د. أيمن بكر – مصر
تدور في ذهني، الآن، مجموعة من الأفكار أظنها داخلة في تكوين مفهوم الأبوة الإبداعية في الثقافة العربية. بداية، هناك عدد من الأفكار يتصل بالحد الأول من المصطلح؛ وأعني مفهوم “الأبوة”. الفكرة الأولى هي الولاية، أي المسؤولية التي يحملها شخص(الأب) تجاه آخر أو آخرين(الابن/ الأبناء)؛ وهي مسؤولية تفترض وجهاً آخر لنفسها – بصورة تبدو بديهية – وهو العرفان الذي يجب أن يشعر به الابن/الأبناء. الفكرة الثانية هي السلطة التي تتأسس على الولاية السابقة، وما تمنحه من شعور بالتفوق ناتج من الوضع الأولي الذي تقوم عليه العلاقة: الأب (أعلى/ أكثر خبرة) في مقابل الابن (أدنى/ أقل خبرة). الفكرة الثالثة تتصل بالتفاعل الذي سيبدو ذا اتجاه واحد بين الطرفين؛ وهو التفاعل الذي يأخذ شكل إرسال له نكهة تعليمية، واستقبال أقرب إلى السلبية منه إلى التفاعل المتجادل المشرب بالندية.
أما الحد الثاني من المفهوم وهو “الإبداع” – كتصور ثقافي – فتتفاعل فيه مجموعة من الأفكار التي تبدو نقيضاً للأفكار السابقة؛ فالإبداع تتجاور فيه أفكار الخلق على غير مثال سابق، وخيانة القواعد المستقرة قدر الممكن وهو ما يمكن التعبير عنه بوصفه التمرد على سلطة النصوص المستقرة التي صنعت قوانين الأنواع الأدبية، واستيعاب التراث النوعي بهدف تجاوزه. وبغض النظر عن مدى واقعية تحقق الأفكار السابقة في المنتج الفردي أم لا، تبقى هذه الأفكار جزءاً من الجدل المتصل دوما بمفهوم الإبداع.
’’فكرة الأبوة الإبداعية هي في واقعها فكرة جدلية نظرية لم تجد لها في واقعنا الإبداعي تحققاً واضحاً’’
التحليل السابق يجعل من مفهوم الأبوة الإبداعية مفهوماً تناقضياً على نحو خاص؛ فهو يشير إلى تسلط يحمل مبررات مقاومته والخروج عليه، بما يعني مؤقتية هذا التلسط وكراهته. وهو مفهوم، أيضاً، يحاول خلق سلام موهوم بين توجهات متنافسة بالأساس وقد يصل تنافسها في ثقافات تحتوى طاقة عنف دفينة إلى حدود التناحر؛ إذ منذ متى كان الآباء راضين عن تجاوزات أبنائهم؟ ومنذ متى كان الأبناء المبدعون خاضعين لتصورات آبائهم عن الإبداع والعالم معا؟
مما يؤيد التناقض السابق أن فكرة الأبوة الإبداعية هي في واقعها فكرة جدلية نظرية لم تجد لها في واقعنا الإبداعي تحققاً واضحاً؛ فمن الذي يعترف بأبوة أحد له؟ ومن الذي لا يرى أنه أثر في الجميع، وأنه أب شرعي لكل من جاء بعده؟ ومتى حقق أحد الطرفين السابقين أغلبية مريحة تساند ادعاءاته؟
أحسب أن الأبوة الإبداعية هي حالة موهومة تحاول بها الثقافة العربية التعبير عن التفاعل الإبداعي بين الأجيال، لكنها تعبر من خلال شفرتها الخاصة؛ أي من خلال قيمها وأعرافها التي تميل إلى خلق تراتبية قيمية بين الأقدم والأحدث؛ بحيث يصير الأقدم دوماً هو الأولى بالحفاوة والتبجيل. الحالة التفعالية نفسها بين الأجيال تظهر في ثقافات أخرى عبر اصطلاحات مغايرة مثل “صراع الأجيال”، وهو المصطلح الذي ربما كان أكثر تعبيراً عن المجتمعات الرأسمالية ذات الأعراف التنافسية العنيفة أحياناً. يبدو لي أن فكرة الأبوة الإبداعية هي وليدة ثقافة يعيش أفرادها تحت ولاية الأب في مختلف المجالات.