سُوقُ حَجْر اليَمَامَة

فصل من رواية (خان جليلة)

0 53

ماجد سليمان – السعودية

سُوقُ حَجْر اليَمَامَة

دخلوا بنا حَجْراً من بوابتها الـجنوبية الـمصنوعة من جذوع النخيل، فارتفع لـحظتها صوت الـمؤذن من منارة الـمسجد الـجامع، وساروا بنا في طريق طيني طويل، مـخترقين حارات صغيرة، متوغلين في عتمة بدأت أنوار الفجر في تفتيتها، حتى غازلت أنوفنا رائحة البخور والدقيق الـمخبوز، فإذا نـحن بباب سوق حَجْر ورنين عذب لـمهباشٍ ينطلق من البيوت الـمجاورة، يتقطع مرَّة ويتواصل مرَّات، كانت أيد كثيرة تطحن حبوب الـهيل أو القهوة بعد حـمسها، توالت ضربات يد الـمهباش أفقياً وعمودياً، تراوحت بين هدوء وقوة كأنـها تدون نغمات خاصة.

وما أن ابتسم الصباح حتى صَفَّنا في قلب السوق، بعد أن توافد الناس، وارتفعت أصوات الباعة، وتدافعت ركبان التجارة، وازداد الصخب والزحام فنادى بصوته القبيح مكّرراً:

ـــ بالسعر الذي ترونه، بالسعر الذي ترونه.

ومضى يترقب القوافل الوالـجة إلى ساحة السوق، لعله يظفر بدفعة جديدة، وحين كشف الصباح وجه الـحياة الـجليّ، وصل هودج عَرَّافة اليمامة، فاستبقنا كلنا ثـم استدرنا حولـها نسألـها عن مصايرنا، فأشارت لـخادمها الأسـمر القصير الدميم، والذي كان في ثياب ناصعة البياض، وعمامة رمادية أحكمها على جـمجمته بشكل لافت، فأناخ راحلتها وهبطت من هودجها، وبعد صمت سارت تـجاه حوانيت العطارة يتبعها النخاس ونـحن حوله لتقف في صمت مريب، ثـم خطّت على التراب خطاً طويلاً مستقيماً وسكبت عليه الـماء ثـم أمرتنا:

ـــ قِفُوا خلفه.

فدفعنا النخاس بشدة، فتدافعنا حتى اصطففنا خلف الـخط الترابي الرطب، واتسعت حدقتا عينيها الكبيرتين، وراحت تـحملق في وجوهنا الذابلة التَّعِبة ومقاسات أبداننا الذاوية، ثـم ضغطت بسبابتها اليمنى صدر أوَّلنا قائلة:

ـــ ستباع لتاجر أقمشة من العقيق.

وتابعَتْ ذلك على البقية:

ـــ ستباع لرجل من حاشية الأمير.

فتقدمت إلى التالي:

ـــ ستباع لسيدة من نساء الفِلْج.

وتقدمت إلى التالي:

ـــ ستباع لشيخ من شيوخ منفوحة.

وتوقفت عند التالي:

ـــ ستباع لرجل من شرطة جَــوّ.

وحين جاء دوري توقفت قليلاً، ثـم أخفضت يدها دون أن تشير إلي:

ـــ وأنت!

نظرت في البقية وهم ينتظرون أين سيأخذني مصيري، فلكزتني بعصاها:

ـــ ستباع لسيدة من فاضلات حَجْر.

وابتَسَمَت بفمٍ داكن اللثة متساوي الأسنان عدا اثنان مائلان على البقية، ولكزتني أخرى:

ـــ وسيأتيك الـخير في خدمتها ومن بعدها.

ثـم صمتت قليلاً وضربت الأرض برأس عصاها الـمعقوفة، وعلقت عينيها في عينيّ:

ـــ الـحظ يركض خلفك.

وانـخفض صوتـها:

ـــ الـحظ يركض خلفك.

سألني العبد الـمقيد عن يساري:

ـــ ما صنعتك؟

ـــ ناسخ.

ــــ ناسخ؟

ـــ هي كذلك وأنت ما صنعتك؟

ـــ حداد.

ثـم سألت الذي بـجانبه:

ـــ حداد أيضاً.

ـــ لا. أقوم على دبغ الـجلود. (قال لي)

فاستدارت بقية الرؤوس وهم يُـجيبون تباعاً:

ـــ اسكافي.

ـــ طَحّان.

ـــ حـمّال.

يومها، باع النخاس كل العبيد إلَّاي، ففاح صدر الـجديسي غيضاً، فالـمساء غير بعيد ولـم يبقَ من عبيده الـمُحضرين للبيع عداي، فأيقنت كل اليقين أني لن أُباع، لأن الـحُرَّ لا يُباع، وأن الـجديسي سيملّ الانتظار في السوق، ويتركني لـحريتي أو يُعيدني معه إلى جَــوّ.

ومع حلول العتمة بعد وقت طويل من الانتظار والعرض الـمُلح على العابرين لشرائي، وقف سيدي الـجديسي أمام ناقته الفرعاء، الـمعقولة عند مدخل السوق، وفي عينيه بريق الفرح بالكسب من وراء بيعي، كنتُ حينها ناعساً متكئاً على باب حانوت الطحّان الـخشبي، وفجأة حلّ قيدي آمراً:

ـــ انـهض.

ـــ ما الأمر سيدي؟

ـــ انـهض وستعرف.

وقفت كالـمتفاجئ بعد نعاس ثقيل، لـحقت به وأنا أساوي ثيابي، وأتعثر لأُدخل قدميّ الضخمتين في نعليّ الـمتمزقين، وألـحق بسيدي على عجل.

شعرت بالـحرج من نظرات الباعة والـمتجولين والعابرين وهي تـخترقني وكأني عارٍ بلا أثواب أو مـجدور مُعدٍ، في حين ظل سيدي يسرع في خطاه، حتى وقف ملاصقاً حوانيت بيع الدقيق والـحبوب، يداه مضمومتان إلى بعضهما، وقد مالت رأسه على الـحائط الطيني وعيناه تنظران يـميناً كمن ينتظر موعداً تأخر صاحبه.

قدمت إليه سيدة نـجدية عرفتها من هيئتها، بـملامح جِديَّة، ترفع بيدها اليمنى مصباح الزيت، تتبعها اثنتان تبدوان من خدمها أو فتياتـها، تلبس مِقْطَعاً أخضر من الـحرير الـمطرز بالزري الذهبي، أحد الألبسة الشهيرة في نـجد، يـحيط به حزام ذهبي، وتضفي على رأسها خـماراً أسود زاهياً، وكل واحدة من فتياتـها تشدّ حول وجهها خـماراً شديد السواد، فلا يبدو من وجهيهما سوى مقلتين لامعتين، وترتديان ثياباً فضفاضة، لـم يتحدث معها سيدي طويلاً، فقد راح يقرأ لـها من قرطاسٍ مـمزق الأطراف، وهي تنظر في الأرض وكأنـها في تفكير عميق، ثـم اتسعت دائرة الصمت وطالت عنق حيرتي.

التفتت إليه، والنسوة ينظرن من وراء كتفها بأعين غارقة في الأسئلة، وراحا يتحدثان مع بعضهما وهـما يشيران إلي بأعينهما، فدنى من سـمـعي ما يدور بينه وتلك السيدة:

ـــ يرعى الإِبل؟

ـــ يرْعى الإِبل.

ـــ ينقلُ الـماء؟

ـــ ينقلُ الـماء إِلى أيِّ مكانٍ تُريدين.

ـــ يـُجيدُ الـحصاد؟

ـــ يُـجيدُ الـحصاد بالتأكيد.

ـــ قليلُ الطعام؟

ـــ قليلُ الطعام أيضاً.

ـــ عاصٍ أم مُطِيع؟

ـــ عاصٍ في حالاتٍ قليلةٍ لكنه في غالب أمره مُطيع.

أشارَ إِليّ:

ـــ وسترين منه ما يسرُّكِ.

ـــ ما اسـمُه؟

ـــ أبو النجاة.

ـــ جـَميل، أأنت أَسْـميتهُ أم جاء حاملاً اسـْمَه؟

ـــ جاء حاملاً اسـْمَه.

ـــ حتى لا أنسى، مِن أيِّ البلاد جلبْتَه؟

ـــ مِن جَــوّ اليمامة حين ندبني أميري إليها في الشتاء الـمنصرم، هو مقطوع النسب ومـجهول الأهل، كنا وقت الغزوات قد استكثرنا من شراء العبيد، وأكثرهم من أسرى الغزو، فقد أُسر في غزوة قُرب جَوّ، حين كان يصنع النبال للفرسان، وسيق مع الغنائم، فبيع لي بدرهـمين فضيين، ونباله بدرهم واحد، وبغلته بأربعة دراهم نـحاسية، وعمل في خدمتي لشهور.

ـــ يوم اشتريته، ما حجة الأول في بيعه عليك؟

ـــ ينشغل عن أوامره بكثرة الـخط والنسخ.

ـــ وأي صنعة أو عملٍ يُـجيد عن غير الـخط والنسخ؟

ـــ الزخرفة وسرعة الكتابة.

ـــ سأشتريه منك بـعشرين درهـماً فضيّاً، هل تبيعهُ بـهذا الثمن؟

سَكَت وأطال النَّظَر ثـم أجاب بعد أن أومأ بنفاذ صبر:

ـــ بِعْتُكِ إيَّاه بـعشرين درهـماً فضيّاً.

فأقبل علي مهرولاً وحلّ عمامتي وفك الـخنجر مِن حزامي:

ــ اذْهَب يا أبا النجاة فَأَنْتَ خادمها من الليلة.

فدفعني من كتفي وسرت خلفهن، أردف حينها بـجملة ساخرة لـم أسـمعها جيداً، وكأنه قال:

ـــ اذهب لا رافقتك السلامة.

فشتمته بنظراتي غير أني لـمْ أفه بـجملة، ثـم أسرعت في سيري خلف سيدتي إلى بيتها الواقع في خان جليلة، مُتابعاً الزخرفة الـجصية البيضاء على سطوح البيوت، وأسفل منها قطرات ما بقي من مطر البارحة، تلمع تـحت ضوء القمر، وهي تقطر من مزرايب قدر ذراع وذراعين، خشبية وأخرى من الـجذوع الـمجوفة أو الـحديد.

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.