لماذا تكبر الأمهات؟

0 703

سامر أبو هواش-فلسطين

جالس مع أختي، أي ابنتك الكبرى، في الحديقة، تحت شمس دافئة، تحدّثنا عنك. تحدّثنا تحديداً عن مرضك وإهمالك المستمر لنفسك، وكيف أنك تنهكين نفسك في أمور يمكنك الاستغناء عنها، كالاعتناء المفرط ببيت كبير تسكنينه وحدك. لماذا لا تريحين نفسك؟ تساءلت وابنتك الكبرى. وأرجعنا الأمر في النهاية إلى طبيعتك الشخصية، التي يستحيل تغييرها، “ليس وقد أصبحت في هذه السن” قالت أختي. سألتها عندها: “بالمناسبة، كم أصبح عمر أمنا؟”. أجابت، وهي الملمّة بتواريخ ميلاد كل فرد من العائلة: “هذه السنة طبّقت الخامسة والستين”. صُدمت. حقاً صُدمت. أنت الآن في الخامسة والستين يا أمي. لم يخطر لي ذلك مرة. كنت أحسبك بالكاد في الخمسين، ونبّهني الجواب فجأة إلى حقيقة أنني منذ سنوات طويلة وأنا أضعك في الخمسين. كيف لم يخطر في بالي أنك تجاوزت هذه السن، وقفزت إلى ما بعد الستين؟ كيف جعلت الأيام تجري عليّ وحدي، وتكبّرني، وأبقيتك أنت هناك، قبل عشرين عاماً؟

هواء بارد بدأ يتسلل إلى الحديقة. فجأة اختفت الشمس، وحلت محلّها غيوم رمادية من غير المؤكّد أن تمطر الآن. الأشجار ترتعش قليلاً حولنا. صامتاً، أتكوّم على نفسي، ويسحبني رأسي إلى مكان آخر.

***

كنت غالباً ما تقعدينني في حضنك، وكنت أحب ذلك. لم أعترف لك يوماً بذلك، لكن صدقيني هذا الاحتضان كان أطيب عندي من الرز بحليب الذي تحضرينه من أجلي، ورائحتك عن هذا القرب أحلى من الكستناء توزّعين حبّاتها القليلة علينا بالتساوي، وتمنحينني سراً حصة أكبر. كنت تبرّرين للجميع بأنني صغيرك وغنوّجك، لكي لا يحسب أحد أنك توزّعين حصصاً غير عادلة من الحب أيضاً. هل تعلمين لماذا أحب فريد الأطرش مع أن أغنياته لا تتناسب كثيراً مع مزاجي. كانت أغنيته “الربيع”، آتية من راديو الجيران، هي التي غفوت عليها ذات مرة طفلاً، ورأسي على صدرك، ويدك ثابتة، كمن يتلو تعويذة، على شعري. وكلما استمعت إلى هذه الأغنية، بمصادفات مشابهة، أعادتني إلى تلك الإغفاءة الدافئة.

تناسبك “الربيع” يا أمي. لا أعني الكلمات الحزينة والمأساوية عن ضياع الحب، لكن ذلك اللحن الكرنفالي الحنون، يتبعه صوت فريد الأطرش الرخيم “آدي الربيع عاد من تاني”. كنت أظن في البداية أنها احتفال بمجيء الربيع، لكن سرعان ما يتضح أنها رثاء له، ووصف للخريف والشتاء، يمهّد به فريد خاتمته الاحتفالية الكبيرة، على جاري عادته. يناسب مطلع هذه الأغنية شبابك، أو نظرتي إليك على الأقلّ. أما أم كلثوم التي كانت تأتي أيضاً عبر النافذة، لكن من راديو مختلف، فبدت بالنسبة إليّ وقتذاك أقرب إلى جدّتي منك. صوتها الصارم، بالنسبة إلى طفل مثلي، يذكّر بصرامة جدتي، أما غضبها وسخطها على الحبيب ووعيدها له، فيشبه سخط جدتي على الحياة وعلينا. بعد ذلك بسنوات طويلة اكتشفت الحنان الفائق في صوت أم كلثوم، لكن يصعب على الأطفال مثل هذا الاكتشاف باكراً. لم أكن رأيت أم كلثوم لكنني تخيلتها شبيهة بجدتي، وعجوزاً مثلها. أما أنت فكنت تشبهين “ربيع” فريد الأطرش، و”فوق غصنك يا لمونة”، وأغنيات أخرى كانت تقتحم آذاننا، مثلاً، “طير وفرقع يا بوشار… ما بيصير أكتر ما صار… حبيبي قلبو فرقع متل حبة البوشار”. رائعة وبليغة، على الأقل بمقدار ما تشبه الألوان الفاقعة لأزياء زمنك، و”الميني جوب” والكعب العالي. أيضاً، معظم أغنيات صباح، ومعظم أغنيات الأخوين رحباني الرومنسية قبل الحرب. كنت تشبهين بشبابك البهي زمن الأخوين رحباني ذاك، تشبهين الدبكة، والصبايا الخفرات الراقصات على إيقاعات حب بدت لانهائية. تشبهين “هيك مشق الزعرورة”.

***

ليست كافية هذه الغيوم لتحدثَ مطراً. لكنها تكفي لكآبة صغيرة. لا نلوم أحداً حين تختفي الشمس الدافئة، ويتسرّب فجأة الهواء المصقع. لا نلوم أحداً على أفعال الطبيعة، ولا حتى الطبيعة نفسها.

قلت لأختي أنني خابرتك قبل يومين. قالت لي: “أتعرف ما أكثر ما تحبه  أمّك؟”.

“ماذا؟”.

” حين تناديها حبيبتي عبر الهاتف. وحين تقول لها باللهجة الفلسطينية “يمّا” وحين تغنّجها “عيوش”.

هل يمكن أن تقف مخابرة عند هذا الحدّ، لكي لا نغرق بعد ذلك في “والله الأخبار عندك… مشتاقين.. تسلمي.. كيف الأهل…الله يخليك فوق راسنا”. أشعر فجأة أننا شخصان يتحادثان، مجرد شخصين يتحادثان، وهذا لا يليق بنا يا أمي.

يعزّز ذلك شعور الصدمة عندي. هل بتنا بعيدين إلى هذا الحدّ يا أمي. لطالما اعتمدت على ذكرى الجلسات الطويلة تلك، أو لأقل “الكنكنات” الحميمة، في حضنك، لعلاقة بيننا لا تحتاج إلى كلمات، ولا شرح، ولا تبريرات. لعلني حبستك في تلك الاحتضانات، مثلما في “ما قبل الخمسين”، وأطلت في ذلك. ربما ينبغي أن أقول وأفعل ما هو أكثر من الذكرى، ربما أنتبه عندها إلى جريان السنوات الجارح، وأعترف به. ولا تعود الخمسون أقصى سن تبلغه الأمهات. اعتدت أن أقول لك مداعباً أن قامتك تقصر مع التقدّم في السن. التقدّم الذي كان يعني بالنسبة إلي الانتقال فقط من الثلاثين إلى ما قبل الخمسين بقليل. وكنت تجيبينني باستسلام تام بأن الإنسان لا يبقى على حاله. تماماً مثلما انتقلت من الميني جوب والفساتين الوردية وقصات الشعر الحديثة، في السبعينات، إلى الحجاب والحجيج والمسجد في التسعينات، وفهمت ذلك تماماً. كان ينبغي أن أفهم  أيضاً أن ذلك لا بدّ من أن يكون له تصريف في حساب الأعوام.

***

لن ينفع احتجاجي على الغيوم. ولن تمطر. لكنني سأبقي صورتك مشعّة في قلبي. سأحبك في الستين وفي السبعين، لكنني سأبقيك في الخمسين، وسأعتبر قامتك التي تقصر خطأ قدرياً، أو مجرّد ذريعة لكي يتسع جسمك لاحتضاني أنا لك. سأضعك في حضني. وسأبقي يدي ثابتة، كتعويذة بيضاء، على رأسك. وسأقول لك لا تخافي الشتاء. وسأقول لك أنني أراك جميلة الآن مثلما من زمان، ولن أنكر التجاعيد على وجهك، وسأمازحك حولها، وحول الستين، وكيف خدعتني حين وصلت دون علمي إلى هذه السنّ. وستبقين المرأة نفسها. وسأظل كلما غمرتني تلك الوحشة، واجتاحني ذاك الصقيع، أتكوّم على صورة وجهك، وأحتضنه، وسيذهب فريد الأطرش إلى البكاء، ونبقى نحن في مطلع الأغنية.

أو، لم لا أمحو كل ذلك، وأكتفي بالقول: “عيّوش.. يمّا.. حبيبتي.. “.

“أعتذر أمي أوقعت سناً”

للتواصل مع الكاتب

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.