أفضل دائما استخدام عبارة أن “المسرح جماع الفنون” عن استخدام عبارة “المسرح أبو الفنون”، وذلك لأنه تاريخيا قد خرج من رداء الشعر (الأدب)، ومع ذلك يظل “المسرح” هو أطول الفنون عمرا وأكثرها تأثيرا وقدرة على تحقيق تلك العلاقة المباشرة مع المشاهدين، تلك العلاقة التي تفتقدها جميع الفنون الأخرى بكل ما تملكه من وسائل حديثة للإبهار تسهل امكانية الوصول والتواصل مع المتلقي. ويحسب للمسرح باعتماده على لغة الحوار وعلى الحبكة الدارمية محكمة الصنع والتي يلعب فيها “الصراع” دورا أساسيا في تصاعد أحداثها أنه قد ظل طوال مسيرته القلعة الحصينة للحرية، وذلك باعتماده على صياغة وتقديم الرأي والرأي الآخر وتناول كافة وجهات النظر بما يحقق متعة فكرية كبرى تفتقدها جميع الأشكال والقوالب الدرامية الأخرى التي قد تهتم بدرجة أكبر بالشكل دون المضمون وبتفاصيل الأحداث الدرامية ومدى تأثر الشخصيات المحورية بها وتأثيرها فيها.
لذلك اتفق جميع المنظرون والنقاد بأن ظاهرة “المسرح” لا تتحقق إلا بثلاث عناصر أساسية وهي النص ومن يقوم بتقديمه (المرسل)، وجمهور المشاهدين (المستقبلين)، ثم المكان الذي يجمع بين كل من الطرفين الأول والثاني (وسيلة التواصل). وحينما أتحدث عن النص فإننا نعني “الفكر والمعالجة” بصفة عامة، فقد يكون النص كتب لعرض صامت “بانتوميم”، أو كتب في صورة “سيناريو” يصف المشاهد ويترك فرصة كتابة الحوارات لمجموعة الممثلين (التأليف الجماعي)، أو قد يعتمد بدرجة أساسية على الإرتجال وترك مساحات محددة لكل ممثل من مجموعة العرض (في هذه الحالة يتغير العرض بدرجة كبيرة كل يوم). وكذلك حينما نتحدث عمن يقوم بتقديمه لا نقصد فقط مجموعة الممثلين سواء ممثل واحد (مونودراما أو وان مان شو) أو مجموعة كبيرة من الممثلين، أو مجموعة الراقصين بالعروض الاستعراضية أو المطربين بالعروض الغنائية ولكن باتساع المفهوم ليمتد ويشتمل أيضا على عروض الدمى والعرائس أو حتى توظيف التكنولوجيا الحديثة “مثل استخدام وتوظيف الهولوجرام”. وبالنسبة العنصر الثالث المكان (أو المسرح) فإن مفهومه يتسع كذلك ليتضمن جميع الأماكن التي تسمح بتقديم العروض مع تواجد الجمهور، سواء كانت مسارح كبيرة تتسع لأكبر عدد من الجمهور (العروض الجماهيرية) أو قاعات صغيرة (للعروض التجريبية للنخبة)، وسواء كانت مسارح مغلقة أو مسارح مفتوحة في الهواء الطلق أو أماكن تاريخية أو أثرية يتم توظيفها – مع اتخاذ كافة الإجراءات للمحافظة عليها – لتقديم بعض العروض ذات الطبيعة الخاصة. وبالطبع تتعدد أشكال ومواصفات المسارح كثيرا منذ تطورت من المسرح الأغريقي والروماني (منذ أكثر من سبعة قرون) إلى تلك المسارح التكنولوجية التي تسمح بدوران خشبة المسرح أو هبوطها وصعودها أو بتحرك المشاهدين أنفسهم، وذلك بخلاف توظيف كافة الوسائل التكنولوجية الحديثة وخاصة في مجالي الإضاءة والصوتيات وإن بدأت بعض المسارح أيضا مغازلة حاستي الشم (بالتحكم في إطلاق بعض الروائح المعطرة المناسبة لكل مشهد)، أو اللمس والاحساس (بتغيير درجات الحرارة طبقا لطبيعة كل مشهد).
ولكن يبقى للمسرح جماله وتميزه وتفرده بتحقيق تلك العلاقة المباشرة مع المتلقي، الذي قام بدفع قيمة تذاكر الحضور في اتفاق ضمني بأنه مشارك أساسي في تلك اللعبة المسرحية، فهو يتوحد مع باقي المشاهدين الذين لا يعرفهم، ويتأثر معهم بجميع المشاعر والأحاسيس التي ينجح الممثلون في إثارتها وتوصيلها طبقا للمواقف الدرامية المختلفة، ولذا تتحقق أقصى درجات التواصل ويصل المشاهدون إلى أكبر درجات الإندماج في القاعات الصغيرة، تلك القاعات التي تتيح لهم فرصة الشعور بنبض قلوب الممثلين وبحبات العرق فوق جباههم، وربما يفسر هذا ارتفاع قيمة التذاكر في الصفوف الأولى بالمسارح على خلاف الوضع في القاعات السينمائية.
والنقطة التي أود التأكيد عليها في هذا الصدد بأن جميع الأشكال والقوالب المسرحية بتعددها والاختلافات الكبيرة فيما بينها لا يمكنها أن تحقق النجاح المنشود دون الاعتماد على نص محكم البناء ويتضمن خطاب درامي واضح وجاد، فبدون النص الجيد يتحول العرض مهما كان ممتعا إلى مجموعة تابلوهات غنائية أو رقصات واستعراضات أو اسكتشات كوميدية يضيع تأثيرها فورا بمجرد انتهاء العرض دون أي تأثير حقيقي في وجدان المشاهد، ولكن قيمة العروض الحقيقية تتحدد بمدى قدرتها على إثارة خيال المشاهد وإثراء وجدانه وأيضا بقدر ما تثيره من قضايا تجعله يعيد تفكيره وحساباته وترتيب أولوياته في كثير من الأمور التي تحيط به، أو بتعبير آخر ترتقي به فكريا وتسمح له باسقاط كثير من الأفكار والمعاني على حياته المعاصرة ومشاكله الحياتية.
وبرغم الأهمية القصوى للنص المسرحي بوصفه العمود الفقري للعرض المسرحي فإن هذا لا يقلل أبدا من أهمية دور المخرج أو باقي العناصر الإبداعية الأخرى، فكما سبق القول بأن المسرح هو “جماع الفنون” الذي يجب أن يحقق كل من المتعة السمعية ولبصرية، وذلك عن طريق تكامل جميع عناصر “السينوغرافيا” (الديكور، الملابس، الإكسسورات، المكياج، الإضاءة.. ) مع الموسيقى والألحان والمؤثرات الصوتية.
وإذا كان من حق كل مبدع أن يحرص على تقديم رؤيته الفنية التي تتكامل مع إبداعات باقي الفنانين والفنيين تحت قيادة المخرج فإن من حقه أيضا أن يحاول تقديم الجديد أيضا، ولكن مع الإلتزام بأن يكون هذا الجديد لا يتناقض مع الرؤية العامة للمخرج أو مع الخطاب الدرامي للنص. وهنا تبرز على الفور قضية “التجريب المسرحي”، والذي يعد مجرد محاولات متتالية لتحقيق تواصل أكثر مع جمهور المشاهدين، فلا تجريب بدون هدف ولا تجريب لمجرد الاختلاف واثبات المهارات، ولكن التجريب الحقيقي هو نتاج معاناة من مشكلة ما يحاول المبدع إيجاد حلول مبتكرة لها، كالبحث عن كيفية التعبير عن قضايا مسكوت عنها، أو البحث عن فضاء مسرحي مغاير، أو كيفية التوظيف الأمثل لخامة ديكورات جديدة أو أجهزة إضاءة حديثة، أو التوظيف الجيد لتكامل مجموعة من الفنون مع توظيف التقنيات الحديثة لتتضافر مع المشاهد المسرحية، المهم أن يكون الهدف الأساسي هو تأكيد المعاني والأفكار بالنص وتحقيق المتعة للمشاهد دون تشتيت أو افتعال.
ويجب التنويه إلى أن تقديم العروض عن طريق تصويرها وبثها عبر الشاشات أو شبكات النت (أون لاين) هو مجرد حل مؤقت أو حيلة اضطرارية للتغلب على مرحلة التباعد الاجتماعي والعزل الانفرادي بسبب وباء وجائحة “الكورونا” الخبيثة، ولكنه وضع لا يمكن استمراره تحت دعوى الحداثة ولغة العصر، وإلا فقد المسرح أهم سماته ومواصفاته وهو هذا اللقاء الحي والحيوي بين الجمهور ومجموعة المشاركين في تقديم العرض.
وأخيرا إذا كانت مسيرة المسرح العربي بفضل الرواد الثلاث (مارون النقاش بلبنان، وأبو خليل القباني بسوريا، ويعقوب صنوع بمصر) قد تجاوزت حاليا قرن ونصف من الزمان فإنني أرى أنه قد آن الأوان بضرورة الوصول إلى ملامح حقيقية للمسرح العربي، ملامح نابعة من فنوننا وتراثنا وعاداتنا وليس مجرد استنساخ للتجارب الأجنبية، بحيث يصبح لنا مناهج ومدارس وأساليب إخراجية تميز مسرحنا العربي. فيجب ألا ننبهر بعد الآن بعروض المسرح الراقص ومسرح الجسد وألا نهمل مسرح الكلمة والمسرح الشعري والمسرح الغنائي والذين يمكن تقديمهم بصور عصرية تتناسب مع مزاج المشاهد العربي وذوقه بمختلف الأقطار العربية الشقيقة.