دخول المدينة من مقاهيها: القطيف “بين الغراب وَ Jade”

 الهوية بين "تورّم الذات والشكل الحديث"

2 747

سامي الطلاق – السعودية

اخترع الإنسان المقهى. لعلّه أراد منه أن يُلْقِم جسده سرورا ما باجتماعه مع آخرين أمثاله، بالقرية أو البلدة. المقهى – الذي أمسى “القرية داخل القرية”، وبات “المدينة داخل المدينة”، مع تعقُّد الحياة والأفراد وحيواتهم بالمدينة – بات يرمز “لاتجاه فكريّ ما داخل المدينة”. تفكّكَت أشياء كثيرة بالحاضر، وباتت أجزاءً داخل أجزاء، فطبيب الأذن يتخصّص بجزءٍ جراحي صغير داخل الأذن الوسطى؛ والفلاّح بات يفكّر بالتخصص الزراعي وتطويره، بدل الكثرة التي لم ترفع مستواه الاقتصادي. بات المقهى كذلك لا يسع كلّ الأفكار الفنية والفكرية والمحافظة والتقليدية وغيرها، فكان لابدّ من اتجاه ما للمقهى ليجمع أفرادا يجمعهم ميلٌ ما.

ولعلّ من المقابل، أن البساطة التي كانت فيها “القهوة” المحلية -حيث يلفظها الناس- هي ما تجمع الجميع، وذلك لأن الجميع كانوا لا يعانون بعدُ التعقُّد الاجتماعي الفكري والفني. كان “الغراب”، كمقهًى مستطيلٍ، صغيرًا بمساحته، كبيرًا بما يجمعه من أفراد وأفكار. يلمُّ الكثرة، ولازال يحضن القلّة التي أمسَت تتغذى من الحنين لماضٍ ولّى وما ولّى؛ لأنه باقٍ بالهوية المحلية بمدينة ساحلية كالقطيف؛ هذه المدينة التي تحوي طبقاتٍ اجتماعية منذ القدم وتعدّدٍ فكريٍّ مثير لاهتمام الاجتماعي والأدبي بالخصوص للغوص فيه، كما غاص البحار ببحرِ هذه المدينة واستخرج ما يغني الجيوب ومايزيّن المرأة، وما يسّد جوع العامل بالبحر، ويرفع من غلّة التاجر أو “النوخذة” أو

 من يملك “السنبوك واللنجة والمال”. هذه المشهدية لا تجدها بكثيرٍ من المدن، هذا إن لم ننسَ الريف الزراعي والصحراء “البرّ” القريب، فاجتمعت حول وداخل القطيف هباتٍ سماوية من بحر وأرض زراعية ومياه جوفية وصحراء للنزهة الشتوية خصوصا.

وللعودة بمشهدية “قهوة الغراب” الساكنة بوسط القطيف تمامًا، سنحتاج فقط أن نمرّ بشارعٍ يقصّ المدينة من الجنوب للشمال حيث “أحياء (الشويكة) و(الشريعة) على اليمين و(ميّاس) بوجه القهوة كمِن يستأنِس وجودها بقربِه”. هذه الجمالية التي لم تعُد تروق لمن شبّ بعد التسعينات الماضية؛ فأخذ يتغذى من الموضوعات الفكرية ويقترب من الشكل الحديث لكلّ شيء؛ فالجنز ليس كالثوب بحرية التحرّك، والأيباد أخفّ من اللابتوب بحمله وهكذا.. التخفَف جزء من الحياة الحديثة التي باتت تتغذى من “الأسبرسو” الثقيل جدا إن طلبناه “two shots”

مقابل (القهوة المهيّلة) التي تتجدّد دوما لتتحدّى “القهوات” الجديدة.

وهنا ينتقل المشهد نحو “مقهى جَيْد” أو ” Jade Art and Coffee House”، فالتسمية اللغوية لها رمزيتها رغم هجرتها من الغرب للشرق. فمقهى جَيْد أخذ طابعًا غربيًا واضحًا – كما أشار لي مؤسس المقهى الشاب- الذي أوجد مكانًا غنيًا راقيًا وهادئًا بذات الشارع الذي يقطنه “الغراب” بعد ما يقرب مسافة كيلومترين اثنين، مقابل الدوّار الذي يسبق شارع “المطاعم”، أو شارع الحب كما يعرفه الناس.

 هذا المقهى يقع بالضدّ من المقهى التقليدي فمقابل “ياس خصر” ستجِد “بوب مارلي” مثلا بصوته الموسيقي؛ ولوحاتٍ فنية بطابع المدارس الحديثة بأنواعها بدلاً من صور فوتوغرافية لعيون القطيف قديمًا. كما بالنتيجة سيختلف الرّواد بالثاني تمامًا عن المرتادين بالمقهى التقليدي. الهوية الفردية ستتذَبذًب بين المكانين؛ فلا يمكن إلا الاختيار: نحو الشكل الحديث بإغرائه، أو القديم بثقلِه وحمله الثقافي. الجمع بينهما بداخل الذات سيجعل منها خليطًا عشوائيًا بلا جدوى. الهوية ستبيت ثقيلة، لا تجد الذات بمشاعرها وأيديولوجيتها وصفاتها الموروثة مرتاحة كثيرا؛ بهكذا ترنُّح المدينة ذاتَها نحو الشكلية التي باتت جزءًا من الحياة- فالحياة الحاضرة الشكل فيها (جزٌ) لبعض وجودية المدينة الواضحة- أو البقاء والتشبّث بذاتها وتضخّمها أحيانًا كثيرة. الذات المتورمّة هي جزءٌ من هذا المشهد أيضا..!

هذه المشهدية جميلة فنية مثيرة للسؤال..

الهوية اختيار أم امتحان، أم تشكلّ غير منضبِط كما تشكلّ وتنحت الريح الجبال؟

قد يعجبك ايضا
2 تعليقات
  1. ابو علي يقول

    احسنتم النشر . موضوع مثير وجميل. تتشكل الهوية باختيار مشروط بزمانها ومكانها او لنقل زمكانها الذي اضحى كونيا مما سيقود بالنتيجة الى ذوبان الهويات كلها في هوية واحدة.
    ارى اننا نحث السير وان كنا لا نشعر بهذا الأتجاه

  2. محمد الزاير يقول

    ما شاء الله مقال جميل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.