بريمو ليفي وفن الرّواية

0 1٬270

أجرى المقابلة: غابرييل موتولا Gabriel Motola

ترجمتها: دلال نصر الله – الكويت

نُشرت هذه المقابلة في مجلة باريس ريفيو، العدد: ١٣٤

ولد پريمو ليڤي Primo Levi عام ١٩١٩ في عائلة متوسطة، وكان أسلافه قد هربوا من محاكم التّفتيش الإسبانيّة. وتعرّض في الثّلاثينيّات للقوانين العرقيّة الإيطاليّة التي هدّدت دراسته الأكاديميّة بالخطر، ثمّ تعرض إلى القوانين العرقيّة الألمانيّة التّي شكّلت خطَرًا على حياته. وبفضل أستاذ تعاطف معه، إذ وافق الإشراف على أطروحة بريمو ليفي، تمكّن الأخير من إتمام دراسته في جامعة تورين، حيث تحصّل على دكتوراه في الكيمياء، والتي أنقذت حياته فيما بعد. في بداية عام ١٩٤٣، هرب ليفي تورين مع عشرة من رفاقه إلى الجبال، لينضم إلى حركة المقاومة الإيطاليّة “العدل والحريّة”، لم تنجح المهمّة، لأنّ الفاشيين قد اعتقلوا ليفي، في ديسمبر من ذلك العام، فاعترف لهم أنّه يهودي. وفي فبراير ١٩٤٤، سُجن في معسكر الأوشفيتز. عمل هناك في مختبر الكيمياء، غير أنّه توقّع الموت في كلّ لحظة. أدرك آنذاك أنّه يعيش ما يُطلق عليه “التّجربة الجوهريّة” في حياته.

وبعد انتهاء الحرب، عاد إلى تورين حيث واصل عمله في مجال الكيمياء. في عام ١٩٤٨، بعد عام من نشر من كتابه الأوّل: النّجاة من الأوشفيتز، أدار معملًا تخصّص في الأصباغ، وهو المنصب الذي شغله حتّى تقاعده عام ١٩٧٧. وفي عام ١٩٧٥ نَشَر كتابه الجدول الدّوري والذي اعترف فيه – مع أمور أخرى – بامتنانه لوظيفته العلميّة. حينها كان قد نالَ اهتمامًا عالميّا باعتباره أحد أهم كُتّاب إيطاليا، واستمرّ في كتابة الشّعر، والمذكّرات، والمقالات.

انتحر ليفي عام ١٩٨٧؛ رمى نفسه على درج رخام من الطّابق الرّابع، حيث تقع شقته. ذات الشّقة التي ولد فيها عام ١٩١٩، وذات الشّقة التي ربّى فيها أبناءه بمساعدة زوجته، وذات الشّقة التّي أجريت فيها هذه المُقابلة في يوليو ١٩٨٥. حين التقينا، قادني ليفي إلى مكتبه، حيث جلسنا على مقعد جلدي، وشربنا قهوة أعدتها الخادمة. على المكتب حاسوب، حدّثني ليفي عن فائدته بالنّسبة له في كتابة رواياته. ومثل هيئة ليفي، كانت الغرفة – تطل نافذتها على حي كورسو ري أومبرتو –  في غاية التّرتيب، والتّنسيق.

في شخصيّته، كما في كتاباته، قدّم بريمو ليفي الحقيقة على نحو أقل مما هي في الواقع؛ قدّمها بلطف، لكن بتفاصيل فيها امتعاض ساخر غدا واضحًا في أعماله الأخيرة، تناول محاور عديدة، تعدّدَت كتعدّد نظريات تودورف في اللغة – تكوين إيطاليا الاجتماعي-الاقتصادي، والحاجة لإجبار جميع العلماء على دراسة الأخلاق في الجامعة كجزء من تدريبهم.

اتّسم ليفي بالصّبر، وعذوبة الحديث، والخجل. ومع ذلك، كان قادرًا على العشق. ربط اهتماماته الأساسيّة في الحياة بالعِلم، وتحديدًا بإيجاز العِلم ودقّته، تمكّن بريمو ليفي من تطوير أدبه. الجدول الدّوري، كتابٌ يوثّق تاريخ أسرته وأحداث زمانه، كما يوثّق قصّة تطوره من عالم إلى كاتب، والتي ربطها مجازًا بقصّة ذرة الكربون. في فصل “الكربون”، وهو الفصل الأخير من هذا الكتاب، يقدّم ليفي أحد أهم المحاور: تقديم المادة على أنّها نَسَقٌ كوني لا يربط حياة بأخرى، أو الحياة بأكملها فقط، بل وأيضًا بالمادة التي استُلهمت منها الحياة، بل والمادّة التي نشأت منها الحياة. وهذا يعني أنّ الأثر الدّقيق للمادة، جُسيم الكربون ذاك، له أهميّة رمزيّة ذات أبعاد كونيّة.

قبل انتحار ليفي بعام واحد، نشر كتاب الغريق والمُنقذ، والذي تحدّثَ فيه عن الألم الذي عانى منه خلال سجنه في الأوشفيتز، الخزي الذي استمر في تعذيبه، والعداوة التي يشعر بها نحو من ساهموا في تلك الوحشيّة، ومن كان بإمكانهم الحديث عنها، لكنهم آثروا الصّمت. آمن – كما ذكر خلال اللقاء – أنّ جميع النّاس مسؤولين عن بعضهم، ومسؤولين عن الكائنات الأخرى أيضًا. لا لوجود دافع أخلاقي فقط، بل ولأنّ كلّ المخلوقات– تفاحات أم قردة – تتكون من ذات المادة.

الصّحفي: هلّا أخبرتنا عن تعليمك؟

بريمو ليفي: تلقيْتُ تعليمًا كلاسيكيًّا. تدريبي على الكتابة كان جادًّا. غريب بما يكفي؛ لم يعجبني برنامج الأدب الإيطالي [الأكاديمي]، بينما أغرمتُ بالكيمياء. ولهذا، رفضت تعلم الأدب المعني بالإنسان، لكنّه تغلغل بي دون أنْ أعي ذلك. تجادلت مع أساتذتي لأنّهم أصروا على الالتزام بتركيب الجمل، والعبارات بطريقة معيّنة. غضبت غضبًا شديدًا منهم، لأنّي اعتبرت المسألة هدرًا للوقت الذي كان من المفترض أنْ أقضيه في المسائل الكونيّة: [التّفكّر] في النّجوم، والقمر، والميكروبات، والحيوانات، والنّباتات، والكيمياء، إلخ. جميع العلوم الباقية: التّاريخ، والفلسفة على سبيل المثال، كانت مجرّد عائق يجب تخطيه للحصول على الشّهادة الثّانوية، ودخول الجامعة.

الصّحفي: توحي كتبك بقراءة عميقة، وموسّعة جدًّا في الآداب: الأمريكية، والإيطاليّة، والألمانية.

بريمو ليفي: أجل، فوالدي كان يعشق القراءة. ورغم أنّه لم يكن غنيًّا، إلّا أنّه كان كريما في إهدائي الكتب. كان الحال مختلفًا آنذاك. أمّا اليوم، فمن السّهل الحصول على الكتب الأجنبيّة من أي مكان؛ مترجمة، أم بلغتها الأصلية. كل ما عليْك فعله هو الذّهاب لمتجر الكتب، للعثور على مُبتغاك. سبب صعوبة الحصول على الكتب آنذاك، هو أنّ النّظام الفاشي كان يفرّق بين الكتب التي صدرت في هذا العام، عن الكتب التي صدرت في ذاك العام. أي أنّهم سمحوا بالكتب الإنجليزية، أو الأمريكيّة المترجمة التي تنتقد المجتمع الأمريكي، أو الإنجليزي. كتب د. هـ. لورنس المتعلّقة بالحياة في مناجم الفحم لم تُنشر في إيطاليا فقط، بل وُزّعت على نطاق واسع، لأنّها انتقدت حال عمّال المناجم في إنجلترا. في هذا إيحاء بأنّ أحوال عمّال المناجم الإيطاليين أفضل. خلط لورنس المغامرة العاطفيّة بالفاشيّة، وهذا سبب آخر لترجمة أعماله. أجل، كانت الرّقابة الفاشيّة ذكيّة، على نحو خاص. تُوافق على كتاب، وترفض آخر، كرفضها لأعمال هيمنغواي مثلًا. هيمنغواي كان شبه شيوعي في إسبانيا. تُرجمت كتبه، ووصلت إلى إيطاليا بعد الحرب. [سبب آخر هو أنّ] والدي قد حثّني على قراءة كتب فرويد في عمر الثّانية عشر.

الصّحفي: حقًّا!

بريمو ليفي: بشكل غير قانوني. فرويد كان ممنوعًا. لكنّ والدي تمكّن من الحصول على ترجمة من كتاب مقدمة إلى علم النّفس. لم أفهمه.

الصّحفي: ماذا عن الكُتّاب الأمريكيين؟ مارك توين، وولت وايتمان؟

بريمو ليفي: مارك توين كان محايدًا في السّياسة. من أيضًا؟ جون دوس باسوس – تُرجم إلى الإيطاليّة. شولم آش تُرجمت أعماله. حسنًا، لم تكن إيطاليا بمعزل كُلّي عن العالم. تَرجم بافيزِه أعمال ملفل. أمّا قصّة موبي ديك فاعتبرناها اكتشافًا؛ لا تحتوي على تضمينات سياسيّة. قرأتُها حين كنتُ في العشرين من عمري. تجاوزتُ مرحلة الطّفولة، لكنّها أعجبتني. تشيزاري بافيزِه أعظم من ترجمها، رغم أنّه لم يكن أرثوذوكسيًّا، حوّرها، ثمّ أدرجها في اللغة الإيطاليّة. لم يكن بحّارًا، لأنّه كره البحر. لابدّ أنّه قد هيّأ نفسه [لترجمة هذا العمل]. كنتُ أعرفه، ذلك لأنّي التقيتُ به مرتيْن قبل انتحاره. في عام ١٩٥٠، وفي أوج نجاحه، تخلّص من حياته في غرفة في فندق بولونيا – لسبب مجهول. لكن أليس في كلّ انتحار غموض؟ واجه مشاكل جنسيّة على ما يبدو، لم يكن عاجزًا، بعض الحياء الجنسي. أضف لهذا أنّه كان شديد التّعقيد. لم يرضَ عن أعماله الكتابيّة. وواجه مصاعب سياسيّة أيضًا – لأنّه كان شيوعيًّا خلال الحرب، لكنّه لم يملك شجاعة الذّهاب للمقاومة، فشعر بذنبٍ كبير لأنّه لم يقاتل ضد الألمان. هذه بعض الأسباب التي قادتهُ للانتحار، لكن لا أظنني أعرفها جميعًا.

الصّحفي: تحدّثتَ في الجدول الدّوري، عن العلاقة بين الرّوح والمادة، وذكرتَ أنّه بإمكاننا فهم الكون ومكوّناته عن طريق المادة فقط.

بريمو ليفي: اهتمَّت الفلسفة الفاشيّة بالرّوح كثيرًا. انتشرت عبارة: “الرّوح المتسيّدة مُهمّة”. بمعنى، لو أنّ الجيش الإيطالي لم يتجهّز بالشّكل المطلوب، فإنّه سيكسب الحرب، لأنّ روحه غلبت المادة. يكمن عمق الفكرة في امتلاكك للرّوح، التي ستضمن لك الانتصار. لكن. حماقة، لكنّها هيمنت على عقول الطّلبة. علّمونا في دروس الفلسفة، أنّ لكلمة الرّوح معنى ملتبس. تقبّل معظم رفاقي الأمر، لكن هذه التّشبث بالرّوح أغضبني. ما هي الرّوح؟ الرّوح ليست مُرادفًا للنّفس. لم أكن مؤمنًا؛ ولست مؤمنًا الآن. للرّوح ماهية لا يمكن لمسها. بدا لي في ذلك الوقت، أنّها كذبة رسميّة قائمة على شيء لا يمكنك رؤيته بعينيْك، ولا سماعه بأذنيْك، ولا لمسه بيديْك.

الصّحفي: هناك خطورة تقبع في الرّوح… تمكنها من التّحكم بالمنطق.

بريمو ليفي: عذرًا، الرّوح فطرةٌ، لا منطقًا. في الحقيقة، تم تفنيد المنطق باعتباره أداةً للنّقد. في منطقهم، كانت الرّوح شيئًا في غاية الابهام. المواطن الصّالح يجب توجيهه … هل تعرف أورويل؟ هل تعرف تبعات رواية ١٩٨٤ عن الكلام الحديث؟ لقد اقتبسها من النّظام الشّمولي. الحقيقة هي أنّ كثير من الأمور في عهد الفاشيّة الإيطاليّة لم تنجح بتاتًا. لكنّ التّسليم بها نجح. كانوا حذرين بخصوص استبعاد المعلمين المناهضين للشيوعيّة، ومن فصلهم، أو معاقبتهم، وحاذروا من استبدالهم بمعلمين موالين. وهكذا فإنّ الفكر الفاشي قد اخترق في الصّميم، تفوقت الرّوح لا المادّة – ولهذا السّبب تحديدًا، قررتُ أنْ أصبح كيميائيًّا، ليكون في متناول يدي ما يمكن إثباته أو إبطاله.

الصّحفي: لا يمكن إثبات وجود الرّوح إلّا عن طريق المؤمنين.

بريمو ليفي: صحيح. ذات الإشكال قد ناقشه أفلاطون. جدال عقيم عن وجود الرّوح، وعمّا إذا كانت النّفس خالدة أم لا. بل على العكس، يمكن إثبات أو إبطال كل فكرة بالعلوم الطّبيعيّة. ولهذا، كان في الانتقال من نقاشات الإثبات إلى شيء أكثر ثباتًا راحة أكبر بالنّسبة لي، مسائل يمكن اختبارها في المعمل، في أنبوب الاختبار. تراها، وتشعر بها.

الصّحفي: يتبادر في الذّهن كلّ من العلم والأخلاق عند قراءة أعمالك. هل يُتوقّع من العالِم أن يكون أكثر أخلاقيّة من بقيّة العاملين؟

بريمو ليفي: أتوقّع من الجميع أنْ يكونوا أخلاقيين. لكنّي لا أعتقد أنّ التّدريب العِلمي المفترض في إيطاليا أو أمريكا سيكوّن لديك إدراك أخلاقي خاص. من المفترض إخبار الشّباب، أو الشّابات الذين انضموا للدراسة الجامعيّة في أقسام العلوم الطّبيعيّة: تذكّروا أنّكم قد دخلتم مهنة تُعتبر الأخلاق فيها أساسًا جوهريًّا. هناك فرق بين الكيميائي الذي يعمل في معمل للأصباغ – مثلي – ومن يعمل في مصنع للغاز السّام. يجب أنْ تعي تأثيرك في الحياة العمليّة، أنْ تتمكن من رفض بعض الوظائف.

الصّحفي: ما تقوله مذكور في كتابك الجدول الدّوري، إضافة إلى كونه يوافق ولائك، وحبّك لأصدقائك، ساندرو – على سبيل المثال. الجزء الذي تقول فيه: “لم يبق منه شيء، لا شيء عدا الكلمات” يلامس شغاف القلب. لكنّك بعثتَه إلى الحياة عن طريق الكلمات.

بريمو ليفي: صحيح، بالنّسبة للقارئ، وليس لي. كان أفضل مقاربة يمكن الوصول لها على الصّفحة المطبوعة. هناك فرق دائم بين الصّورة الشّخصيّة، والشّخصي الحي.

الصّحفي: كيف تجد تكريمك له بالسّعادة؟.

بريمو ليفي: كان ساندرو ليقهقه. لم أتشاجر مع أسرته، بل واجهتُ صراعًا، لأنّهم لم يعرفوا قدره. أمر شائع. إذا حاولتَ وضع أي فرد على قيد الحياة في صفحة مطبوعة، فستضعه بانزعاج، حتّى لو كان هدفك نبيلٌ لتحسين خصاله أو خصالها. لكل شخصٍ انطباعٌ كوَّنه عن نفسه. ومن النّادر أن تتوافق صورتك عن نفسك، مع تلك التي كوّنها من لاحظك. حتّى لو كانت الصّورة في الكتاب أكثر جمالًا، فإنّها لا تطابق الواقع. الأمر أشبه بتوجّهك إلى المرآة، لتجد وجهًا أجمل من وجهك، لكنّه ليس وجهك. أتساءل ما إذا كنتَ تتذكر قصّة الفسفور في الجدول الدّوري.

الصّحفي: نعم، أتذكرها.

بريمو ليفي: الشّابة التي في القصّة هي صديقتي. بعد كتابة الفصل الذي يتحدّث عنها، ذهبتُ إلى ميلان حيث تقيم، وناولتها المخطوط. قلتُ لها: “كتبتُ قصّة عنك وعنّي. أرغب في الحصول على موافقتك لنشرها”. حزنت قليلا، ومنحتني الموافقة، ونظرًا لكونها متزوّجة، لاحظت على وجهها علامات الانزعاج، والإحراج. في الواقع، حرّفتُ شخصيّتها قليلًا، كي لا يتعرف عليها أحد. قالت: “حسنًا. أنا سعيدة، وراضية…”، لكنّها لم تكن كذلك.

الصّحفي: ماذا عن الرّجل الذي ابتدع فكرة لم الشّمل في كتاب الجدول الدّوري؟

بريمو ليفي: إنّها خدعة. حين لا تكون الشّخصيّة حمقاء، أو خرقاء من الطّراز الأول، من الذّكاء إعادة تكوينها من أجزاء مختلفة. أخذتُ جبينًا من رجل، وذقنًا من آخر، وارتعاشات جسد شخص ثالث، وهكذا. ورغم كل هذا…

الصّحفي: يقول الجميع: “هذا أنا!”

بريمو ليفي: التقيتُ بالشّخص الحقيقي الذي ترتجف يداه. لم يقل شيئًا، لكنّه لم يمتدح الكتاب. تصرّف معي ببرود.

الصّحفي: أظن أنّ هذا هو الثّمن الذي يدفعه الكاتب. الجدول الدّوري يختلف عن بقيّة كتبك من ناحية اللغة والأسلوب. ما مدى إلمامك بما يطلق عليه البعض الرّواية الجديدة، أو الواقعيّة الجديدة؟ إيتالو كالڤينو من كُتّاب هذا التّيار.

بريمو ليفي: هذا سؤال صعب. بدأ كالفينو مع بدء الواقعيّة الجديدة، لكنّه ابتدع أسلوبًا، وشخصيّة تخصّه، يصعب معها تصنيفه بأي حال من الأحوال. أُسأَل كثيرًا عن التيّار الأدبي الذي أميل له. لا أعرف [الإجابة]، ولا يهمني الموضوع. مما لا شكّ فيه، أنّه يمكنك تقفي تأثير الكثير من الكتّاب في كتابات كالفينو – نحن رفاق منذ فترة طويلة – أو في كتاباتي: حداثيين، وكلاسيكيين، ودانتي، وفيرجيل، وغيرهم. إنّهم محتشدون معًا. لثقافتي الكيميائية تأثير يفوق قراءاتي. إنّها تجلب لي مادّة أوّليّة جديدة. أمّا كالفينو، فكانت لأسفاره، وإقامته في باريس، وتواصله مع النّخبة المثقّفة في باريس أثر كبير في كتاباته، وأجهل إنْ كان يدرك ذلك، أم لا.

الصّحفي: هل تلقى تدريبًا ليكون عالمًا أيضًا؟

بريمو ليفي: ليس كُليًّا. كان والداه يملكان حديقة نباتيّة، أولًا، في كوبا، ثمّ في سان ريمو، في إيطاليا. وهذا يعني أنّه قضى طفولته بين الحدائق والنّباتات، والحيوانات، والحشرات. إنّه متابع جيّد لآخر الاكتشافات العلميّة، والفلكيّة، والكيمياء.

الصّحفي: توسّع عملك باعتبارك عالمًا، بسبب إلمامك باللغات. هل تعلّمت الإنجليزيّة، والألمانيّة بهذه الطريقة؟

بريمو ليفي: اعتدت على الحديث بالإنجليزيّة في المصنع، والحديث مع العملاء. لكنّ الحديث في المتاجر أسهل. المرّة الأولى التي ذهبتُ فيها إلى الولايات المتّحدة، وظهرتُ أمام جمهور، كانت المرّة الأولى التي أتكلم فيها بالإنجليزيّة بإسهاب لأكثر من عشر دقائق. كنتُ أحمقًا أمام الجمهور. سألني أشخاص يجلسون على المقاعد الخلفيّة، وكانوا يتحدّثون بلهجات مختلفة أو مختلطة أحيانًا، ممّا دفعني لأطلب من شخص أنْ يُترجم ما يقولونه من إنجليزيّتهم، إلى إنجليزيّتي! لا أواجه صعوبة في الحديث، بل في الفهم. درستُ قليلًا من الإنجليزيّة دراسة مُمنهجة، إضافة لقراءة الكثير من الكتب. ثروتي اللغويّة غنيّة، وفي كثير من الأحيان أعرف معنى الكلمة، وأجهل طريقة نطقها.

الصّحفي: ماذا عن إلمامك بالألمانيّة؟

بريمو ليفي: تعلّمتُ الألمانيّة في معتقل. إنجليزيّتي غير مثاليّة، لكنّها مُتحضّرة، ومُهذّبة. أمّا ألمانيّتي فليست كذلك؛ ليست مهذبة. كانت ألمانيّة الثّكنات العسكريّة. تعلمتُها في معسكر الأوشفيتز للبقاء حيًّا. كان من الضّروري – في تلك الحياة – أنْ تَفهم لتعيش. لاقى كثيرٌ من رفاقي حتفهم، لقصور في فهم الألمانيّة. نُقلوا فجأة إلى عالم ناطق بالألمانيّة، أو لغة الإيدش (لغة يهود أوروبا). عالم انعدم فيه المتحدثين بالإيطاليّة تقريبًا – من الغريب دراسة الألمانيّة في إيطاليا، وحتمًا لم ندرُس البولنديّة. ولذلك كان عالَمًا كلامه غير مفهوم. قادني الحال للجنون. أستذكر الأيّام الأولى برعب، حين كنت أعرف الشّيء اليسير من الألمانية بسبب الكيمياء، لأنّها كانت ضربًا من ضروب العلوم الألمانيّة. نصوص كثيرة كانت بالألمانيّة، ولهذا درستُ بعض الألمانيّة لأفهمها. لكنّي استنجدتُ بالأصدقاء، والرّفاق في مقاطعة ألسا لورين الذين كانوا يتحدثون لغتيْن، قائلا لهم: “أرجوكم علموني ما تعنيه هذه الأوامر بسرعة”. كان الألمانيون يصدرون الأوامر بصراخ، وبفظاظة … بأسلوبهم الذي يشبه كلابًا تنبح. تمكّنتُ من تعلّم بعض الألمانيّة، لكنّها كانت ألمانيّة هجينة، خليط من الكلمات الألمانيّة، والبولنديّة، والإيدشيّة. لم تكن ألمانيّة فصيحة. وبعد أعوام – في عام ١٩٥١– ذهبتُ إلى قرية قرب كولون ألمانيا للعمل. بعد مناقشة بعض المسائل، قال أحد الألمان: “من المستغرب أن يتكلّم إيطالي الألمانيّة. لكنّ ألمانيّتك غريبة. أين تعلمت التّكلم بهذه الطّريقة؟”، قاطعتُه وقلت: “صحيح يا سيّدي. تعلّمتها في معسكر للاعتقال؛ الأوشفيتز”. جوابي كان بمثابة الصّاعقة عليه. اعتدت على ترديد ذات الإجابة مع آخرين. لستُ مُستاءً، لكنّ الأمر كان أشبه بـاختبار للصّبغة بورق تباع الشّمس مع من كنتُ أكلمهم. طريقة تصرفه، أو تصرفها إشارة لأعرف إنْ كان نازيًّا – وأغلبهم كانوا كذلك – أم سجينًا عمل في معسكر للاعتقال.

بعد ذلك، حاولتُ تهذيب لغتي الألمانيّة، لتكون متحضّرة رفيعة – خاصّة في طريقة النّطق. ليس لدي تأثير منعكس نحو اللغة، ولا أغضب عند التّكلم بالألمانيّة، أو سماعها. أجدُها لغة نبيلة؛ لغة غوته، ولغة غوتهولد إفرايم ليسينغ. لا شأن للغة بالنّازيين، بل هم من أفسدوها. كفانا حديثًا عن الألمانية؛ لم تعد مرتبطة بألمانيا النّازيّة.

الصّحفي: إذن، فأنت لا تشعر بالرّاحة عند السّفر إلى ألمانيا اليوم؟

بريمو ليفي: بشكل عام لا. لا يختلف الحال عن سفري إلى بولندا أو روسيا. ذهبتُ في بولندا للأوشفيتز مرّتيْن لأهداف استذكاريّة من التّوترات، والاهتمامات، والمشاعر المختلطة نحو الرّوسيين، والألمان، واليهود.

الصّحفي: أمازالوا يعادون السّاميين في بولندا اليوم؟

بريمو ليفي: ما عادوا كذلك. لشح الموارد! غادر قرابة الخمسة آلاف يهودي فقط. نصفهم من الحكومة – موظّفون – ونصفهم تضامنًا.

الصّحفي: أثناء سجنك، هل توقّعت نيل معاملة أفضل من العلماء الذين يعرفون تاريخك العلمي؟

بريمو ليفي: لم أتوقّع ذلك. قصّتي كانت استثناء، لأنّهم اكتشفوا تاريخي الكيميائي، عينوني في مختبر كيميائي. كنّا ثلاثة من أصل عشرة آلاف سجين. مكانتي الشّخصيّة كانت استثناء كبيرًا، كمكانة أو موقف أي ناجٍ. السّجين العادي، سيلقى حتفه، وهذا مهربه الوحيد. بعد اجتياز اختبار في الكيمياء، توقّعت شيئًا من رؤسائي. لكنّ الشّخص الوحيد الذي عَرَفني هو د. مولر، المسؤول عنّي في المختبر. تبادلنا أطراف الحديث في رسائل بعد الحرب. كان رجلًا عاديًّا، لم يكن بطلًا أو همجيًّا، لم يكن لديه أدنى فكرة عن أوضاعنا. نُقل إلى الأوشفيتز قبل نقلي بأيام قلائل. ولهذا كان متحيّرًا. قالوا له: “أجل، في مختبراتنا، في مصانعنا، نحن نوظّف السّجناء. إنّهم شياطين، معارضون لحكومتنا. نُشغّلهم لنستغلهم، وعليك ألّا تتكلم معهم. إنّهم خطيرون، إنّهم شيوعيّون، إنّهم قتَلة. اجعلهم يعملون، ولا تتواصل معهم. مولر هذا، كان أحمقًا، ذكاؤه محدود. لم يكن نازيًّا، لكن في قلبه ذرة إنسانيّة. لاحظَ أنّي لم أحلق، فسألني عن السّبب. قلتُ له: “نحن لا نملك أمواس حلاقة، ولا نملك مناديل حتّى. نحن عراة بمعنى الكلمة، محرومون من كلّ شيء. منحني طلب توريد لأوقّعَه. أضف لهذا، أنّي أرتدي صندليْن خشبيًّيْن؛ مزعجيْن، وغير مريحيْن. سألني عن السّبب. فأخبرته أنّ الجنود قد أخذوا منّا أحذيتنا في اليوم الأوّل. مكّنني من الحصول على حذاءيْن جلديّيْن. هذا يعتبر نعمة، لأنّ الصّندليْن الخشبيّيْن قد تلفا. ما يزال في رجليْ آثار جروح بسببهما. ستنزف قدماك، وتتشقّقان بعد نصف ميل من المشي، إنْ لم تكن معتادًا عليهما. الحصول على الحذاءيْن الجلديّيْن أمر مهم، ولهذا أدين بالجميل لهذا الرّجل. لم يكن جسورًا، وكان يخشى ألمانيا النّازيّة، مثلي. شغله الشّاغل أنْ يكون عملي مفيدًا، لا إعدامي. لم يُكن الضّغينة لليهود، أو السّجناء. كان يأمل أنْ نكون عمّالًا منتجين. القصّة التي ذكرتها عنه في الجدول الدّوري حقيقيّة تمامًا. لم ألتق به بعد الحرب، لأنّه فارق الحياة قبل الموعد بأيّام. هاتفني من منتجع في ألمانيا حيث كان يستعيد عافيته. حسب علمي، كانت وفاته طبيعيّة، لكنّي لا أعرف الحقيقية، لهذا آثرت ترك نهايته مفتوحة في الجدول الدّوري … ليكون القارئ في حيّرة من أمره، كما كنت.

الصّحفي: أخبِرني عن لورنزو، الرّجل الذي أطعمك.

بريمو ليفي: كان الأمر مختلفًا مع لورنزو؛ كان رجلًا حسّاسًا، شبه أمّي، وشبه قديس حقيقةً. بعد الحرب، حين التقيتُ به في إيطاليا، قال لي أنّه لم يساعد أحدًا غيري. كان قد ساعد ثلاثة أو أربعة مساجين دون أن يقول لأي منهم عن الآخر. تذكَّرْ أنّ كلامنا كان قليلًا. كان يفضّل الصّمت، ورفض أن أشكره، لم يرد على كلماتي. كل ما فعله هو هز كتفيه استهجانًا. “خذ الخبز. خذ السّكر. التزم بالصّمت. ليس عليك أنْ تتكلم”.

فيما بعد، حاولتُ إنقاذه. كان الوصول إليه، والحديث معه صعبًا. كان … في غاية الجهل، شبه أُمّي، بالكاد كتب حرفًا. لم يكن متديّنا، ولم يعرف العهد الجديد، لكنّه حاول مساعدة النّاس بفطرته السّليمة، لم يبحث عن التّكريم أو المديح. قال لي بكلمات وجيزة ذات يوم: “ما سبب وجودنا في العالم إن لم نمد يد العون لبعضنا؟” توقّف. نقطة. لكنّه كان يخشى العالم، خاصّة بعد مشاهدة موت النّاس وكأنّهم ذباب، لم يفرح بعدها. لم يكن يهوديًّا، ولا سجينًا. غدا مُرهف الأحاسيس بعد عودته للوطن، واعتاد على الشّرب. ذهبتُ لزيارته – على مقربة من تورين – لأقنعه بترك الشّرب. كان قد ترك وظيفته في تركيب البلاط، وعمل في بيع وشراء الخردوات لأنّه مدمن على الكحول. شرب بكل ليرة إيطاليّة جناها. سألته عن السّبب، فقال لي بصراحة: “ما عدتُ راغبًا في الحياة، اكتفيْتُ منها… بعد مشاهدة نتائج القنبلة الذّريّة.. أظنني قد شاهدت كل ما في الحياة…”. فهم الكثير من الأمور، لكنّه لم يدرك موقِعَه: بدلًا من قول “الأوشفيتز”، قال “الأوشسويس”، وكأنّها سويسرا. اختلت المواقع الجغرافيّة في ذهنه، وواجه صعوبة في الالتزام بأي جدول زمني. كان يشرب، لينام على الثّلج من أثر الخُمار. وبعد إصابته بالسّل، أرسلته للعلاج في المشفى، لكنّهم رفضوا تقديم النّبيذ له، فهرب. مات بسبب السّل والكحول. أجل، كان انتحارًا.

الصّحفي: أثناء عملك في مصنع الأصباغ، هل كان لديك رئيس ثمّن طموحاتك الأدبيّة.

بريمو ليفي: كان في غاية الذّكاء، رجلًا ذكيًّا، لكن في ذلك الوقت كان هناك اتفاق ضمني بيننا. أنت، بريمو ليفي، يجب أن تكون كاتبًا في وقت فراغك، لا عاملًا في مصنع. كان فخورًا بوجود كاتب يعمل في الكيمياء، لكن لم يكلمني في هذا الشّأن، رغم أنّي متيقن من أنّه تفاخر عند الآخرين. دعونا بعضنا على الغداء.

الصّحفي: ألم تفعل ذلك من قبل؟

بريمو ليفي: لا. لم أتمتع بثراء يمكنني من دعوته على وليمة فاخرة في مطعم. كان يعرف مقدار أجري، ولم أكن أكسب مالًا من الكتابة آنذاك.

الصّحفي: ألم تتمكّن من دعوته لمنزلك لتناول طعام العشاء؟

بريمو ليفي: لم يأت إلى هنا إطلاقًا. كنتُ أذهب إلى منزله أحيانًا، حين يقام حفل. كان دخله كان مرتفعًا – كان مليونيرًا، وكنتُ عالة عليه. فرقٌ هائل، ولم يعد الحال كذلك الآن.

الصّحفي: يقول هاينرش بول أنّ أحد أسباب سماح الألمان بالهولوكست هو أنّهم يطيعون القانون، ويحترمونه، بينما قلت أنّ الإيطاليين لا يحترمون القانون.

بريمو ليفي: أجل، هذا هو الفارق الرّئيس بين الفاشيّة الإيطاليّة وشبيهتها الألمانيّة، النّازيّة. اعتدنا أنْ نقول أنّ الفاشيّة بطش أصبع أخف وطئا لعدم احترامنا للقوانين. عدد كبير من الإيطاليين اليهود  نجوا بسبب التّعدي على القوانين، حين تكون القوانين متعجرفة، فإنّ تجاهلها هو الحل الأمثل، فإن تجاهلها هو الحل الأمثل. بشكل عام، لا يوجد بغضٌ للأجانب في إيطاليا. ولأنّي شاهدت بعض أنحاء العالم في إيطاليا وأوروبا، وأماكن أخرى، لست سعيدًا بكوني إيطالي. أدرك النّقائص جيّدًا بلا شك. لم نتمكّن أبدًا من اختيار طبقة سياسيّة تستحق. حكومتنا ركيكة، ليست قويّة؛ لدينا فساد. في رأيي، أسوأ عللنا موجودة في المدارس، والنّظام الصّحي المريع. المعلمون والمعلمات في الأربعينيّات من أعمارهم، وكانوا قد لعبوا دورًا في تصعيدات ١٩٦٨، وكثير من منهم لم يتعلّموا أصلًا، ولم يتخصّصوا في أي شيء، كيف تُدرّس، إنّ لم تَدْرُس؟ رفضوا الثّقافة حبًّا في النّشاط، والمغامرة، والمشاجرات، والسّياسة، إلخ. يشكّلون الآن معظم فئة المعلمين. وتلامذتهم يكرهون هذا. كتبهم مريعة.

الصّحفي: ألاحظ في أعمالك، وحتى في كلامك، أنّك لا تكره، ولا تظهر العداء رغم الأمور التي عايشتها.

بريمو ليفي: إنّها مسألة هرمونات مستقرة. في المواقف التي يفترض أنْ أغضب فيها على أطفالي – على سبيل المثال – ليتأثّروا، لم أكن قادرًا على فعل ذلك. ليس في الأمر فضيلة، بل على العكس، إنّها نقيصة. امتدحوني كثيرًا لأنّي لا أكره الألمان. ليست قيمة فلسفيّة. إنّها مسألة التّعود على امتلاك ردود فعل أخرى قبل الأولى. إذن، قبل أن أغضب، أتساءل. والمنطق يتسيّد الموقف غالبًا. هذا لا يعني أنّي مستعد للصفح عن الألمان، بتاتًا. أُفضّل أنْ يتفوّق القانوني – رغم أنّي إيطالي – على الغضب الشّخصي. أسعدَني إلقاء القبض على إيشمان وإعدامه – رغم معارضتي لعقوبة الإعدام. لم أجد إشكالًا في هذا الموقف. لكن لو أخبرتك أنّي أكره إيشمان، فسأكون كاذبًا. رد فعلي الأوّل كان محاولة فهمه. قبل شهريْن، طلب منّي ناشر كتابة تمهيد لكتاب رودلف هس. هل تعرفه؟ آمر قوّات في معسكر الأوشفيتز. كتاب من الطّراز الرّفيع من وجهة نظري. كتبت ما يلي تقريبًا: “بشكل عام، حين يُطلب من كاتب كتابة تمهيد لكتاب، فهذا لأنّه يحب الكتاب، ولأنّه يجد الكتاب رائعًا. عزيزي القارئ: هذا الكتاب ليس جميلًا، وأنا لا أحبّه، أكرهه. لكنّه مهم، لأنّه سيُعلّمك كيف يمكن للنظام تضليل رجل عادي، ليقتل ملايين البشر. واجه هس طفولة صعبة بلا شك … وقاتل مع الفدائيين في العراق، خلال الحرب العالميّة الأولى. على أي حال، لم يُخلق من مادة تختلف عن المادة التي خُلقنا منها أنا وأنت. لم يولد مجرمًا. ولم يكن غريبًا. لكنّ دخوله في معترك الوطنيّة، والتعليم النّازي فيما بعد، وتدريبه جعله ضعيف الشّخصية؛ يوافق على تنفيذ الأوامر دائمًا. كان بول مصيبًا، فهِس كان ألمانيًّا نموذجيًّا. لم يمانع فيما لو أنّ القانون قد تماشى مع كلمات هتلر وهملر. قال بصراحة أنّه يستحيل معارضة أي أمر يصدره هملر. لم يفكر في المسألة مرّتيْن. تم تدريبه هو ورفاقه على تنفيذ كل أنواع الأوامر. طاعة عمياء.

الصّحفي: المادة صادقة وصعبة المنال. والرّوح ليس لها صلة، ويمكن أن تجلب الدّمار والخداع. ولهذا أجد أنّ الجدول الدّوري الذي صمّمه مندليف، أصبح شعرًا.

بريمو ليفي: هذه مزحة. هل شاهدت الجدول الدّوري؟

الصّحفي: شاهدتُه في دروس الكيمياء.

بريمو ليفي: يُقرأ كقصيدة لأنّ فيه سطور، كل سطر ينتهي بعنصر، ويشكل إيقاعًا. تشبيه خيالي مفصّل. مقبولٌ في النّص، ويحكي لنا ما يناقض ساندرو: “انظر، إنّه أشبه بشعر. يوجد إيقاع هنا، كالإيقاع الذي لديك”. لكن هناك شيء مستتر في هذا التناقض. أعتقد أنّ هناك شيء في غاية الشّعريّة والكيمياء في فهم المادّة. أجد أنّ جاليليو أحد أهم كتاب إيطاليا، رغم أنّه لم يعتبر كذلك: نصوصه، التي أحتَفِظ بها رائعة لإيجازها ودقّتها. كان لديه شيء ليقوله. ومن وجهة نظري، امتلاك الكاتب لأمر جديد يقوله أمر ضروري. لو أنّ الكاتب مؤمن بأنّه صادق، ولديه قضيّة جوهريّة ليكتب عنها، فسيكون كاتبًا جيّدًا. إنّه مُجبر على نقل الأفكار بوضوح. من ناحية أخرى، عدم امتلاك الكاتب لشيء يكتب عنه، سيجعله كاتبًا من الصّف الثّاني، حتّى لو امتلك أدوات الكتابة.

الصّحفي: في كتاب الجدول الدّوري ميزة تؤكد أنّك ستكون كاتبًا، حتّى لو لم تُسجن في الأوشفتز.

بريمو ليفي: السّؤال الذي يتكرّر كثيرًا: ماذا كنت ستكون، لو لم تكن سجينًا؟ لا أستطيع الإجابة عنه. لستُ مُستقرًّا، في غاية التّداخل مع وضعي لأني سجين في الأوشفتز وكيميائي، لدرجة أنّه لم يعد بإمكاني التفريق بين الشّخصيتيْن. في الحقيقة، كنتُ ضعيفًا في مادة اللغة الإيطاليّة في المدرسة الثّانوية. علّموني محاكاة الكُتّاب العظماء، محاكاة دانتي. لم أشعر بالرغبة لفعل ذلك. لم أرغب في محاكاة أي شخص. لكنّي حاكيت أساليب الكثيرين عن غير قصد. غضبتُ من حثّي على تقليد أولئك الكُتّاب، وهذا يعلّل ضعفي في اللغة الإيطاليّة، كدتُ أن أفشل في الواقع. يئست؛ أعلى درجة كانت عشرة، وكنت أحصل على ثلاث. ثلاث طُلاب نالوا ثلاث درجات، أصبح اثنان منهم كاتبين. الكاتبة الأخرى هي فرنانده بيفانو، صديقة بافيزِه، وهيمنغواي. إنّها ناقدة متخصّصة في الأدب الإنجليزي. ورغم مراوحتي لمكاني في الأدب، أعجبني تاريخ اللغات دومًا. في طفولتي – حين كنت في الحادية عشر من عمري – طلبتُ من والدي شراء كتاب لي عن علم أصول الكلام. واحتفظتُ به، وكأنّه كنز. أتذكّر أن في المُعتقل – رغم الجوع المهلك، والبرد، كما تعلم – تعجّبي من اللغة والتّشابه بين الألمانية، والإنجليزيّة. تأمّلت هذه التّشابهات والاختلافات، في ساعات الاسترخاء القليلة. ما سبب تعقيد قواعد الألمانيّة، وسهولة قواعد الإنجليزيّة؟ لم أدرس اللغات بشكل منظم، مجرّد رأي.

الصّحفي: هل كان لديك تواصل مع اليهود اليونانيين؟

بريمو ليفي: أجل، تمكنّا من فهم بعضنا لأنّهم كانوا يتكلّمون الإسبانية اليهوديّة (لادينو)، وكنتُ أتحدّث الإيطاليّة. كانوا أشدّاء، لأنّهم من القلّة النّاجية التي نجت من التّرحيل من سالونيكا (أكبر تجمّع لليهود في اليونان)، قبل عاميْن. النّاجون ماكرون، بلا أمانة. لتنجو، من الأفضل ألّا تكون في غاية اللطف، أو في غاية السّلاسة. قلوبهم قاسية، وعملوا في الطّبخ والاحتطاب. لكن لدينا أمر مُشترك: صعوبة تحدثنا بلغة يهود أوروبا، ولهذا كان هناك شيء من التّضامن بيننا. هل قرأتَ كتابي اليقظة؟ هل تتذكر موردو ناحوم؟ أكنّ له مزيجًا من المشاعر. أعجبتُ به لأنّه رجل ناسب كلّ المواقف، لكنّه كان فظًّا معي. كرهني لأنّي لم أحسن التّصرف. قال لي: “تذكّر، حين تكون هناك حربٌ مشتعلة، فإنّ أوّل ما يهم هو الأحذية، ثمّ الطّعام. فإذا كان لديك حذاءيْن، ستتمكن من الجري وسرقة الطّعام”. صحيح، أجبته، كلامك عين الصّواب. لكن ليس هناك حرب الآن، فقال لي: “هناك حربٌ دائمًا”.

 

دلال نصر الله
دلال نصر الله

 

دلال نصر الله

مترجمة كويتية  لها عدة إصدارات ومشاركات في الصحف والمنصات الإلكترونية

ترجمت عددا من الأفلام والأوبرات الإيطاليّة

فازت بالمركز الأول في جائزة الكويت للإبداع الشّبابي عن فئة الثقافة والفنون والآداب  عام ٢٠١٩

موقعها http://dalalnsrallah.net

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.