محمد الماجد – السعودية
هل يمكن أن نقترح أبوّة الكترونية مقابل الأبوة التقليدية؟ أبوّةً ترعاها الإنترنت والأقمار الصناعية وأجهزة الوسائط المتعددة؟
للوهلة الأولى يمكن أن نجيب بنعم؛ فالتغير في الوسائل والآليات لا يعني بالضرورة تغيراً في المفهوم.
إن اللغة، عندما كانت تعيش طفولتها الأولى، كانت تعتمد الشفة واللسان في التواصل، ثم قررت أن تسجل تاريخها الخاص على الحجر، وبعد ذلك على الأكتاف والعظام والجلود، ثم وقبل الحديث عن أي حدود لشراهة اللغة في الاندفاع والتقدم ، حدثت القفزة الكبرى في صناعة الورق ولاحقاً في الطباعة. ولم يكن أحد ليتحدث عن أن أباً ما أو أن سلالة منذورة من الأسلاف لم تكن لتعمّد هذا التاريخ الطويل بأفراد نادرين وخلاقين، أو أن أجيالاً متتابعة ولا نهائية من الشبان المتوثبين لم يقعوا فريسة سهلة لهؤلاء الأسلاف حادي البصيرة والذين لم يتعودوا أن يتركوا ورائهم – شأنهم شأن كل الفاتحين – سوى نصر ناجز وأنهار من الجثث.
’’الأب الإبداعي ليس أباً جينياً في كل الأحوال؛ بل هو أقرب إلى شيخ الطريقة’’
السؤال إذاً، ومتى أحببنا أن ندوره قليلاً، نستطيع أن نطرحه بطريق أخرى: كيف يمكن لشاب ومهما تعددت حيل اللغة ووسائطها أن لا ينتهي به الأمر إلى جثة؟ إلى مجرد كبش في محرقة أعدها له الأسلاف؟ أن يتحول إلى قوس وسكين ورمح ليجترح طريقة الصيد الخاصة به عوضاً عن أن يكون طريدة لا يُعرف لها مصير سوى القدور وأسياخ الشواء؟! قليلاً، حتى نكتشف أن الأمر كله يدور حول إيجاد صيغة للبقاء. وهنا لا يمكن للتمدن والحضارة أن تقترح هذه الصيغة؛ بل على الأغلب، الغابة هي من ستتولى القيام بهذه المهمة. إذاً، الدرس دائما سيأتي من هناك: من بطون الأودية وجدران الكهوف ولسعات الأفاعي. من الالتزام العالي، لجيش من النمل الأسود، بالوقوف ولشهور عدة في طوابير لا همَّ له سوى إيصال المئونة سالمة. وأخيراً – وهو ما يعنينا في سياق العلاقة بين الأب الإبداعي والشاب – سوف يأتي الدرس بالتأكيد من المسافة التي تفصل بين غزال مذعور ونمر جائع، والتي لا يمكن للجدار الإلكتروني الذي نصطلح على تسميته بالشاشة أن يجعل منها شيئاً آخر. أن يزيف فيقول أنها مجرد نزهة أو ضرب من التسلية المحضة. إن الأيقونات التي عادة ما يضعها مجتمع الإنترنت في نهايات الجمل للتعبير عن مشاعر الضحك أو السخط أو السخرية وغيرها من وسائل المنيكير الإلكتروني – التي لا يكف مدمنو الإنترنت عن التوسل بها – لن تجعل من اللوحة المنجزة بالفوتوشوب لوحة ممتنعة عن أن تكون نسخة لأخرى رسمها أب إلكتروني قبل عام مثلاً أو حتى قبل ساعة .
الأمر نفسه يصح أن نقوله عن الشعر والرواية والمسرح، وحتى عن سياقات سردية لم نتيقن من مآلاتها بعد أو ما زالت تتحين الفرصة للخروج من غرف الشات والمدونات والفيسبوك لتعلن عن هويات جديدة في الكتابة أو غيرها من أشكال التعبير أو ربما عن شراكات محتملة بين الفنون . لا أحد يمكنه الجزم بشيء. هذا، في الوقت الذي يأخذ فيه الكثيرون ثقافة الإنترنت – وهم محقون إلى حدٍّ بعيد – إلى نقاشات فلسفية وتاريخية تنذر بسقوط حواجز الاستبداد ومراكز القوة التقليدية، وتبشر في المقابل ببزوغ فجر الحريات والتعدديات والعرقيات المتصالحة؛ أي أنها تبشر بانفجار كوني ينال هذه المرة من روح البشرية وهو لا يقل تأثيراً عن ذلك الذي دفع بالجنس البشري إلى سطح هذا الكوكب. إذاً كيف لسلطة ما، أياً كان حجمها، دولاً كانت أم أفراداً، أن تصمد أمام هذا المد؟ وكيف لنا، لاحقاً، أن ندّعي بأن شمس الأب الإبداعي وحدها ستظل عصية على الأفول والتلاشي؟
شخصياً، أعتقد بأن سلطة الأب، في ما يختص بالإبداع، هي سلطة من نوع مختلف ومغاير! الأب الإبداعي (وهنا أنا استخدم نفس المصطلح الوارد في محور النقاش) ليس أكثر من دليل ولكنه دليل حاذق. وأكثر من ذلك، هو وريث لأسلاف حملوه على أكتافهم لقرون متمادية ليصل إلى الحاضر. وهو مسئول عن دفع هذا الإرث لآخرين ينتظرونه على شفير المستقبل.
الأب الإبداعي ليس أباً جينياً في كل الأحوال؛ بل هو أقرب إلى شيخ الطريقة. ولك أن تتخيل فداحة الخسارة، فقط، في الطريقة التي يتعاطى بها المريد حين يقرر أن لا يفعل شيئاً سوى التبرك بعرق الشيخ والتمسح بلحيته، دون أن يلتفت إلى أن الشيخ قد سلك به في السهل حيناً وفي الوعر أكثر الأحيان، ولقنه فنون الجلد والمجاهدة؛ لا ليبقى تابعاً وذيلاً له؛ بل ليحلق بعيداً عنه وليؤسس في المقابل مذهبه الخاص به. كان الشيخ في الحقيقة قد بعث له بإشارات، كانت سترشده للتمسك بما هو أهم .. بالمطلق. لكني هنا سأعود لأستدرك بأن عاصفة إلكترونية، كالتي حملتها لنا الألفية الثانية، ربما ألحقت الأذى بصورة الأب أو البطريرك التقليدي (الذي ليس كله شر) لتعزز في المقابل صورة ومفهوم العائلة (التي لم نستوثق من نياتها بعد). وفي الحالتين ، لا يمكن وضع أيٍّ من الصورتين الواحدة مقابل الأخرى وكأنهما في عراك. الأرجح أنهما كانتا تعملان بشكل متعاضد قبل عاصفة الألفية وأثناءها وستظلان كذلك في المستقبل. إذاً ما الذي تغير؟ أعتقد أن حجم وسلطة الأب ربما تراجعتا لصالح العائلة، العائلة المكونة من شباب متحمسين، والذين عادة ما يأتلفون في منتدى الكتروني محلي. أيضاً، وبقدر كبير من الحماسة يجيدون إعادة رص صفوفهم في مجتمعات وأثنيات عابرة. وبالطبع يقودنا هذا التوصيف للبحث في موقع الشاب من هذه العائلة أو تلك، والتي أشك من الآن أن يكون دورها (أي العائلة) أكثر سخاء من دور الأب فيما يتعلق بمهمته كنبي ودليل، خاصة وأنها تتكون من فئات عمرية متقاربة، قليلة الخبرة وميالة أبداً للتصفيق الذي لا يبعث سوى على الاسترخاء والكسل. إن تحديّاً واحداً فقط كان باستطاعته دائما أن يخلخل من سلطة الأب، مازال يستطيع أن يفعل الشيء ذاته مع العائلة، هذا التحدي له علاقة بوعي الشاب بفرادة الذات واستقلالها عن المثل والسوى. ولا مانع في هذا السبيل أن نستوعب جميعاً درس الغابة؛ لا لنصبح غزلاناً مذعورين؛ بل لنتأكد بأن المسافة التي تفصلنا عن مخالب النمر هي مسافة كافية لأن تبقينا غزلانا إلى نهاية الشوط.