مقطع من رواية “أتوضأ نصري وأنهزم”*
محمد الحميدي – السعودية
بلغا النافذة، اشترى عادل علبتي “كولا” وباكت سجائر ماركة “ونستون”، دفع الثمن، ثم ابتعد مع صاحبه ليفسحا المكان لزبون آخر: الخسائر هذا اليوم مضاعفة. يبتسم صديقه: إذا لم تكن قادرا على تحمل الخسارة .. فلماذا جئت؟
- جئت للتسلية، أحب مشاهدة القطط وهي تتقاتل (يبتسم).
للتسلية فقط (يضحك بصوت عال).
- وكل المال الضائع، أكان للتسلية أيضا؟
- نعم يا صديقي، من أجل التسلية، وإلا ما فائدة المال بين أيدينا ( يعود للضحك العالي)
- يرسم ابتسامة عريضة على وجهه: تفاجأت بكل هؤلاء الناس، فلم أعتقد أن لصراع القطط شعبية كبيرة.
- ليست لها شعبية كبيرة (يضحك ثانية بصوت أعلى جعل الأنظار تتجه ناحيتهما): هيا نغادر قبل أن يبدأ الخاسرون في شتمنا. صديقه: أنت خاسر أيضا. يرد: خسرت بعض المال، لست مستاء من ذلك، بل أنا سعيد؛ أتيت لأستمتع، وها أنا لا أحرم نفسي من اللذة رغم الخسارة.
ينطلقان إلى المواقف خارج الحلبة ويستقلان السيارة، عادل يدخن سيجارته الثانية، كأنه يعاقب الحياة على خساراته المتتالية، صاحبه يراقب الموقف، لا يعلق بشيء، يعلم الأسى الذي يعتصره، ويشاهد مقدار السعادة في عينيه، يتساءل: كيف يستطيع الإنسان الجمع بين النقيضين؟؟؟ لا يجد جوابا شافيا، يؤجل سؤاله إلى أن ينتهي من تدخين سيجارته، ها هو ينفث الدخان على هيئة دوائر، فيصرخ بوجهه: “ملعون!”، متى تعلمت رسم الدوائر في الهواء؟ كم أنت بارع! أجابه بهدوء على غير عادته: منذ تعرفت عليك! يضحكان كثيرا، كثيرا جدا، حتى أن الشجرة اليابسة التي مرَّا قبالتها كادت تثمر.
تتوقف السيارة، يترجل عادل، يرفع كفه ملوحا لصديقه، يشير إليه بعلامة النصر، يتفق معه على اللقاء غدا، يهز رأسه .. ربما .. إذا لم أكن مشغولا! ينفجران بالضحك، يتجه إلى بيته، الساعة تشير إلى السادسة والنصف، تأخر أكثر من المعتاد.
جلس على كرسي خشبي مصنوع من أعواد الخيزران، أخرج الـ”ونستون”، وبدأ في رسم الدوائر، أخذ نفسا عميقا، امتلأت رئتاه، قبل أن يطلق الزفير المتقطع، ماطًّا شفتيه، وهو يتذكر صديقه الوفي، تجمعهما صداقة ممتدة منذ الأزل، يعرفه كما يعرف نفسه، لم يفترقا منذ أكثر من عشرين سنة.
ينفث دوائر أخرى عوض التي التهمها الفراغ، استمر يراقب دوائره بنشوة، لم يشعر من قبل بمثل هذا الهدوء النفسي، لا يعرف الأسباب، مؤكد لا يأتي لوحده، وراء الغيب ثمة عين تحرسه؛ عين والدته المتوفاة منذ سبع سنين، والده المدفون منذ سنة مضت، أخته الصغرى التي قدمت للعالم بفاجعتها، توفيت قبل أن تطأ قدماها طاولة المشفى، كثير من الموتى نظروا إليه في الأثناء، أحس بهم جميعا، أراد الضحك، انحشر الدخان في فمه، سعل عدة مرات، ثم ابتسم بشراهة، واصل سحب نفس أخير وعميق من سيجارته.
غدا سيكون يوما طويلا، العمل لا يتوقف، كلما كبرنا في العمر أصبحت المسؤوليات أثقل، الحياة تأخذنا نحو وجهة لم نحسب حسابها، الطفولة ولَّت إلى غير رجعة، عالم اليوم مختلف عن عالم الأمس، صراع القطط متعة وحيدة تجتذبني، هناك أقضي الوقت بالمراهنة، ربما يتضاعف المبلغ، وأكسب بعض المال، غالبا الخسارة من نصيبي، أهو القدر يعاندني؟ أم لا شأن له بما يحدث، و”ما نحن إلا نتيجة قراراتنا واختياراتنا السيئة”، اليوم خسر القط الأقوى، فخسرت ما تبقى من مالي حين راهنت عليه، ليس لدي سوى القليل لأكمل به الشهر، (يتساءل): لماذا خسر أمام قط ناشئ، لم يظهر قبلا على الحلبة؟ فكَّر كثيرا في السبب دون جدوى، كما كانت “دون جدوى” حاضرة في محاولات ثنيه عن الرهان الخاسر، حذره أحدهم: لا يربح الأقوى أحيانا، القط الأسود جديد، إلا أنه قد يفوز، الحياة متقلبة، البقاء ليس للأقوى دائما، أو: “الانتصار ليس للأقوى دائما، تظل هنالك أمور نجهلها؟!”
راكم أحلامه لسنوات، جمع المال لتحقيقها، الآن انسكبت في مزابل التاريخ، لم يعد إلا رقما من الأرقام، عددا مكتوبا على بطاقة الهُوية، سينتهي الرقم حينما يذهب إلى حياته الثانية، مع والده ووالدته وأخته الصغرى، مؤلم ابتعاد الأحلام إلى درجة عدم تحققها، بل إلى درجة عدم تصديق أنها وجدت ذات يوم، حسنا، غدا يوم آخر من أيام العمل، وعليه الخلود للراحة، ربما تنفتح بعض الأبواب المغلقة، أو يأتيه مال مجهول لا ينتظره، فـ”الحياة كثيرة المفاجآت، تدهشنا أحيانا، رغم أنها في غالب الأوقات، تملأ قلوبنا حسرة!”
نظر إلى ساعته التقليد، وجدها تشير إلى السابعة وعشرين دقيقة، موعد قدوم عائلته اقترب، حمل رجليه بتثاقل، اتجه صوب البانيو، أغرقه بالماء، الرغوة آخذة بالانتشار، أحلامه التي نسيها آخذة في التقلص، خلع ملابسه، تمدد في الدفء، يحاول نسيان خسارته مع انهمار الماء على جسده، يحتاج الهدوء للتفكير في المستقبل، هكذا يتصرف بعد كل خسارة، يأخذ حماما دافئا، يفكر في المستقبل القادم، الذي لا يعلم عنه شيئا.
يعود للتفكير بعليّ، يتذكر صداقتهما منذ الثانوية، يجلسان متلاصقين داخل الفصل، يسكن حيا قريبا، بارع في الكيمياء، جميع الأساتذة تنبأوا له بمستقبل باهر في الجامعة، يحفظ المعادلات الكيميائية عن ظهر قلب، الرموز الصعبة ذات الأعداد المتشابكة تأتي على فمه بسلاسة كلما سأل الأستاذ سؤالا، اعتبره الجميع عبقري الكيمياء. ارتسمت على وجهه ابتسامة غامضة، تلتها ضحكة مكتومة، حاول حبسها بيده الصابونية، الرغوة تملأ فمه، ولازالت الضحكة مكتومة، يقارن بين تنبؤات أساتذته وبين حال صديقه اليوم، “ليس بالضرورة أن تصدق التنبؤات”، وأزاح صورة صديقه من رأسه.
فرك جسده، أزال الهموم الثقيلة القابعة على رأسه، ابتسم لنفسه، شعر في داخله بالمرارة، البيت المستأجر الذي يسكنه مع عائلته ستحل نهاية العام بعد قرابة الشهرين، وليس في رصيده ما يسد جوع المالك، ينبغي الدفع وإلا، عض على شفتيه، سيفوز في الرهان القادم، وسيعوض خسائره، من اليوم سيراقب القط الأسود، ويعتبره تميمة جالبة للحظ، لا يمكن أن يخسر بسهولة، حركاته تدل على أنه مدرَّب لخوض النزالات والانتصار فيها، سيراهن عليه حينما يستلم راتبه آخر الشهر، أما الآن، فالحياة تناديه.
أنهى الاستحمام، ارتدى منشفته وتوجه إلى الدولاب، أخرج قميصا مخططا وبنطلونا رماديا، ارتداهما بسرعة، هبط إلى الأسفل، ليلتقي بالعائلة المكونة من ولدين وبنت، زوجته طالما ساعدته على تحمل الأعباء، حتى وإن لم يطلب منها، يدين لها بالكثير، راتبها تنفقه على العائلة حالما يخبرها بقلة المال في يده، ويده لم تحمل ما يكفي من مال في يوم من الأيام، لا تشكو ولا تبوح بهمومها لأحد، ولا حتى له، محاولاتها في إصلاحه باءت بالفشل، اقتنعت بنصيبها من الدنيا، الأطفال أهم من أي شيء آخر، ولا تريد لهم أن يصبحوا كأبيهم، لا مبالين، لا هدف في الحياة، ضائعين في الزحام، “يكفي أن يكون فرد واحد من العائلة ضائعا لكي تشعر العائلة كلها بالضياع”، لم يكن ذلك الشخص سوى الأب.
محمود أكبر الأبناء، يحمله بين ذراعيه، “هيْ هيْ طيااارة”، يلوح به مثل الطائرة، ينتظر فيصل دوره في اللعبة، يأخذه إلى الأعلى “هيْ هيْ طيااارة”، البسمة تعلو شفاههم، زوجته تشاهد السعادة ترفرف على عائلتها، لا تنتظر أكثر من ذلك، يأتي الدور على الصغيرة، تضع يدها فوق ابنتها الرضيعة، يفهم الإشارة، يبتسم في وجهها، يمد يديه إلى خصرها، يحاول انتزاعها من الأرض وحملها “هيْ هيْ طيااارة”.
يضحك محمود وفيصل، يغرقان في طفولتهما البريئة، كما تغرق في الضحك، تعرف زوجها، لا يكف عن المزاح، يسعدها ذلك، يأتي محمود ويقف بجوار والدته يسحب كم قميص والده “طياارة طياارة طياارة”، يضحك الزوجان ويصطف فيصل خلفه ليكون التالي في الدور، ينهمك في اللعب مع الولدين إلى أن يجْهز طعام العشاء، ترفع صوتها بالقول “العشا جاهز” يتسابقون أيهم يصل أولا إلى مكانه.
طوال العشاء والولدان منهمكان في اللعب، المناكفة أكثرُ من اللقم الصغيرة، عادل بفرح غامر لا يعرف مصدره ينظر إلى ولديه كأنه يشاهد المستقبل، محمود سيكون مهندسا كهربائيا، كلا سيكون طيارا، أو طبيبا، لا أدري ربما يكون تاجرا، فيصل ذهنه متوقد بالحماس، لنرى ماذا يناسبه، مدير في إحدى الشركات الكبرى، ضابط شرطة، لا، لا أريده أن يلتحق بسلك العبودية ذاك، اللعنة على النظام العسكري كله، إنني متأكد من أنهما سيكونان متفوقين في الدراسة، وسيصبح شأنهما عاليا، الأكيد أنني لن أجعلهما يتجهان إلى الكيمياء، تجربة واحدة تكفي، ماذا استفاد عليّ من حفظه للرموز الصعبة والمعادلات المعقدة؟
البيتزا طبق رئيس في مائدة العائلة، خفيفة الأكل سهلة التجهيز سريعة النضج، يلتهم الولدان القطع الصغيرة المربعة، يومهما بدا حافلا باللعب والنشاط، ها هما على موعد مع الطعام الشهي الذي تعده والدتهما، يبادر إليها بالسؤال: ما أخبار العم الحاج أبو رباب؟ تحسن حاله؟ ترفع الزوجة رأسها، تنظر في عيني زوجها، دمعة غارقة في سديم عينيها، تود النطق بشيء، تتوقف في المنتصف، تسعل، مرة، مرتين، ثلاث مرات، تعود لتنكيس رأسها، تهرب من الإجابة، كعادتها لن تتحدث أمام الأولاد، اعتاد منها هذا الفعل كلما سألها عن شيء ومزاجها عكر، تكتفي بوضع عينيها في عينيه قبل أن تخفضهما ثانية، يدير سؤالا آخر في رأسه: هل ازدادت حالة العم سوءا إلى هذه الدرجة، بات قريبا من الموت؟
لم يجد الإجابة في رأسه، سيذهب معها يوم غد إلى منزل عائلتها؛ للاطمئنان على والدها العزيز، اكتفت بهز رأسها ببطء وهي تقضم قطعة مربعة من البيتزا، يلاحظ شرودها، لم تأكل سوى القليل، “الناس في المصائب وحالات الضيق، يكتفون بالألم الداخلي والبكاء الروحي، لا يولون للطعام أهمية”.
انتهت وجبة البيتزا وقام الولدان إلى المغسلة، بللا أيديهما، ثم مسحاها في القطعة القماشية المسدلة بجوارها، أمسك يد زوجته، ضغط قليلا، يريد نقل مشاعره عبر لغة الجسد، بعد أن تعذر نقلها عبر الكلمات، تستسلم ليده، ترفعها إلى الأعلى، تضعها أمام فمها، تقبلها قبلة خفيفة، توشك أن تحتضنها، تستمع إلى بكاء طفلتها، تفلت يده وتشرع بإرضاعها.
يُدخل ما تبقى من قطع البيتزا الثلاجة، سيأكلها الولدان لاحقا، حينما يقرص الجوع بطنهما الصغير، الأطفال يميلون للعب، لا يشكل الطعام أهمية في هذه السن، يعود إلى المائدة ليجمع بقية الأشياء، ريثما تنتهي زوجته من الإرضاع، اعتاد مساعدتها في إدارة شؤون البيت، القيام بالتنظيف والترتيب وتحريك قطع الأثاث ورفع السجاد إذا اقتضى الأمر، ليس زوجا مثاليا، يعرف ذلك، لكنه يحاول تقديم المساعدة إلى زوجته، الحياة في حاجة إلى التكافل، خصوصا بين الزوجين.
الساعة قاربت العاشرة والنصف، الجو ليس حارّا، فلا حاجة لتشغيل جهاز التكييف، لا زال الشتاء حاضرا، يأخذ الولدين إلى غرفتهما، يطفئ النور، قبلة على خد كل منهما، محمود: “طياارة”، يبتسم: غدا نلعبها مرة ثانية، أما الآن تأخر الوقت وعليك بالنوم، ينسحب بهدوء عائدا إلى زوجته التي أنهت إرضاع الصغيرة، الأميرة الطفلة تنام بهدوء في حضن والدتها.
يستلقي على السرير، ابنته في سريرها، يتحدث مع زوجته بصوت هامس، والدك بخير؟ لا تجيب بشيء، كلماتها لا تخرج من فمها، تتمتم: إن شاء … سيتحسن غدا، تنقلب إلى الجهة الأخرى، يمسكها من الخلف، يحتضنها، يهمس: أحبك.
تغمض عينيها وتحتضن يده، تخبره بحبها بطريقتها الخاصة، الكلمة الساحرة التي تعيد لها توازنها، من فترة ليست بالقصيرة لم تسمعها من فمه، أخبرته: أحبك كثيرا.
حلمت تلك الليلة حلما ورديا لم تذق مثله منذ وقت، لعل السبب إمساكه بها من الخلف، وأنفاسه اللاهبة تنعش روحها الضعيفة، أو بسبب ثقتها في القدر؛ كونه لن يخذلها، أو لأن هنالك بشارة آتية من الغيب، لا تعرف ما هي لكنها تحس بقدومها، فمجرد الإحساس بقدوم السعادة يبهج النفس ويجعلها مختلفة.
تبكي الطفلة، تبحث عن دفء والدتها، تنتبه الأم بابتسامتها الناعسة، تمد يدها تجاه السرير الملاصق، ترفع ابنتها، وتحتضنها، تلقمها الثدي الحنون، تنظر إليها مغمضة العينين، تتلمس “حفاظتها”، ناشفة، تتلمس يد زوجها، لا زالت تمسكها، تزداد ابتهاجا وسعادة، وتعاود النوم؛ في جنة سماوية لا تريد لها الذهاب، كم افتقدت هذا الشعور اللذيذ، تمنته أن يستمر بقية أيام حياتها، يتثاقل جفناها، ينطبقان ببطء، تدخل عالم أحلامها الوردية مرة أخرى.
* صدرت الرواية مؤخرًا عن إي كتب بالمملكة المتحدة