***
ما الذي نريده من إعادة ترجمة لرسائل سبق وأن تُرجمت إلى العربية؟ هل هناك إضافة ينتفع القارئ العربي منها؟ عندما شرعت بهذه الترجمة وجدتني مواجها لهذه الأسئلة التي قد تُسقط أرضا كل من يحاول ترجمة هذه الرسائل مرة أخرى، لكني وجدت أجوبة مقنعة لتلك الأسئلة. في الرسائل التي قرأت ترجماتها وجدتني أمام أخطاء لم يُنتبه لها لسبب أو لآخر فمن ترجم تلك الرسائل لم يلتفت إلى: الأسماء وطريقة نطقها باللغة الهولندية الصحيحة ، كما قام باختصار الكلمات الهولندية لعدم إلمام المترجم بكونها مترجمة عن لغة وسيطة ، إضافة إلى الخطأ بثبت أسماء المدن والمناطق الهولندية، وبتاريخ الأحداث التي ذكرها فان خوخ كونه لم يكن ملمًا بتاريخ هولندا مما جعله يقع في فخ عدم. ثمة عبارة كثيرة وجدتها في النص لا ترتقي إلى لغة فان خوخ الأصلية؛ وهذا لا يعني أن الترجمات السابقة لا قيمة لها، فقد كانت مفتاح باب لكل قارئ عربي يود معرفة أدب فان خوخ ولغته. ولكنني هنا أحاول أن أجعلها أفضل وأكثر جودة.
***
عزيزي تيو
الشعور، أعني الشعور الرقيق، بجماليات الطبيعة لا يشبه الشعور الديني رغم اعتقادي أنهما مرتبطان ارتباطا وثيقا. وهذا ينطبق على الحس الفني. لكن لا تشغل فكرك كثيرا بذلك.
الأهم أن تحافظ على حب عملك وتجارتك، واحترام (Mr. Tersteeg)، سترى مستقبلا، أفضل من الآن، أن هذا الأمر يستحق، ولكن دون الحاجة إلى المبالغة فيه.
تقريبا كل شخص يشعر بالطبيعة، شعور يختلف من شخص لآخر، ولكن قلة هم من يشعرون بأن الرب روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا. أبي واحد من هؤلاء القلائل، أمي أيضا، وأعتقد أن العم فاتو أيضا. أنت تعرف مقولته (العالم يمضي ومجده)[1] وأيضا حديثه الآخر عن “النصيب الذي لن ينزع منه” وعن “نبع يفيض فيعطي حياة أبدية”. دعونا نصلِّ أيضا لكي نصبح “أغنياء لله”.
لا تتعمق في التفكير في هذه الأشياء التي ستتضح لك من تلقاء نفسها لاحقا. والتزم بما أوصيتك به.
دعنا نسعى في طلب دورنا في هذه الحياة أن نكون المساكين في ملكوت الله، خدام الرب. وإن لم نصلْ بعد إلى ذلك، فلأنه غالبا ما توجد قشة في أعيننا لا نراها. فلندعُ أن تصبح أعيننا نقية لأننا حينئذ سنكون غاية في النقاء.
تحياتي إلى (روز) إن كان ثمة شخص مازال يسأل عني ويؤمن فيّ.
محبة أخيك
فنسنت
***
كلمة أخرى
ربما ستكون الأخيرة التي أكتبها لكم وأنا هنا في باريس.
من المحتمل أن أغادر هذا المكان مساء الجمعة لأعود إلى المنزل صباح السبت مع حلول عيد الميلاد.
رأيت بالأمس حوالي 6 لوحات لميشيل، طالما تمنيت لو كنت هناك، طرق مجوفة عبر التربة الرملية تؤدي إلى طاحونة، أو رجل عاد إلى المنزل فوق التربة الصحراوية أو الرملية مع سماء رمادية فوقها، بسيطة جدا ونظيفة جدا… أعتقد أن زوار عمواس رأوا الطبيعة مثل ميشيل، ودائما ما أفكر فيهم عندما أرى إحدى لوحاته.
في نفس الوقت رأيت لوحة لجول دوبري، لوحة كبيرة جدا. تمكن المرء من أن يرى أرض المستنقعات القاتمة، حيث نهر على الأرض المقابلة وفي المقدمة بركة (فيها ثلاث خيول)، وفي كلتا الضفتين تنعكس السحب البيضاء والرمادية التي غربت الشمس خلفها، في الأفق بعض الرمادي الأحمر والأرجواني والسماء العلوية زرقاء ناعمة٠
***
بعث فينست فان خوخ هذه الرسالة لوالديه من رامسكيت بتاريخ 17 أبريل/أذار 1876
الجمعة
نريد أن نبقى معا اليوم.
أيهما أفضل
فرحة اللقاء مرة أخرى أم حزن الفراق.
كثيرا ما ودّعنا بعضنا البعض. صحيح أن هذه المرة وقعها أشد من ذي قبل على كلينا، لكن لنتحلى برباطة الجأش من خلال الإيمان الراسخ والحاجة الملحة للبركة. ألم تبدُ الطبيعة كما لو أنها تعاطفت معنا؟ فقد كانت رمادية وكئيبة جدا قبل بضع ساعات.
الآن أنظر عبر المروج الشاسعة، كل شيء لا يزال هادئا والشمس تغرب خلف الغيوم الرمادية وتلقي وهجا ذهبيا على الأرض. يا لشوق أحدنا للآخر أثناء الساعات الأولى بعد الفراق، حيث تقضينها أنت في الكنيسة وأنا في المحطة والقطار، ويا لانشغال تفكيرنا في الآخرين: أخي تيو وآنا والأخوات الأخريات والإخوة.
لقد اجتزنا للتو مدينة (زيفين برخه) وتذكرت اليوم الذي أوصلتماني فيه إلى هناك ووقفت على عتبة السيد بروفلي أحدق في عربتكما على الطريق المبتل. ثم في الليل نفسها جاء أبي للاطمئنان علي، صادفت أول عودة لي للمنزل عيد الميلاد.
يومي السبت والأحد، طالما فكرت في (آنا) على متن القارب، كل شيء ذكرني برحلتنا معا.
كان الطقس صافيا وجميلا على الأخص عند نهر ماس، ومنظر الكثبان الرملية جميل وهي تُرى من البحر لامعة باللون الأبيض تحت الشمس. وآخر ما رآه الناس في هولندا كان برجا رماديا.
بقيت على سطح السفينة حتى غروب الشمس فالجو أمسى باردا وكئيبا.
في صباح اليوم التالي على سكة الحديد من هارويش إلى لندن، كان من الجميل أن ترى في بواكير الصباح الحقول المعتمة والمراعي الخضراء مع الأغنام والحملان، تتوزع هنا وهناك شجيرات شوكية وبعض أشجار البلوط الكبيرة ذات الأغصان الداكنة والجذوع الرمادية تغطيها الطحالب. السماء الزرقاء مع الشفق حيث لا تزال بعض النجوم، وكتلة من السحب الرمادية تعلو الأفق. قبل شروق الشمس سمعت قبرة.
***
رامسكيت، 31 مايو/آيار 1876: إلى تيو
أكتبت لك عن تلك العاصفة التي رأيتها مؤخرًا؟ كان البحر مصفرا خاصة قرب الشاطئ، في الأفق شريط من الضوء تعلوه غيوم رمادية داكنة هائلة شوهد المطر يهطل منها في خطوط مائلة. ألقت الرياح الغبار المتهشم من صف الصخور البيضاء في البحر، وحركت شجيرات الزعرور المزهرة ونبتات المنثور التي تنمو على الصخور.
في الجهة اليمنى، حقول القمح الخضراء اليانعة، وعلى بعد، البلدةُ؛ بأبراجها وطواحين الهواء والأسقف القرميدية والمنازل المبنية على الطراز القوطي، وفي الأسفل الميناء البارز بين رصيفين؛ بدت كأنها إحدى المدن التي نقشها ألبرت دورر.- رأيت أيضا البحر ليلة الأحد الماضي، كان كل شيء رماديا داكنا، لكن في الأفق أخذ النهار ينبلج من الفجر. رغم أن الوقت لم يزل مبكرًا جدًا إلا أن القبرة قد غنت وكذلك العندليب في الحدائق المجاورة للبحر. وفي البعيد ضوء المنارة حارسة السفن.
في نفس الليلة، نظرت من نافذة غرفتي إلى أسطح المنازل التي يمكن مشاهدتها من هناك وإلى قمم أشجار الدردار، الظلمة قبالة سماء الليل. فوق تلك الأسطح نجمة واحدة ولكنها نجمة لطيفة كبيرة. وقتها فكرت فينا جميعا، وفكرت في سنوات عمري التي انقضت، وفي منزلنا، واجتاحتني المشاعر والكلمات: “احفظني من أن أكون ابنًا يجلب العار، امنحني بركتك، ليس لأنني استحقها ولكن من أجل أمي. أنت المحبة، فأحرس كل شيء. بدون بركتك لا نستطيع فعل أي شيء.”
***
ويلون 17 يوليو/ تموز 1876
من المرجح أن فينست بعث هذه الرسالة إلى الأب إدموند هنري فيشر راعي كنيسة القديس مارك في كينينجتون بلندن، وقد ارفق نسخة منها في رسالة إلى أخيه تيو
على الرغم من أنني لم أتدرب على العمل الكنائسي، فإن حياتي؛ التي عشتها في السفر والإقامة في بلدان مختلفة، والتواصل مع أشخاص مختلفين: أغنياء وفقراء، ومتدينين وغير متدينين، والعمل في وظائف متنوعة: أيام في العمل اليدوي خلال العمل المكتبي وغيرها، وربما التحدث بلغات مختلفة؛ قد تعوض ذلك ولو قليلا عن افتقاري للدراسة، ولكن أفضل ما أقدمه سببا لتزكية نفسي أمامك، هو حبي الفطري للكنيسة وما يتعلق بها، الذي إن خبا لكنه ما زال يوقظني مرارا وتكرارا، وإذا جاز لي أن أضيف – رغم شعوري بعدم الرضا والنقص – “محبة الرب والناس أيضا”،
أفكر في حياتي الماضية ومنزل والدي في القرية في هولندا، وأشعر بأنني “يا أبي، لقد أخطأت إلى السماء وقدامك، ولست مستحقا بعد أن أُدعى لك ابنا، اجعلني أحد أجراك. اللهم ارحمني”، حين عشت في لندن اعتدت الحضور إلى كنيستك ولم أنسك. الآن أرجو منحي توصية للوظيفة التي أتطلع إليها، وأن أظل تحت عينك الأبوية لأجد هذه الوظيفة. لقد تركت نفسي تتمادى كثيرا ولكن أعتقد أن عنايتك الأبوية يمكن أن تفيدني٠
ندى الصباح الباكر
فارق الحياة ظهرًا
أشكرك مقدمًا لما ستفعله من أجلي.
***
هنا، الأمور تسير على ما يرام بالنسبة لي. لدي منزل رائع، وأشعر بالسرور في أن أراقب لندن وطريقة الحياة الإنجليزية والإنجليز أنفسهم، لديَّ أيضا الطبيعة والفن والشعر، وإذا لم يكن ذلك كافيا فما هو؟ ومع ذلك لم أنس هولندا وخاصة لاهاي وبرابانت.
***
أشعر بالحاجة إلى كتابة بضع كلمات لك.
يا لها من أيام سعيدة تلك “عندما كنا معا”. يجب أن تعرف أنني لم أنسك لكن الكتابة لا تنقاد إليّ بسهولة كما أريد.
***
ايزلورث: 3 نوفمبر/تشرين ثاني 1876: إلى تيو
نحن غرباء ونزلاء على الأرض. نأتي من بعيد وسنذهب بعيدا. تسير رحلة حياتنا من الثدي المحب لأمنا على الأرض إلى ذراعي أبينا في السماء. كل شيء على الأرض يتغير ليس لدينا هنا مدينة باقية، إنها اختبار لكل فرد: مشيئة الرب أن نفارق أعز ما لدينا على الأرض، نحن أنفسنا نتغير، فنحن لسنا ما كنا عليه سابقا، ولن نبقى على ما نحن عليه الآن. منذ الطفولة نكبر إلى فتيان وفتيات، إلى شباب وشابات، وإذا أبقانا الرب وعافانا إلى أزواج وزوجات، ونأخذ دورنا كآباء وأمهات. بعد ذلك ببطء ولكن بثبات، الوجه الذي كان يوما ما (ندى الصباح الباكر) ستنال منه التجاعيد، والعيون التي تشع شبابا وبهجة ستتحدث عن حزن عميق وصادق – رغم محاولتها الحفاظ على شعلة الإيمان والأمل والمحبة- ورغم توقدها بروح الرب. يتحول الشَّعر إلى اللون الرمادي أو نفقده- آه- في الواقع نحن فقط نمر عبر الأرض وفقط نمر من خلال الحياة. نحن غرباء ونزلاء على الأرض. والعالم يمضي ومجده[2]
ولندخر أيامنا الأخيرة لتكون أقرب إليك لتغدو أفضل من أيامنا هذه.
***
ما الذي نطلبه من الرب؟ هل هو شيء عظيم؟ نعم، إنه شيء عظيم، سلام لأرض قلوبنا وراحة لأرواحنا، امنحنا هذا الشيء بعدها لا نريد أكثر من ذلك، يمكننا الاستغناء عن أشياء كثيرة، يمكننا أن نعاني آلاما عظيمة من أجل أسمك. نريد أن نعرف أننا لك وأنك لنا، نريد أن نكون لك (أن نكون مؤمنين) نريد أبًا وأبًا يحب ويوافق الآباء. قد تجعل تجربة الحياة عيننا واحدة وتثبتها عليك. نرجو أن نكون أفضل ونحن نمضي قدمًا في الحياة.
***
هل كنا كما حلمنا أن نكون؟ كلا ولكن مع ذلك فأحزان الحياة والعديد من الأشياء في الحياة اليومية والواجبات أكثر بكثير مما توقعنا (تتقاذفنا في العالم جيئة وذهابا) لقد غطوه لكنه لم يمت إنه ينام. الإيمان الأبدي القديم للمسيح ومحبته، قد ينام فينا ولكنه لم يمت ويمكن للرب أن يحييه فينا. فهي ولادة من جديد للحياة الأبدية،
***
أحيانا يأتي وقت في الحياة يشعر فيه المرء كما لو أنه متعب من كل شيء وكما لو أن كل ما يفعله خطأ، وثمة شيء إلى جانب ذلك أيضا، هل يجب على المرء تجنب هذا الشعور وقمعه، أم أنه “الحزن الإلهي” الذي لا ينبغي للمرء أن يخافه ولكن يجب الانتباه له إذا كان يجبرنا على تحقيق مصلحتنا، ربما يكون حزنا تجاه الرب وهو خيار يقوم به من غير ندم. وفي وقت كهذا حين يشعر فيه المرء بالضجر من نفسه قد يفكر المرء باهتمام وأمل وحب في كلمة “تعالوا إليَّ جميعا”
***
عندما أفكر في الماضي، عندما أفكر في المستقبل، في الصعوبات التي لا يمكن التغلب عليها تقريبا، في الكثير من العمل الصعب الذي لا أرغب في القيام به، وأعين الكثير وهي تحدق فيَّ، من سيعرف أين هو (عملي) إذا فشلت؟ من لن يوبخني بشكل مألوف؟ من؟ لأنهم جربوا وتدربوا على ما هو جيد وحسن مثل ذهب خالص، عندما تتكلم تعابير وجوههم، لقد ساعدناك، وكنا نورا لك، لقد فعلنا لك ما استطعنا، كما أردت، ما هي أجورنا الآن وثمار عملنا؟ ها، عندما أفكر في كل هذا وفي الكثير من الاشياء الأخرى والكثير مما لا يمكن ذكره، في كل الصعوبات والأحزان التي لا تتضاءل مع تقدم الحياة والمعاناة وخيبة الأمل.
***
أمستردام: 12 يونيو حزيران 1877: إلى تيو
“عندما تسكن كل الأصوات، يُسمع صوت الرب تحت النجوم.”
تتفتح أيضا الورود أمام المنزل، والبلسان والياسمين في الحديقة. مؤخرا كنت في Trippenhuis[3] مرة أخرى لمعرفة ما إذا كانت تلك القاعات، التي أُغلقت عندما كنا معا ، قد أعيد ترتيبها، ولكن الأمر سيستغرق 14 يوما آخر قبل أن يتمكن أحد من دخولها مجددا. كان هناك الكثير من الأجانب، الفرنسيين والإنجليزيين، عندما أسمعهم يتحدثون تستيقظ الكثير من الذكريات بداخلي. مع ذلك لا أشعر بالأسف لعودتي إلى هنا. “الحياة فيها رمال متحركة، الحياة بها أفخاخ” هي كلمة حقيقية.
** *
[1] استعمل كلمة مجد مكان كلمة شهوة الواردة في رسالة يوحنا الأولى (2:17)
[2] استعمل كلمة مجد مكان كلمة شهوة الواردة في رسالة يوحنا الأولى (2:17)
[3] قصر بني في وسط أمستردام في العام 1662، وتحول إلى المعهد الملكي الهولندي للعلوم والآداب والفنون الجميلة في العام 1815، وخصصت به لبيع الأعمال الفنية.