القنّاص

لذة الغواية - نصوص ورشة الكتابة القصصية

3 1٬779

رحمة البحيري – تونس

“دف…دف…دف…” هكذا ترامى إلى مسمعه وهكذا أحسّ. اختلج بنيانه، واضطرب كيانه، ولايزال ثابتا، ولم يكن ثباته إلاّ مطلعا لانهيار محتّم، ولم يكن هدوؤه إلاّ غطاء لانتفاضة حملها في جوفه. هو يزعم سكينة باطنها قشعريرة. اهتزّ كلّ ما فيه. تصلّبت عروقه. تثلّجت سوائله أو بالأحرى قد تكون انصهرت. تمسّخت بويصلات شعره أشواكا والتفّت حوله تريد خنقه. نبتت لقلبه جوانح؛ علّه يحلّق بعيدا عن ثكنته. يريد أن يتبرأ منه، يريد أن يتحرّر من قوقعة مجرم رخيص. إن لم يسكّنه سيفضحه، يجب أن يحافظ على هدوئه، روّضه على هذا ما باله الآن؟ درّب ليكون هنا! هو خلق من أجل هذا! هذا قوته! ظنّ أنّه قتل تلك المبادئ التّافهة، الحقيرة الّتي لا تسمن ولا تغني من جوع! لقّنوه أنّ المال هو النّفس! فما بال نفسه يضطهد الآن؟ علّموه أنّ المبدأ مجرّد وهم من صنع الإنسان، فمن أين أتى هذا الحسّ؟ الآن، يكتشف أنّ حبّ هذا الوطن متشعّب فيه! الآن! لا ينبغي له أن يسأل عن سبب المهمّة، يجب أن ينفّذ فحسب! هكذا علّموه! المصلحة العامّة تستدعي ذلك. عصفت ذهنه نقطة استفهام ساخطة، تلعن مرور الثّواني وتنفث في أجيج نار اندلعت داخله دونما سبب. من أجل من أتى إلى هنا اليوم ليفعل ما سيفعله؟ بن علي هرب؛ (قطّع)، فلمن سيقتل؟ أيعقل أن يقتل الشّعب فداء للشّعب؟! ترى لصالح من؟ هي المصلحة العامّة لا غير!

وانهالت عليه الاستفهامات تحتفه من كلّ جانب، فما تزيد أسنانه إلاّ اصطكاكا، فيضغط عليها بدوره بقوّة من تحت القناع الأسود محافظا على اتّزانه، ويشدّ بمقبضه على سلسلة توسّدت صدره، وكأنّها ثارت مع أشيائه فكبس عليها كي تهدأ ويهدأ. تذكّر لحظتها أنّه ليس وحده على هذا السّطح. حضر مع أربعة آخرين. هو لا يعلم شيئا عنهم؛ لا كينونتهم ولا هويّتهم. كلّ ما يعلمه أنّهم رجلان وامرأتان. ولولا القلّة القليلة الّتي انتفخت عند مطلع الصّدر لجزم أنّ كلّهم رجال. الطّول ذاته والعضلات تكاد تنفطر من اللّبس. وكأنّهم عدّاؤو جنوب إفريقيا. هو لا يرى شيئا منهم البتّة، لكن مجرّد تخمين من قلب انفتال الجسد وازدواج سرعة الحركة مع القوّة. ثمّ كيف ينبغي له أن يميّزهم والكلّ متلثّم بقناع حالك؛ دمس كلّ التّقاسيم وشوّه نظرة العين. عكس غسقه عليها فحالت على شرّ هالك. القفّازات خفيفة لكنّها لولبت الأصابع بنفس الحجم فصعب فرز الأشياء من خلالهم. المعاطف، رغم اختلاف طولها، إلاّ أنّها كانت كفيلة بإخفاء ما تبقّى وبستر الحقائب السّوداء وما تدسّه في جوفها من هلاك. كلّ لبس حسب ذوقه، لكنّهم أجمعوا على السّاعة ذاتها. نفس وقع العقارب واختلاج الثواني ونفس لون الغبش الهالك.

” ق3، بسرعة! ما بالك؟ هيّا تحرّك!” ربّت ق1 على كتفه، فأيقظه من شرود هائل وغمره برعب في آن. لو أحسّ أحدهم بما يخالجه في هذه اللّحظات، سيكون أوّل طريدة يفتكون بها. إزاحة ما يذبذب السّير نحو الهدف واجب، ومحو ما يؤول إلى كشف الهويّة لازم دون شكّ. لكنّ ق1 عاد إلى موقعه بثبات واتّزان شديدين ولم يكترث لسبب هذا التّسمّر الغريب. ثمّ أضفى هامسا، مؤشّرا إلى قلادةٍ تدلّت من رقبة صديقه عند انحنائه لفتح الحقيبة: “إنّ تعريض أيّ جسم مصقول إلى أشعّة الشّمس يعرّضنا إلى الخطر! أعتقد أنّنا جميعا نعلم ذلك!” حملق جيّدا وواصل مستهزئا: “راقت لي! تبدو ثمينة! لكن لا حاجة للوطنيّة الفائقة الآن!” ومدّ يده لنزعها. لكنّ ق3 مسكها بارتجافةِ وانتفاضةِ هذا الشّعب الّذي هزّ كلّ كيانه، وهمس بحدّة: ” الوطنيّة؟!”  كان يجب لحظتها أن يفجّر رأسه ردّا على حقارته المبتذلة، إلاّ أنّه خيّر الصّمت بالعا سيلا من الشّتائم. غضبه ليس في محلّه البتّة. ففي الحقيقة، يجب عليهم أن يتفانوا في مبادئ الغشّ والاختفاء بدقّة متناهية.

هم في حالة عمل بأزواج، وزوجه ق1. مهمّته ههنا ليست إلاّ الانتباه والمراقبة واختيار الموضع المناسب. حيث يجب أن يكون بسيطا وغير معقّد. وهذا السّطح من هذه البناية قد وفّى بالغرض. فهو ساحة رمي جيّدة. احتوى على منصّة تستّر ممتازة، تمكّن ق3 من تصويب الهدف بتخفّ شديد. كما تضمّن عمودين كمقترب خلفي مستور، يحميهم وقت الحاجة. وكأنّه هُندس مسرحا لوساختهم.

“الخيانة أمر مقدّر ومكتوب!؟ السّطح خائن أيضا!؟ له الدّور الأكبر في تنفيذ الخيانة! رغم أنّه لم يؤسّس لهذا! وأنا لم أختر أن أفعل! لكن كلّ الأقدار وطأتني لأخون! ثمّ من قال أنّي أخون؟” غمغم متعجّبا ممّا يجوبه من أفكار.

فكّر في ما إذا كان سيختار حياة أخرى لو استطاع للخيار سبيلا. الصّراحة هو لن يفعل مطلقا. هو مسيّر وليس مخيّر! هذا الجسم المصقول كما قال ق1، رتّب مسار حياته. القلادة لغز لم يتمكّن إلى الآن من فكّ شيفراته. لبس قدره كما لبس عنقه منذ أن تركوه في الميتم. لقّبه الجميع (ولد بورقيبة)؛ وهي الكنية المتداولة عن اللّقطاء في تونس، منذ أن كفلهم الزّعيم الحبيب بورقيبة في مؤسّسة رسميّة تحميهم من إقصاء المجتمع لذنب لم يقترفوه. وتغيّرت التّسمية من (فرخ الحرام) أو (ملقوط) إلى (ولد بورقيبة)! ولكن هل تغيّرت التّحديقات والاشمئزازات؟ نبذوه كالبيت المسكون بلعنة سلاطين الجانّ. واعتذروا بلباقة التّونسيين المعتادة: “مكتوب وليدي، البنيّة يخطبوها ألف وتبات عند واحد.” بهذه الجملة حرموه أيضا من حبّ حياته عفاف ويتّموه من جديد. تطاير لهيب الشّرّ من عينيه، واستعجل في استخراج بندقيّته وما يتبعها من أدوات رؤية متطوّرة وأجهزة حسابيّة وذخيرة. أخذ يرتّبها بسرعة الغضب الّذي تدفّق في ينابيع أعصابه.

سلسلة الفضّة هذه سادت عالمه. وأكثر ما رتّب حيثيّاته التّعليقة الّتي توسّطت الطّوق. لوح من فضّة شكّل جلد علّيسة! خريطة تونس مسيّجة بحبيبات ألماس وتمركزتها زمرّدة ذات ثقل. رغم شفّافيّتها إلاّ أنّه يتناثر من جوفها بريق أخضر يسحر الرّائي، يضاهي تمازج ألوان الجنان الّذي تخلب به تونس القلوب!

في الوهلة الّتي وعى فيها على الدّنيا وتفتّحت براعمه وأزهرت مرحّبة بربيع العمر، قلّدوه بها. فغدا قيدا لما تستبطنه من حقائق! أدرك حينئذ أنّه أهمّهم جميعا بقدر جوهرها النّفيس. وأضحى عبدا لها. جاب البرار بحثا عن سرّها، ويا ليته فقه لجمالها تبريرا. اعتقد أنّ الكلّ يستهدفه ليستولوا عليها. وشاءت الأقدار أن يتعرّف على الّذين بسطوا له يد العون للسّهر عليها وبرموا الذّراع الطّائل لحمايتها. بل بالأحرى، هذا ما أوهموه أنّهم فاعليه. استغلّوا هيامه بها وتفانيه في حبّها وبرمجوه على حسب ما بدا لمصلحتهم العامّة المزعومة. وآب قنّاصا عن قناعة فطريّة، محقونة.

حزم أمره. ضغط عليها ناحية القلب بقوّة إيمان الحبّ وكأنّه يريد إيلاجها ههناك علّها تسكن ارتباكه. وضع سبّابته على الزّنّاد. ألقى نظرة في حيّ الزّهور. موج شعبيّ هائل، يتحرّك بتيّارات متعاكسة بين مدّ وجزر من غضب، لولبُ دوّاماتٍ لا تهاب الكرتوش(1)، سلطانُ بحرٍ شاط صبرا فغدا إعصارا هالكا يجرف كلّ قمع. تعالت من جوفه انفجارات حِمميّة صاخبة “خبز وماء وبن علي لا”، “شدّ شدّ بن علي فرّ”، “يا الزّين صبرك صبرك والقصرين بش تحفر لك قبرك”، “إذا الشّعب يوما أراد الحياة فلابدّ أن يستجيب القدر”… فجأة تعالى دخّان خانق، غشي العيون، وتكفّل بتشتيت الأمواج لتتّحد جبهة مرتدّة على مقربة منه، تندّد بالصّمود، تخلّد صورة الفراشيش(2) تحيي مهابة فرسانهم الخوالي: “صامدون، صامدون لا نهاب الموت لا نخشى المحن… صامدون، صامدون في وجه كلّ أعداء الوطن… أرواحنا، دماؤنا لأمنكم نعطيها مهرا للألم… أبناؤنا، نساؤنا قولوا لهم نحن لا ننكث القسم… نحن فداء للوطن لن نسكت لمن ظلم!”

اهتزّت القلادة وارتعشت وكأنّها ترقص على إيقاعهم. استغرب لأمرها، هاجت وماجت ولم تهدأ وكأنّها تريد أن تتلفّظ. “مسكونة؟! أتراها مسكن لجنّيّ؟” همس بفزع: “العجب العجاب! شيء لا يصدّق! باسم الله الحافظ، السّتّار!” عقّب عليه ق1: “بم تمتم؟ هيّا الآن!” وهكذا تلقّى الأمر بالحتف.

يراه جيّدا من خلال عدسة التّكبير. لم يركب السّطوح، اعتلى الرّكح دون حاجة لكواليس تخفيه. بيمناه باقات(3)؛ رفعها عاليا مندّدا “صامدون…” وبيسراه قميصه الصّوفيّ. وكأنّ الفصول تمرّدت على بعضها البعض، وارتدّ قرس الشّتاء قيظا. ربط العلم عند العنق وتركه يرفرف على عمود الجسد، فضاهى سوبرمان الخيال. لم يحتج إلى بنية متينة لينتفخ صدره منتشيا. ملامحه جمعت بين مفارقة عجيبة؛ انفطر عِرقي حنجرته تمرّدا؛ وكأنّهما يريدان أن يتحرّرا من سجن الجلد. تمدّد فمه واتّسع؛ فاكتسح الأنف ولاشى العينين، وغدا رأسه فاه وجبين. فأضحى فوّهة بركان، تنثر زمجرات متصاخبة. ورغم ذلك تلألأ بنور البهجة. كانت صورته تشعّ براحة غريبة. صفاء كفيل بهدم أعلى جبال الغدر. أعاد ق1 الأمر: “هيّا! أسرع! الآن”. تخبّطت القلادة أكثر من ذي قبل. ترجرج قلبه. اصطفقت كريات دمه. حسم أمره. المهلكة العامّة تناديه. داس الزّنّاد. صوّب. قنّص. انفجر رأس سوبرمان الخيال. تطايرت أشلاء من جسده. سقط. لحّفه العلم. اهتزّت القلادة. حلّقت عاليا. لامست المزن. تناثر من جوفها بريق أخضر أينع قوّة الجماهير وبخّر الأجواء همّة، دغدغ الغيوم فبكت غيثا أطفأ النّيران. وحطّت جانب زيتونة عريقة بحيّ الزّهور مخطوط على جذعها العجوز آهاتهم وأحلامهم. سلّمهم عدّتهم.

(1) الرّصاص.

(2) قبيلة تونسية أمازيغية الأصل لعبت دورا تاريخيا هاما في منطقة السباسب؛ القصرين.

(3) نوع من الخبز الطّويل.

قد يعجبك ايضا
3 تعليقات
  1. عبد المنعم همت يقول

    النص يحمل قيم عليا تفتقدها الانظمة التي تتستر بالفضيلة وحراستها.هذا اللقيط يمثل اعلى صور العبودية والاستلاب ، فهو ضحية (الآخر )الذي ترتفع عنده (الأنا )..الكاتبة توضح أن اخطاء المجتمع ترتد اليه وبطريقة ليست مساوية في القوة ،، المتسلط متماهي مع السلطة ويصنع الالم من ذات الكأس.
    القلادة هي عار المجتمع وحالة الضعف التي تهتز دون رقيب ، تهتز لتنهار لانهيار الاخلاق.
    اخرج البندقية ليقتل ذات المجتمع الذي حرمه من حبه وانسانيته رغم ان لطف الاجابة بان البنت يخطبوها مائة وتتزوج واحد ولكن الحقيقة انك لن تستطيع ان تكون من الخطاب ..الناس تهتف ضد الظلم ولكن الرصاص ياتيهم من المظلوم.
    ابدعت الكاتبة ونقلت صورة واقعية وصراع عميق ( بين الفرد والمجتمع ) وبين ( الفرد ونفسه ) ..
    ما كتبه لا يمثل تحليلا للنص بل مجرد انطباعات.
    عبد المنعم همت

  2. ظافر الجبيري. كاتب من السعودية يقول

    نصّ القناص للكاتبة التونسية الأستاذة رحمة البحيري.

    قرأت النص مرتين وبدأ لي
    نصًّا قويًّا نابعا من رحم الثورة التونسية.
    في هذا النص، نجد السياسي والاجتماعي يتداخلان بقوة..البطل اللقيط تمزقه حالة من التردد بين أن يسمع الأوامر ويطلق النار على الثوار أو يتراجع…
    تساوى الأمران في لحظةِ تعقُّد المشكلة وتصاعد الحبكة، ما زاد من المتعة فنراه في حالة من اللاقرار..يوشك أن يطلق ولا يفعل!
    خلقت الكاتبة ما يعرف بالمعادل الموضوعي بين تجاذبات ونوازع تتسارع داخل نفس البطل-القناص.
    كان العلم الوطني حاضرا، ما يعطي المشهد مزيدا من الارتباط باللحظة التاريخية التي عاشتها تونس الخضراء، وكذلك يعطي للحدث وللانتماء الكبير قيمة أقوى… كحال الأبطال في مواقف التضحية..
    لكن العلَم الذي توشحه البطل، واحتضنه في لحظاته الأخيرة بالقرب من الخطر والتحدي لم يشفع له فقد سقط وهو يحمله.
    نص قوي يمزج العام بالخاص ويقيم توازنا بين شعور البطل-اللقيط وحاجته إلى الاعتراف الاجتماعي ،لا على طريقة ” كرّ وأنت حر” بل في رسم حالة التمزق الداخلي بين شعور العمل:أي الوظيفة واجباتها وبين الاستجابة للحظة حاسمة قيل عنها بجلاء:”هرمنا لأجلها”
    وسيكون القناص البارع على موعد حاسم.. إذ يختار التضحية ويلقى نهايته.. ويبدو لي أنه هو خيار الكاتبة إذ تضع الرسالة في النهاية والنهاية في رسالة كبرى لكل الوطن وخياره في التضحية وصولا إلى التغيير المنشود..وتحقيق به ما أراده الشارع.
    بنية النص نجحت الكاتبة في تحريك التصاعد، وربط ما يجري على المستوى الفردي للقناص باستعادة ماضيه بل خلفيته: اللقيط الذي حنّ عليه النظامُ السابق/الأسبق كغيره ومنحه الرعاية ضمن اللقطاء..ولهذا دلالة سوسيوثقافية كما تقولون في تونس.. وربما ترمي الكاتبة من وراء هذا إلى اللُّحمة بين الشرائح الاجتماعية لا فرق بين وضيعها ورفيعها!

    النص واع لقضية البطل وتجربته الخاصة الممزوجة بحدث مفصلي.. في حياة شعب أراد الحياة
    القناص نص متقن البناء..قدمت الكاتبة الأستاذة رحمة صورة من حالة التردد التي جعلت النهاية تصل بالقناص مترددا فمقنوصًامتلفعا بالعلم الوطني.

    استوقفني الرمزُ للشخصيات بق 1 وق 2 = قناص 1 وقناص 2 تساؤلي..
    لم الاختصار والنص طويل أصلا!؟
    ثم.. التمستُ بعض العذر لما ترمي إليه الكاتبة من إضافة جانب مشهد حواري للنص يعطي النص حركية مشهدية يحتاجها .
    ملاحظة يحتاج النص مراجعة بُصيلات وليس بويصلات في السطر السادس.
    كما توجد ملاحظتان لغويتان أخريان أرجو الانتباه لهما.
    تحياتي.
    🌹

  3. روقا الصباحي يقول

    ماشاء الله عمل رائع
    (كأنه واقع يتحرك تحت قلم مبدع)
    ربي يوفقكم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.