(ما علمنيه الثعلب) – لآذر نفيسي
ترجمة: بثينة الإبراهيم – سوريا
أتذكرون الثعلب؟ إنه ليس مجرد ثعلب، إنه ثعلب حصيف؛ ذلك الذي يكشف الحقيقة للأمير الصغير، الذي يكشفها بدوره للطيار، الذي يكشفها لنا نحن القراء. يقول الثعلب للأمير الصغير أثناء وداعه له: “إليك سري، إنه سرٌ بسيط: يمكن للمرء أن يرى جيدًا بقلبه فحسب، فالعين لا ترى الجوهر”. حين سمعت أبي في طفولتي وهو يقرأ لي الأمير الصغير في غرفة مشمسة في طهران لم أدرك أن القصة، إلى جانب حكايات من الشاهنامة، وكتاب ملوك فارس، وﭘينوكيو، وكتاب الملا نصر الدين، وقصص ألِس، وساحر أوز والبطة القبيحة، دونًا عن غيرها، ستصبح إحدى أسس “جمهورية خيالي”.
شكلت الطريقة الديمقراطية لأبي في تعريفي بهذه القصص موقفي تجاه الأعمال الخيالية بوصفها فضاءات عالمية تتجاوز حدود الجغرافيا واللغة والإثنية والدين والنوع والعرق والجنسية والطبقة. أدركت أن القصة- بفضل استماعي إليها وقراءتي لها لاحقًا- أصبحت قصتي، بالرغم من أن هذا الثعلب وأميره لم يكونا سوى نتاج مخيلة رجل فرنسي، وبرغم أن العمل كتب بلغة أجنبية عني قبل أن أولد، وفي بلد لم يسبق لي رؤيته. وكان الثعلب والأمير ينتميان لي بقدر ما كانت شهرزاد ولياليها الألف وليلة تنتمي إلى الفرنسي والأمريكي والبريطاني والتركي والألماني وكل القراء الآخرين الذين سيحبونها بعد القراءة و”يروضونها”، كما تعلم الأمير أن يروض الثعلب.
هكذا عرفت فرنسا وأحببتها – باعتباري بنتًا صغيرة من إيران – عبر الأمير الصغير والثعلب. لقد رأيت ثعالب من قبل. في الواقع لقد عرّفني أبي على الحيوان في حكاية خيالية لجان دو لا فونتين. في هذه الحكاية، مثل معظم الحكايات، يكون الثعلب ماكرًا وذكيًا يخدع غرابًا بسيطًا؛ ليستولي على طعامه. ترجم أبي لاحقًا خرافات لا فونتين كاملة مع رسوماتها الجميلة التي رسمها بنفسه مقلدًا الأصل إذ كان رسامًا ماهرًا. كان الثعلب في هذه الرسومات [رسومات فونتين] والكثير غيرها يبدو جميلًا، له ذيل كثيف بديع وعينان واسعتان. أما ثعلب الأمير الصغير فلم يكن بالجميل، ولا ذيله الكثيف – الذي أشبه مكنسة عمودية – بديعًا، وكانت عيناه ضيقتين جدًا لا يكاد المرء أن يراهما. ومع ذلك، غيّر هذا الحيوان رأيي في الثعلب، وبدأت أنظر إليه نظرة مختلفة. وبدا أن مكر الثعلب، من هذا المنظور، لم يكن بدافع الضغينة، بل بدافع الحاجة إلى البقاء. ورغم أنني شعرت بالحزن على الدجاجات (لكن حزني لم يمنعني من أكلها)، فإن الثعلب يصطادها ليتمكن من البقاء على قيد الحياة، بعكس بعض البشر الذين لا يقتلون الدجاجات ويأكلونها فحسب، بل يصطادون الثعالب من أجل المتعة والرياضة. أخذت أفهم شيئًا فشيئًا لماذا بدت تلكما العينان الواسعتان، اللتان تشعان دومًا بالقلق والخوف، حذرتين من خطر لا مرئي لكنه حقيقي.
لم أعرف ما سر افتتاني بقصة الأمير الصغير، ولم أدرك أنها تعلمني إدراك الجوهر في الأعمال الخيالية العظيمة؛ وأعني الخفق السحري للقلوب الذي يجعل منا بشرًا، ويربطنا ببعضنا بعضًا، ويمنحنا سببًا للحياة وطريقة للنجاة ولإدراك المحاذاة اللصيقة للحب والسعادة بالفقد والألم، لا قيمتها فحسب. كنت أختبر، دون أن أعرف، ذلك الإحساس بالوجع العميق الممزوج بمتعة الإبداع وهو منبع الجمال كله. حين بدأت أقرأ كتبًا أكثر، اكتشفت أن سر الثعلب كان يتقاسمه العظماء من الكتّاب والشعراء والموسيقيين والفنانين والمفكرين على مر الزمن.
ارتبطت فرنسا بالثعلب عندي بعد مجزرة شارل إبدو، وبعد صدور العدد التالي منها. إذ كان على غلافه رسم للنبي محمد بعينيه الدامعتين وفي أعلى الغلاف عبارة “لقد عفوت عن كل شيء”، وهذا ما هزني على نحو يفوق الوصف. انتابتني رغبة في البكاء، ليس على القتلى فحسب، بل تأثرًا بالحنان. لم يرد [العاملون] في شارل إبدو بمثل غضب قتلتهم العنيف، وإنما أخذونا، من خلال الفن، إلى عالمهم الذي يقاوم العنف والقسوة برفضهم العنف والقسوة، ورفضهم أن يصبحوا على الشاكلة التي يتخيلها عنهم عدوهم. كم جعلني هذا الرسم أتذكر حنان جدتي المسلمة، حين صفحت هي الأخرى ببساطة مماثلة دون أن تتذمر أبدًا، غير أنها ظلت راسخة المعتقد والإيمان وحس التسامح. هكذا روضتنا- أبناءَها وحفدتها الجامحين العاصين- ممن تمردنا على معتقدها وإيمانها.
ما نحتاج إليه اليوم في هذه الأوقات العصيبة هو الحنان، ليس في نيس وباريس وحدهما، بل في دمشق وبيروت ونيو أورليَنز وبغداد ولندن وإسطنبول وكل تلك المدن العظيمة في أنحاء العالم أيضًا. إننا بحاجة إلى الحنان، ليس مع عدونا القاسي من خارج الحدود فحسب، بل مع أنفسنا أيضًا، نحن العالقين في شباك الخوف والعنف.
أنا بعيدة اليوم عن تلك الغرفة المشمسة في طهران التي توجد في ذاكرتي فقط، مثل أبي والدروب الظليلة في طفولتي، والإحساس بالأمان والدفء في غرفتي اللذين تلاشيا منذ وقت طويل، حتى جبال طهران التي تختفي معظم الوقت في أيامنا هذه تحت ضباب التلوث. ولكن ما بقي هو القلب والثعلب. كلهم أحياء في جمهورية خيالي: رودابة وويس وإزميرالدا وإليزابث بِنِت وهَك فِن وإيما بوﭭاري ونتاشا وﭘيير وكاثرين وهِثكلِف وآنا كرنينا والأمير الصغير والثعلب، كلهم ينتمون لعصور وخلفيات مختلفة، كلهم جميعًا متمردون وخالدون[1].
مات الطيار الذي كتب الأمير الصغير منذ وقت طويل، لكن الطيار الخيالي، الذي روى لنا الحكاية، حيٌ اليوم كما كان منذ عقود، إلى جانب أميره والثعلب والوردة والأفعى والنجوم الضاحكة والأجراس الرنانة التي تملأ الليالي الصافية بصوت القلب. تصبح النجوم في خيالي أكثر لمعانًا، وموسيقاها أكثر وضوحًا، إنها تلمّح أنها ستبقى هنا ليس من أجل القراء الفرنسيين فقط، بل من أجل كل القراء في أنحاء العالم، من أجل القراء الذين لهم عيون ترى، وآذان تسمع، وعندهم الجرأة على الخيال.
——————
[1]– رودابة: أميرة كابول إحدى شخصيات الشاهنامة. ويس: بطل قصة «ويس ورامين»، ملحمة حب فارسية شعرية قديمة. إزميرالدا: بطلة رواية أحدب نوتردام. إليزابث بنت: بطلة رواية كبرياء وهوى. هك فن: بطل مغامرات توم سواير. إيما: بطلة مدام بوفاري. نتاشا وﭘيير: بطلا الحرب والسلام. كاثرين وهثكلف: بطلا مرتفعات وذرنج. آنا كرنينا: بطلة رواية تحمل الاسم نفسه.
بثينة الإبراهيم:
مترجمة وكاتبة سورية، صدر لها العديد من الأعمال منها الأخلاق في الحداثة السائلة (بالاشتراك مع د. سعد البازعي) عن مشروع كلمة، وأمريكانا لتشيممندا أدتشي عن دار روايات، وصاحب الظل الطويل لجين وبستر عن منشورات تكوين.
قناة التلغرام أشباهنا في العالم