يعلمون الشباب في أثينا طرق التغلب على خصومهم في ميدان السبق الكلامي وكيف يغالطونهم. كانوا يمرنونهم على القول المبين والإلقاء المحكم فاستنبطوا قواعد وقوانين، ثم جاء أرسطو فجمع قواعده وضم موارده في كتاب أسماه الخطابة (كان أصلًا لذلك العلم). أيضا لو استعرضنا تاريخ المعلقات السبع في الادب العربي، التي تفوز بالمرتبة الجديرة بتعليقها على جدران الكعبة، وظروف انشادها، تكشف لنا أن الشعر أو رواتهم كانوا يلقون تلك الأشعار في الأسواق والمجامع والمحافل. هذا يعني أنه كان هناك فن لإلقاء الشعر؛ حتى يستحوذ على قلوب وعقول السامعين. كذلك، في العصر الجاهلي، كانت الخطب تلقى بين أفراد القبائل حثًا على قتال أو حقنًا للدماء أو دعوة لمكارم الاخلاق إلى غير ذلك من تاريخنا العربي على مر العصور، ولا سيما في عصر الإسلام حيث وصلت الخطابة إلى الذروة، وبلغت كمال أوجها. كل هذا يؤكد أن فن الالقاء صاحب اللغة ذات القواعد والأصول شعرًا أو نثرًا.

كل في اختصاصه، تتفاوت وظائفهم كالمحامين ووكلاء النيابة والمدرسون كلهم ملقون، ولكن وهذا ما يعنينا في هذا المقال هو الممثل فأين مكانه من هؤلاء؟ فالملقي الناجح يتميز بطلاقة اللسان ومن سلامة اللغة، ووضوح جملها وألفاظها، وتأن في طريقة الاداء وسلامة في القواعد النحوية والصرفية. أما الممثل عليه ان يجمع إلى جانب كل ذلك شسئًا مهمًا وبارزًا، ألا وهو إبراز ما يحتويه النص التمثيلي الذي يؤديه من عواطف وأحاسيس وأبعاد نفسية واجتماعية وشخصية، لأن الممثل يتعامل مع نصوص أدبية،  قد تدخل في دائرة المسرح أو الإذاعة والتلفزيون أو حتي السينما. فالنصوص الادبية تشتمل على الفكرة والعاطفة اللتين هما من خصائص الأسلوب الأدبي الذي يتجه إلى العاطفة قبل العقل، فبدون العاطفة لا يكون أدبًا، وبدون إبرازها لا يكون الملقي ممثلُا. إذن  الإلقاء التمثيلي يبعث الحياة في النص، حياة متعددة العواطف والمشاعر، متنوعة في أدائها بما يسيطر على جمهور المشاهدين والسامعين. يحدد المخرج (هيننج نيلمز) في كتابه الإخراج المسرحي يوضح أهداف الإلقاء واستخدام الممثل لها لكي ينقل كلمات المسرحية إلى النظارة، ويعطي للكلمات معاني عن طريق نبرات الصوت. ينقل للمشاهد معلومات عن طبيعة الشخصيات وأمزجتها كالعمر والمركز والقوة والهياج واليأس والغضب وغير ذلك. يسيطر على مزاج المتفرجين كما تفعل الموسيقي تمامًا، ويعمل على التنوع؛ فإذا لم يقم صوتك بكل هذه الأغراض معًا، فإنك لا تستغله إلى اقصي حد، بمعنى لا بد أن تصل الكلمات إلى الجمهور سواء كان هذا الجمهور من المسرح أو مشاهدًا في السينما أو مستمعًا في الإذاعة. من هنا، كان وضوح الكلمات والجمل والحروف وإعطاؤها ما تستحقه من شدة او رخاوة أو جهر أو همس، ثم الوقوف بين الجمل في موان الوقف، وهذه تحقق الغرض الأول وهو وصول كلمات النص التمثيلي إلى الجمهور. إن النص التمثيلي كلماته لها دلالاتها ومعانيها المتنوعة، فهناك الدلالة الوضعية للكلمة، وهناك الدلالة التاريخية، والنفسية والاجتماعية. هذا ما عناه هيننج بعبارة يعطي للكلمات معاني خاصة عن طريق نبرات الصوت. على الممثل مراعاة معاني الكلمات والتعبير عن طبيعة الشخصية في كل مراحلها فبتوضيح الجمل والكلمات والعبارات من خلال إلقاء يعطي الدلالات والإيحائية ليحقق السيطرة على مشاعر المتفرج. هناك فرق بين الالقاء العادي وبين الالقاء التمثيلي؛ فالعادي يتطلب من الملقي سلامة في اللغة والحروف ووضوح الجمل والفقرات إضافة طبعُا لسلامة القواعد النحوية والصرفية؛ أما الإلقاء التمثيلي فإنه يتطلب من الممثل إلى جانب كل ما ذكرنا عن الحروف والنحو والصرف، إعطاء الكلمات معانيها الخاصة والتعبير عن طبيعة الشخصية وإبراز العواطف والدوافع النفسية التي تسري في النص وتكمن تحت السطور، في إطار من التنوع بحيث يسيطر على مزاج وعواطف الجمهور.

فن الإلقاء التمثيلي يتطلب أن يكون الممثل على علم وموهبة وخبرة بأصول فن التمثيل، كي يستثمر طاقاته وامكانياته الفنية والنفسية وعليه أن يقرأ النص أكثر من قراءة عميقة، فاحصًا مدققًا متأملًا مفتشًا عن تلك العواطف والدافع التي تسري في النص، كما عليه أن يبحث عما تحت السطور من معان وأفكار قد لا تدرك للوهلة الأولى لتكون هذه الأفكار بعيدة عن التجرد ليدخل في إطار شخصية أخرى مرسومة الحدود والمعالم النفسية والاجتماعية إلخ. عندها يكون الممثل قد عبر عن النص التمثيلي تعبيرًا فنيًا ملفوظًا ليعطي صورة متكاملة تخاطب عقولنا ومشاعرنا.

كتاب : فن الالقاء

تأليف: محمد ماهر فهيم.

الناشر: الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان،, 1989

عدد الصفحات: 377

قد يعجبك ايضا
تعليق 1
  1. […] في مقال سابق، تحدثنا عن فن الإلقاء، وأهميته للممثل، وتأثيره في المتلقي الذي هو الجمهور، وكيف على الممثل أن يتبع الخطوات الصحيحة، ويفرق بين فن الخطابة وفن التمثيل؛ وسنواصل على أهمية بعض النقاط للممثل حتى يكون في المستوي الذي يريده، ويقنع الجمهور بأدائه. نعرف أن التمثيل كأي فن من الفنون يعتمد على ثقافة عامة، وعلوم خاصة، إلى جانب الموهبة الأساسية التي لابد من توافرها في الممثل كي يشق طريقه في المجال التمثيلي بنجاح. […]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.