نصر سامي يكتب عن مارسيل بروست وجيمس جويس وتيودور ديستوفسكي وليون تولستوي وجابرييل غارسيا ماركيز وفيرجينيا وولف
الرّواية بديلا عن الوجع
“وفجأة أدرك أن الحب أبدا لن يُشبعه وإنما الكره، أن يكره وأن يكون مكروها، لكن الكره الذي أحسّ به تجاه البشر بقي دون صدى. فكلّما ازداد كرهه لهم كلما عبدوه. أراد لمرة واحدة في حياته أن يُفرغ ما في ذاته، أراد لمرة واحدة في حياته أن يكون كما الآخرين عندما يُفرغون ما في دواخلهم؛ عندما يعبِّرون عن حبّهم أو تبجيلهم الغبي، هكذا كان يريد أن يُفرغ كراهيته، أراد لمرة واحدة فقط أن يدركه الآخرون في وجوده الحقيقي، وأن يتلقّى من إنسان آخر ردّا على شعوره الحقيقي الوحيد؛ الكراهية”، باتريك زوسكند، العطر.
تنبت في لغتي شجرات عمياء، عماء حقيقيّا، ويريم عليها سواد أبديّ، ينشر فوق ليلها جناحاته السّود الطويلة. لا يبصرها النّاس، لكنّني أميّزها في النّهار واللّيل، أحدّثها، وتحدّثني، ونستلذّ في العتمة تمرير أحزاننا لبعض مثل صديقين انقطعت بهما السّبل! تبدو أحزاني بسيطة أمام أحزان لغتي، أنسى لبعض الوقت ما لديّ، وتخزني لغتي بصدئها وقدمها وماضيها المجهول واستعاراتها الميّتة وثقل إرثها. حواري معها يشعرني بأنّ حزني خفيف، ممتع، قصير، غير مسكون بشعراء وناثرين ومقرئين وفلاسفة وسحرة ومرقّصي قرود وشيوخ قبائل ومجانين مثل حزنها هي.. حزني حزن ناقص، مضروب برصاص الإهمال، مقصوص الأجنحة، لا يكاد يحسب في الزّمن، ولا يكاد يظهر في الأرض. وتقتلني الحروف حين تتكلّم وتعبّر عن أحزانها. قصص الحروف لم يكتبها أحد أبدا، لم يهتمّ أحد بالميم مثلا، وبتاريخها، ورحيلها في الكلام منذ نشأته، ولم يهتمّ أحد بالشّين، وترحالها في المرويّات منذ بدء الخليقة، بقيت الحروف بلا تاريخ، مثلها مثل الأفعال ومثل الأسماء. لكنّ لغتي مثقلة بحروب قديمة وحديثة، ومرميّة برصاص قديم وحديث، وقلبها مردوم بركام وفضلات ودخان وضحايا قدامى وجدد. أسمعها تئنّ، وتتناوح فيها أمم قديمة وحديثة، وهي تتحمّل كلّ ذلك الفرح التّافه والغزل المنافق والمعالجات السّطحيّة والفلسفات التوفيقيّة والرؤى البالحة الكالحة التّي يضجّ بها الكون. وفجأة تسطع في الظلمة نصوص، تنشب في ليل اللّغة أظافر ومخالب، تسري في العروق، وهي تتدلّى من سماء ليست بسماء، وأرض ليست بأرض، وتعبّر عن كلّ ذك الثّقل الذّي يردم قلب اللغة.
بكلّ هذا الثّقل يكتب الكتّاب خفّتهم، إن كان بهم خفّة، وطربهم إن كان بهم طرب، ومأساتهم إن كان بهم مأساة! وأيّ كتابة خارج فكرة الثّقل هذه كتابة هاوية بعيدة عن تفهّم جوهر الوجود، واقعة في الحافة. للكلمات إرث طويل، ما من كلمة تولد بيضاء، كلّ الكلمات عجائز مدرّبات على كلّ شيء، اشتغلن في المدح، كما اشتغلن في الرثاء، كما في غيره من الأغراض، بهنّ كتب الكتّاب عن الحبّ وعن الكراهيّة، عن الموت والحياة، وهنّ هنّ باقيات، يتأكّل التاريخ أعماقهنّ، وهنّ هازئات عابثات. لم يكتب أحد سيرة كلمة مثل كلمة بحر أو كلمة مزن أو كلمة شمس. لا تزال الكلمات عندنا عبدات مستغلاّت دون تاريخ شخصيّ. وكتابة تاريخ الكلمات عمل كفيل بتحريرنا من أسر الماضي. كلماتنا مسكونة بثقافات، وبسياقات، وممهورة بأصوات، ومنتهكة بالدخيل، وحبلى بقصص لا تنتهي. وأيّ اعتقاد بصفاء الكلمات أو بأنّ لها معنى خاصّ بالكتّاب هو قول يتجاهل ذلك الهدير القويّ الذّي يمرّ في نهور تسيّجها الأساطير والتقاليد والخرافات والأديان والسّحر. ما من كلمة في شعرنا الحديث إلاّ وهي تخبئ مقهورة تاريخها، وما من كلمة في السّرد الرّوائي إلا وهي تعوي تحت ثقل موروثها، لذلك تصعب الكتابة في اللّغات القديمة التّي لها تواريخ ثقيلة، تصعب لأنّ الرّوائي مطالب إضافة لمقتضيات عمله السردي أن يحرّر الكلمات من إرثها ذاك وأن يعبّأها بما لم تعرفه طيلة تاريخها. القلّة من الروائيين من فهموا هذا السرّ، والقلّة النّادرة من الشّعراء من حاولوا الإصغاء إلى الكلمات في ترحالها الأبديّ الذّي يبدو بلا غاية. هناك عذاب تعانيه الكلمات التّي نريد بها أنّ نعبّر عن عذابنا، وهناك أحزان عميقة موصولة بأوّل بكاء على سطح الأرض تسكن في الكلمات التّي نريد بها أن نعبّر عن أحزاننا. لذلك تعوي الكلمات بين يدي الشّاعر الشّاعر، ولذلك أيضا تبكي الكلمات بين يدي الرّوائيّ الروائيّ. تخرج صور في النّصوص تأتي بها لحظات المكاشفة الشعريّة لم تخطر ببال الشّاعر أصلا، تأتي بها الكلمات بما حملته في ترحالها من دلالات ومن فكر.
لذلك يبقى بعض الكتّاب في الرواية الواحدة سنوات طويلة، فرواية مارسيل بروست “البحث عن الزّمن المفقود” كتبت في أربعة عشر عاما بالتّمام والكمال، وهي بمجلداتها السّبعة جمعت (1.2) مليون كلمة. بحث فيها بروست عن سرّ الحياة ومعناها لرجل يشبهه. وفي الرّواية بجميع أجزائها حساسيّة جديدة عن عصرها، وقلق عات مخيف، ومعالجات شديدة الدقّة، وإصغاء لذلك الهدير الذّي يسكن جسد الكلمات القديمة. ورواية جيمس جويس “عوليس” لا يكاد يضارعها عمل سرديّ، لا في عصرها، ولا في التاريخ اللاحق، ذلك أن الروائيّ كان مسكونا بتلك الحمّى التّي ترقد في عمق الكلمات، ليس ذلك فحسب، بل أنّه كان مسكونا بقلق الشّكل أيضا، فنوّع من الطرائق، وجعل لروايته لغة خاصة معقدة وفذّة، ولعلّ ذلك ما جعل لهذه الرّواية في تاريخ السّرد مكانة عالية. ورواية تيودور دوستوفسكي “الإخوة كارامازوف”، وغيرها من أعماله تتّخذ من موضوع اللّغة أساسا لها، إذ اختار لرواياته لغة مسكونة بالأرواح، مستمدّة من الإرث، ومغزولة من قماشات الحلم، ممّا دفع فرويد إلى القول أنّ كلّ فكرة أتى بها إنما هي مستمدّة من الإرث، ومغزولة من قطن الحلم، وأنّ كلّ فكرة أتى بها إنما سبقه إليها صاحب “الجريمة والعقاب”. يصغي دوستوفسكي إلى ذلك الهدير الخافت الذّي تمور به الكلمات العمياء، ويكتب فيما هو يكتب تاريخ الكلمات نفسها، ذلك الإصغاء ليس فقط أمرا جيّدا، بل هو فضيلة الفضائل، لأنّه سرّب للرواية عمقا بلا عمر، ودهريّات منسيّة، ورؤى مهرّبة، وتراثات لا تزال عالقة بالكلمات ذاتها. وفي رواية ليون تولوستوي “الحرب والسلام” التّي اعتبرها وليام فولكنر أعظم رواية في التاريخ، نجد أنّ الرّوائيّ يتّخذ من التاريخ نفسه موضوعا للمسائلة والبحث والتدقيق، ولذلك نقرأ في الحرب والسلام، لا ما يقوله الراوي عن تلك الشخصيات الأكثر واقعية في السرود الكبرى فقط، بل ذك العواء وتلك النواحات المضمّنة في أصل الكلمات. رواية ثقيلة مدمّرة تعلق بك حتّى تضيق بها نفسك، فتتساءل كيف لبشر أن يكتب أثرا كهذا؟ كيف قدر له أن يحمّل في أثر واحد كلّ تلك المحاميل الثقافية، وكلّ تلك الدقّة في كتابتها؟ وجابرييل غارسيا ماركيز في روايته “مئة عام من العزلة”، التّي يجوز القول فيها أنّها كتبت وحدها مثل شجرة البرقوق التي تحرس الأهل النائمين في صحن البيت، بلغة منتزعة من ضمير الشّعب ومن وجدانه، وبكلمات مستلّة من مسلاّت قديمة، وبروحيات شرقيّة يانعة، وارفة الظلال، وبرؤى مدهشة تستقطر السّحر والتقاليد والموروثات القديمة، يصغي غ غ ماركيز للرّوح التّي تتشرّد في تيه الكلمات، وفي جملته محمولان، محمول أصيل شخصيّ عميق مدروس ذاتي، ومحمول آخر تصنعه الكلمات بذاتها. قيل عن روايته هذه أنها أول عمل أدبيّ رفيع منذ سفر التكوين، وقال عنها نيرودا أنها أفضل تجلّ للغة الإسبانية منذ رائعة دون كيشوت. تلبس اللغة معه لباس الغرابة والسّحر، وتتقدّم بطريقة جديدة تماما بالنسبة للقارئ الإسباني، ويختطّ بها الروائي دربا غير مسبوق في السّرد، ويغطّي بها ستّة أجيال كاملة، ينبتهم كالنبات الوحشي في أرض تسمّى ماكوندو. وخلال هذا كلّه نكاد نتسمّع الكلمات ذاتها تتكلم مع الرّاوي مخبرة عن سحرها وغرابتها وتاريخها الطويل. وفي رواية فرجينيا وولف “إلى المنارة” نتابع عائلة وولف في نشأتها، بلغة تعتبر بداية نشأة تيّار الوعي، وفيها استطاعت أن تجمع بين السّرد الرّوائيّ والتأمل الفكري، وكان سردها مضمّخا بتلك الرّوح التّي تسكن الكلمات القديمة.
كتب أخرى كثيرة يمكننا استعراضها في هذا السياق، وهي جميعها مغروسة نصالها في أرض الكلمات، ومصابة بنصال الكلمات. كلّها تفتح فضاءها لقلق الكلمات العابر للزمن، وتصغي لوجع المفردات في تغريبتها الأزلية. هناك خوف تشعر وأنت تقرأ أنّه أكبر من تلك الوضعيات الفارقة التي يأتي بها الروائيون. وتحسّ أن هناك فقدا غائرا في عروق الشجر والعشب والغيمات وليس هو فقط حزن بطل جاء به الراوي. يحملنا الكتّاب إلى أرض ليست كالأرض، وسماء ليست كالسماء، وفيها ينطق الكائنات بعصارة تواريخها، ويملؤها بعصارة إرثها، ويمنحها تلك الرّوح الضالة التّي منذ بدء الخليقة وهي ضالة متسائلة معذبة. تلك اللغة هي السبيل الوحيد لكتابة أدب خالد، أدب منذور للكشف والتعرية والتأسيس، أدب تتنفّس فيه الكلمات وتخبر عن أوجاعها.