سماهر الضامن – أمريكا
هل أبدو مؤدلجة جداً عندما أريد أن أكتب هنا عن الأمومة الإبداعية؟؟
عنونت إصداري الأول بـ “نساء بلا أمهات”، وقد واجه هذا العنوان بعض الاستنكار أو ربما عدم الفهم؛ لكن طرح هذه الإشكالية (الأبوة الإبداعية في زمن الانفتاح) يعيدني إلى حيث انتهيت هناك. وبحكم أن العنوان تسويقي إلى حد بعيد، فقد كان كثيرون يسألونني عن مغزى التسمية التي تبدو مقحمة على المتن، لاسيما أن الدال لا يحيل بشكل مباشر وفج على المدلول. كنت أعود، حينها لكاتبات الجيل الأول (من الروائيات)، لأجيب من يسألني بأن ربط كتاباتهن بسياقاتها وواقعها الثقافي والاجتماعي يكشف بوضوح أنهن ظهرن في بيئة غير دافعة، وغير حاضنة للإبداع، وأن ليس ثمة (أمهات/ رموز إبداعية من النساء) يشكلن مصدراً للتأثير والتأثر والدعم المعنوي للكاتبات (محليا على الأقل). وقد لفت الدكتور مبارك الخالدي نظري، ذات نقاش، إلى أن عدم وجود (الأم الروحية) محلياً لا يؤدي بالضرورة إلى الجزم بأن أولئك الكاتبات لم تكن لديهن (أمهات) خارج هذا النطاق، إذا أخذنا في الاعتبار أن أغلبهن نشأن أساساً في أقاليم عربية مجاورة: مصر وبيروت وسواهما، وتأثرن بلا شك بالحراك الثقافي والإبداعي والنقدي هناك.
لكن عودة سريعة لنتائج تلك الدراسة تؤكد لي أن غياب (الأم الإبداعية) محلياً كان عاملاً معرقلاً ومربكاً، أفقد أولئك الكاتبات القدرة على التواصل الحميم والحر مع واقعهن المحلي، كما أفقدهن القدرة على تحريك الشخصيات والأحداث في بيئاتهن الأصلية (وهنا أتحدث عن النتاج الروائي تحديدا بما يمكن تعميمه على بقية الأجناس الأدبية)، وهو ما أعاق، إلى حد بعيد، قدرتهن على نقد الواقع؛ وبالتالي المساهمة في تحريكه أو إثارة أي أسئلة تعبر عنه بشكل واضح وفاعل ومؤثر، بشكل خاص، إذا ما صحت المقارنة بين سميرة بنت الجزيرة، مثالاً، وبين أحمد السباعي أو عواد، أو بين هند باغفار وأمل شطا وبين حامد دمنهوري. ربما استطاع محمد حسن عواد والسباعي ودمنهوري، في تلك المرحلة، أن يحركوا العديد من المناطق التي لم تكن النساء الكاتبات في ذلك الوقت قادرات على مساسها؛ ومهدوا، من خلال ما شكلوه من رموز ثقافية وإبداعية، لظهور جيل من الكتاب والكاتبات الذين وجدوا فيهم نماذج مؤثرة وجديرة بالاحتذاء؛ فبحكم احتكاكهم المباشر بالواقع، وحرية الحركة المتاحة لهم وسهولة تواصلهم نسبة لما هو متاح للنساء، فقد كان بإمكان الكتاب والمثقفين أن يؤسسوا البنية الإبداعية المحرضة والدافعة بأكثر مما فعلت الكاتبات في ذلك الوقت.
’’إن قيمة (الأم الإبداعية/ الروحية) تحديداً تتعزز كون الأم هي الحاضنة، الرحم المبتدأ والملاذ الأقصى’’
وبنقل حيز التفكير، في ذلك المحتوى، من ضيق التعبير الاصطلاحي (إن صح اعتباره كذلك) وحدود المرحلة الزمنية إلى رحابة المشهد الإبداعي أو السوسيوثقافي وإلى وساعة المعنى العام، لن تختلف معي كثيرات في أن ظروف الإبداع لديهن لم تتغير كثيرا، وأن المرأة المبدعة أو المثقفة التي تحاول أن تكسب ذاتها ستجد نفسها، غالباً، أمام خيارات موجعة؛ وستتحول، كلما أمعنت في تحقيق ذاتها، إلى يتيمة تعيش وحدة موحشة. وغالبا، ستجد نفسها بلا أم روحية ولا حتى حقيقية. هذا إن نجت من التهم الأخلاقية والنبذ العائلي والاجتماعي. ولنتذكر كيف احتفت المجتمعات بأفلاطون وآرسطو وكيف أحرقت هيباتيا وقطع جسدها لتكون عبرة للنساء المخترقات النسق.
إن قيمة (الأم الإبداعية/ الروحية) تحديداً تتعزز كون الأم هي الحاضنة، الرحم المبتدأ والملاذ الأقصى الذي لا يُحتمل فقده أو حتى الابتعاد عنه؛ لكن الأم الحاضرة مع المبدعات هي دوماً الأم المانعة لا الدافعة؛ حارسة النسق والقيم الثقافية المتوارثة والتي تنتج جيلا بعد جيل لما يمثل نموذج المرأة عدوة نفسها وبنات جنسها (مع استثناءات تؤكد القناعة ولا تنفيها).
السؤال الأساسي الذي كنت أحاول الوصول إلى صياغة معبرة له: إلى أي حد، كان يمكن لوجود (الأم الروحية) أن يغير في الواقع الإبداعي النسائي المحلي؟ وما الذي اختلف الآن حتى صارت النساء أكثر جرأة وتماسا وتصادما مع الواقع؟ هل وُجدت تلك (الأم)؟ هل اهتدت المبدعات إلى (أمهن المُقنِعَة)؟ أو هل شكلت مكونات الواقع الجديد، طالما نتحدث عن (زمن الانفتاح)، أمهات بديلات أكثر إقناعاً من سميرة وهند وأمل وهدى الرشيد وأخواتهن من جيلهن أو حتى من أجيال لاحقة؟؟
هل جايلت المبدعة الجديدة أو المثقفة نتاج هؤلاء الكاتبات؟ وهل تضيف قراءتهن لها قيمة إبداعية أو فكرية فاعلة ومؤثرة أو حتى جاذبة؟؟ هل يمكن لكتابات أولئك الرائدات أن تسرق قليلاً من وقت الفضاءات المفتوحة على كل الأزمنة والأمكنة؟ ومن قواعد البيانات والمعلومات والمعرفة الميسرة من النت وما أدراكما ما النت؟؟ من العالم الجديد الذي يعيد اليوم صياغة رموزه وصناعة أمهاته وآبائه؟
إن العديد من الدراسات تؤكد أن (الرمز) في عالمنا المعاصر لم يعد له وجود. شغلت فراغ غيابه الصورة، والميديا، والإعلام، ودور النشر بتقنياتها الحديثة، وثورة الاتصالات المبهرة، ومكونات زمن الانفتاح التي مازالت تسهم، حسب تعبير نيتشه، بتغيير الشحنات الوجدانية وليس المحتوى العقلي وحده.
لكني، رغم قناعتي بأثر الحضور القوي والفاعل لكل مكونات العصر الحديثة، ما زلت أزعم أن وجود (الأم) كان سيحدث فرقاً كبيراً في كتابة النساء كما فعل وجود (الأب). كن ليكتبن رؤاهن، ذواتهن، حيواتهن، واقعهن، قيمهن، أنوثتهن عوضاً عن كتابة رؤى (الآباء) وذواتهم، وواقعهم وقيمهم.
ليس لدي دليل أبسط من أن ظهور رواية بسيطة لكاتبة مبتدئة كرجاء الصانع سنة 2005، أحدث ما يشبه الزلزال في وعي القارئات والكاتبات وإخوتهم على حد سواء. إذ أخرجت شياطين الكتابة من مكامنها واشتعل المشهد المحلي بصخب الجدل حول الرواية، وتحمست الكثير من الكاتبات والمبدعات للنشر، وارتفعت حدة التعالق بالواقع ونقده والاشتباك معه في النتاج الروائي الجديد محليا، وظلت الرواية النسائية طافية على المشهد لفترة ليست قليلة.
هل يمكن الاعتراف الآن بأن رجاء الصانع كانت، بمعنى من المعاني، (أماً إبداعية)؟؟ أو على الأقل (شيطانة صغيرة) نقشت بصمتها الواضحة في زمن الانفتاح؟؟
ما علاقة كل ما سبق بعنوان هذه المقاربة؟؟
كان شاهداً بليغاً سأدع التفصيل فيه لمناسبة لاحقة، وهو تجربة الفنانة التشكيلية زهراء المتروك، وحكايا جدتها مريم التي لم تجد زهراء وسيلة أفضل دلالة لتجسيدها من وضعها في تابوت. تابوت يشبه ذاك الذي يصنعه لها المجتمع وتحبسها فيه الثقافة. في معرضها الشخصي الأول الذي وئد كما يُفعل بالنساء دوماً، على حد تعبيرها، وضعت زهراء جميع لوحاتها ونسائها في توابيت بليغة. ربما كانت تستفز بفعل الوأد تلك الجدة المقبورة لتستنهض فيها طاقة (الأمومة). طاقة الحياة والإبداع.