المسرح ومأزق الوجود والتأثير

جدل - تكاملية المسرح

0 247

الدكتور جبار خماط حسن – العراق

المسرح طاقة تأثير مجتمعية لها القدرة على إعادة التناغم المفقود في النسيج المجتمعي بين الأفراد والبيئة المحيطة، على نحو معالجات إبداعية تتجاوز الخاص /النخبة، إلى العام / الجمهور. وإذ نجد تراكم الخبرة المسرحية في وعي الشعوب التي عرفت المسرح لدى أوروبا وشرق آسيا، فإننا نجدها، تنعكس إيجابا على السلوك اليومي والايمان بالآخر شريكا في صناعة المساحة الصديقة ذات البعد الثلاثي، الانا – الآخر- البيئة، هذا المثلث الإنتاجي هو الذي يحقق تأثير المسرح بالمجتمع، اما نحن أمة العرب، فإننا عرفنا المسرح منذ قرن ونصف، وقد كان على هامش الحضور الثقافي المجتمعي؛ إذ نجده في الملاهي، أو محاصر بالخطاب الديني الكنسي، وهو ما قيد الخطاب المسرحي ليكون بين الخاص / الملاهي، والعام / الكنيسة، لهذا لم نعرف فرقة تجولت في المدن في عروض انطلقت من حاجات الجمهور وتطلعاته، الا في الربع الأول وما بعده من القرن العشرين، هذا التراكم المحدود اجتماعيا – بإزاء عمر المسرح الطويل عالميا – لم يسمح للمسرح العربي ان يكون عضويا، يتمكن من سحب الجمهور – على تعدد طبقاته – وجرهم إلى العرض المسرحي طواعية !

يعاني المسرح المعاصر مأزق الوجود والتأثير المجتمعي، بسبب القائمين على المسرح، تجدهم يقدمون للجمهور نصوصا لا ناقة لهم فيها ولا جمل! ولهذا ينبغي التفكير بمعادلة الإنتاج والتأثير، بعيدا عن الوصفات النصية بمقاسات أوربية! ثم ماذا يعني تسيد الحمى الرقمية والافتراضية في بيئة ما زالت ما زالت متأخرة في فهم ما يدور من حولها في واقع رقمي يتطور بسرعة عجيبة! إنها مفارقة التشكيل الفكري والفني للعقل المسرحي العربي! يقولون ينبغي أو من الضروري، انتاج مسرحا عربيا في فكره ومعالجاته الاسلوبية، في حين حمولته داخل العرض، ترف بصري سمعي وحركي، يتناقض مع بيئة الفقر والجحود السياسي الذي ألقى بظلاله على واقع الشعوب العربية! اننا في عالم متناقض اوجد لنا عروضا مسرحية مشوهة او حادة الطباع بحجة التجريب المبالغ به حد التخريب!

ان المسرح مشروع يتعاضد فيه الفنان والمجتمع على قاعدة ظروف الواقع، فإذا نسيه تركك الجمهور وحيدا او على اقل تقدير، تدور انت وجماعتك التجريبية وبعض الأصدقاء من جمهور النخبة! أي مأزق يعيشه المسرح العربي؟، غياب الأسئلة الملحة التي تتناول واقع شعور وأفكار الناس، مما أوجد فجوة كبيرة، بين المسرح والجمهور، فما نجده في المسارح أعدادا قليلة تحضر كل مرة مع تغير العروض، ولا أمل او فرصة لمجيء ذلك المواطن القابع على هامش المجتمع أو الحياة، المسرح ليس ترفا، بل ضرورة تشاكس الواقع بأفكار جديدة وأصيلة يتفاعل معها الجمهور.
المسرح له طقوسه ومقاصده التي تختلف عن السينما في الفكر والمعالجة، فالمسرح علامات حية تعيش في الهنا والآن، وهي تتطلب مثلما يقول بروك، ممثل وفضاء خال لكي يكون الأداء فاعلا ومؤثرا. فالمخرجون دوما يؤكدون على الممثل، بوصفه علامة كبرى تعيش على خشبة المسرح ولهذا لا يمكن إلغاء حضوره المباشر وإيجاد بديل هولوجرامي، لا يحضر الا مع الشاشات الكبرى وهنا لا نكون في عروض مسرحية بل في كرنفال جماهيري له أهداف ربحية وإعلامية محددة، وكلنا يتذكر (جوردن كريك) حين قال لا بد من استبدال الممثل بالدمية، حتى أصل الى دقة الأداء، ونبتعد عن تقلبات مزاج الممثل الذي قد يؤثر على أداء الشخصية على نحو مؤثر ومقنع.

بيتر بروك قدم مؤخرا مسرحية (Why)  او (لماذا) .. لم يستعمل تقنيات بصرية او رقمية بل اكتفى بلون المصابيح كأداة للكشف، واعتماده – باهتمام عالي – على الممثل والكلمة التي تفاعل معها الجمهور، لماذا لا يلجأ بروك او غيره الى التقنيات الرقمية؟ الجواب، لأنها ببساطة تهمش حضور الممثل الحي، وتجعل منه ظلا باهتا امام سطوة وحضور التقنيات الرقمية. الأمر الذي يدفعنا الى التأكيد على حضور الممثل كفعل جمالي مؤثر.

إن ما يحصل الآن من مسرح وسائطي يستعمل تقنيات العرض وسائل الاتصال الجماهيري من تلفزيون وفيديو كبديل افتراضي عن العروض الحية ، الذي اجده تسطيحا لحضور الممثل ينبغي أن يفكر بالممثل موازنا إبداعيا لتلك الوسائط حتى لا يتحول العرض إلى وجبة بصرية لا تمكث طويلا في الذاكرة طويلة الأمد، وأعتقد أن المسرح في العالم بعد كورونا ، سيعود إلى أصول الفرجة المسرحية الطازجة من فضاء مفتوح واحتفال جماعي او فردي يحققه الممثل الحاضر الحي في الهنا والان، فالهزات النفسية والاقتصادية والتواصلية، بينت هشاشة البناء المادي التي حرصت دول العالم على التنافس للوصول إلى واقع بيئي أكثر تعقيدا جعل من الإنسان غريبا وسط التزاحم في التنافس الاقتصادي والسياسي الذي وصل إلى إشعال حرائق الحروب في مناطق كثيرة في العالم، ولهذا أجد أن النسق الثقافي في العالم سيتغير في العالم بسبب كورونا، هذا الانتقال من المادي إلى الروحي ومن الانفصال إلى الاتصال الإنساني، تحققه حضارة الإنسان وليس حضارة الحجر الأصم!

ان مفهوم الاتصال الثقافي الذي يقول ان البيئة الثقافية تتأثر بالظرف الضاغط على الإنسان، اذ تتغير سلوكياته وأفكاره تبعا لهذا الظرف! وما إعلان أدارة مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، ان تكون دورة 2020 اون لاين، إلا تأكيدا لتغير واقع الحياة الثقافية بسبب كورونا.

اننا نعيش تحولا ثقافيا سيعود بنا قريبا إلى تأكيد النص، أساسا أصيلا في بناء العرض المسرحي، بعد أن نسيه الكثير من المسرحيين بحجة المسرح الافتراضي والرقمي! العودة إلى الروائع من النصوص العالمية ذات البعد الإنساني يتيح لنا العودة إلى الروح الجماعية المتوازنة التي يحققها المسرح الحي بعناصره السمعية والبصرية والحركية. إنها أفكار المسرحي تجري بين الناس حين تمسهم في عمق الوعي والوجدان، هذا المسرح يستعيد ثقة الجمهور بعد أن فقدناه بحجة التجريب المبالغ حد التلغيز، الناس يفرون من المسرح باتجاه التلفزيون والسينما ومواقع التواصل الاجتماعي والإذاعة، نجد المسرحيون يشعرون بأنهم في واقع رخو، غير مستقر، إذا كيف نستعيد الجمهور بعد أن فقدناه؟ نستعيده بالكلمة الطيبة ذات البعد الإنساني والمعالجات المسرحية التي تتوازن وتعبر عن هذا البعد الإنساني، بوصلة المسرح بعد كورونا ستتغير من حمى التقنيات الرقمية، إلى الممثل والفضاء الخالي الا من الضروري المنظري، لأن كورونا بمثابة الصدمة الكهربائية لقلب توقف أثره؛ بعد محاولات عاد الى نبضه المعهود. سيكون الإنسان مركز الخطاب ومعالجاته، بالتالي أجد أن المسرح، سيعود عضويا في حياة الناس بعد كورونا.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.