عبود الجابري حين يعمّر بيوته
عبود الجابري الشاعر والمترجم المولود بالنجف الأشرف في العام 1963، والذي أنهى دراسته الأكاديمية في المجال الطبي (علوم التمريض)، عاصر في عراقه حربين طوال الثمانينات ومطلع التسعينات، قبل أن تدفعه بداية الحرب المضمرة التي فرضها الحصار إلى هجرة إلى الجار الأردني في العام 1993؛ وبعد أن كان حاضرًا في المشهد الشعري العراقي كأحد أصوات قصيدة النثر، انخرط في عمّان حيث ما يزال مستقرًا في حياتها الثقافية، مترجمًا وكاتبًا ومشاركًا في فعالياتها الأدبية والثقافية، ويصدر فيها دوايينه الخمسة: فهرس الأخطاء 2007، ويتوكأ على عماه 2009، ومتحف النوم 2012، وفكرة اليد الواحدة 2015، تلوين الأعداء 2017.
منجز عبود الجابري الشعري اللافت لانتباه القراء عبر أدوات اشتغال شعرية أعطت نصوصه فرادة تدل على كتابة لها خطها الخاص. هذا المنجز، بالإضافة إلى أطروحة فراس ازهر عبد الرزاق بعنوان ” قصيدة النثر عند عبود الجابري : دراسة اسلوبية” التي نال بها شهادة الماجستير بكلية الآداب بجامعة الكوفة، هذا المنجز تناوله عدد من الباحثين والنقاد نذكر منهم على سبيل المثال:
- الدكتورة خولة شخاترة،: عبود الجابري بين سطوة الماضي وخيبة الحاضر، صورة الأب وأفول للشاعر،
- االمترجم والناقد قحطان جاسم: الشاعر العراقي عبود الجابري والكتابة بعيون طفل!
- الكاتب إياد نصار: قراءة في تجربة عبود الجابري الشعرية، الشاعر بين فهرس أخطائه وقمصانه الشعرية
- الدكتور جاسم محمد جاسم، التعريف تقانةً شعريةً قراءة في ديوان (يتوكّأ على عماه) لـعبود الجابري،
- الناقد علاء الحامد، الاشتغالات السيميائية في ديوان ” فكرة اليد الواحدة “
- الدكتور حاتم الصكر: “متحف النوم” لعبود الجابري.
وهنا، تختار سماورد مجموعة من القصائد كتبها الشاعر في فترات مختلفة، لكن يجمعها (البيت). من خلال هذه القصائد يمكن تتبع ما تحمله هذ المفردة بغناها المتنوع على مستويين من العلاقات: الأول في علاقة الشاعر بـ(البيت) بكل معانيه المتنوعة ودلالاته المتباينة، وربما إلى علاقة أكثر تخصيصًا عند تضييق الدائرة بالعلاقة مع سكان هذا (البيت)، ومكوناته مثل الباب والنافذة والسور أو حتى الصورة المعلقة على جدار؛ المستوى الآخر هو علاقة (البيت) بمحيطه الخارجي وما يجاوره من أشخاص وبيئة، والتي سيختلف مفهمومها ضمن سياقها الشعري وفق الحالات التي ولدت فيها. باختصار، عبود الجابري، حين سئل في إحدى حواراته عن البيت الذي يتكرر في قصائده ، قال بأنه يتحدث عن بيوت كثيرة يناجيها ويناغيها، قبل أن يضيف :” كل بيت عندي في قصائدي له معمار معين؛ معمار البيت هو الذي يحيل القارئ إلى صورة البيت الذي أتحدث عنه”
أجملها
أجمل البيوت
ذلك الذي لاعنوان له
هاديْ
كنسرٍ متعبٍ
يهبط بمظلّة
وبعيدٌ مثلَ سهم ٍ
أطلقه الله في لحظة غيظ
مامن شارع صاخبٍ
يفضي إليه
ويستريح في حديقته
وليس له تسمية مضحكة
في دفتر سعاة البريد
أجمل البيوت
ذلك
الذي تسكنه امرأة وحيدة
تنتظر رجلاً
تخذله الأبواب والمدن
وحين يتعب
،ينام هانئا
تحت جناح قصيدة
في مهب البيت
بيتي
ليس بعيداً عن يد الله،
فالبيتُ يمكن تعريفه بلا لغةٍ
قد يكون قطّةً توغل في المواء
فيجلدها الجوع
عند باب مغلق
وقد يكونُ صوتَ ارتطام كرة
بقدرٍ فارغة،
يمكنُ للبيت أن يخرج
من جسد رجل
يموتُ على ناصية الشارع
فتحفّ به الملائكة،
البيت أغنية ناقصة
مالم تفرش حجراته بإيقاع أنينك
البيت، بيتي
صورةٌ في دفاتر الصبّاغين
في اللوحات المائية
تسيحُ ألوانها تحت مطر الخطايا
في قلم رصاصٍ
يضعه النجّارون خلف آذانهم،
البيت، بيتي
سماءٌ بلا إله
وقافلةٌ من الملذّات
تتمطّى في عضلات الفكّين
لا هُوَ بالضاحك
فأستعيده في لحظات الأسى
ولا هو بالباكي
فأقاسمهُ وجوم نوافذه
بيتٌ
يسكن في الحديقة
يفكّر بطريقةٍ
يجزّ فيها عشب ساكنيه
ويرسم أرجوحةً
بين غصنَي ياسمين ذابلين
البيت، بيتي،
يتسلّق سوره كل صباح
ويمضي في نزهته اليومية
بين قطعان بيوت
متخمةٍ بالعشب الأخضر
وزلال الرخام
ثم يعود ليفترس
ما تبقى من صورته
في خرائطِ ضيوفه القدامى.
****
إبراهيم الذي توشك النار
أن تحنو على جسده
لم يفعل شيئاً
سوى أنّه بنى بيتاً
وأسكن روحَ خالقه فيه
***
ليس بوسعي
أن أعمّر بيتاً
على أنقاض قصائدي
فقد نام أولادي
أيها المحسنون
يامن أغرقتم حياتي بالأسمنت
تأويل المنــــزل
على عتبة الباب
تمسح الشوارع عن قدميك
والوجوه من راسك
وتنتبذ جرحا فتيـــــــا
- اسكت يا ولد
فثمة شوارع تتربص بك
وسماء دافئة تسكن عيني
- ابعدي البنت عن المدفأة
****
ثمة نخلة يحدودب ظهرها بانتظارك
وجسر يعبره الصبية
فيسقط اسمك في النهر
-ماذا أحضرت من السوق ..؟؟
ثمة أخطاء
لم ترتكبها بعد
وثمة سرير ما يزال مبعثرا
وأوراق طرية الحبر
ثمة أصدقاء عالقون على شفة الموت
وآخرون لم توقظهم بعد
ثمة أنت هنـــاك
تمدد ساقيك
وتنهر أبناءك
كي ينهضوا
مسرعين إلى المدرسة
نافذة شحيحة
لا تعجِبُني المنازِلُ الفسيحةُ
فأَنا معتادٌ على ضِيْقِ العالَمِ
حيثُ يسمَعُني البعيدُ،
ويقولُ لي القريبُ :
ويحَكَ
ألمْ تشبَعْ بعْدُ منْ زلزلةِ نومِنا
بنشيجِكَ المكرورِ ..؟
ومنْ نافذةٍ شحيحةِ الضَّوءِ،
اعتَدْتُ أنْ أرسِمَ امرأةً
ونتراكضُ
حتّى آخرِ نبْتةٍ خضراءَ
في حَقلِ الضَّوءِ
ثمَّ نقولُ :
لوْ أنَّكِ كنتِ أكثرَ إتِّساعاً
أيَّتُها النافِذة ….
صورة الأب
تلك هي صورة الأب ….
تقبع في غرفة الخزين
بأطارها الذهبي….
وألوانها الحائلة….
أبٌ… بكامل هيئتهِ…
القميص الذي باض عليه الذباب
وربطة العنق….
تغفو تحت ساقِ المروحة العرجاء
ونصف ابتسامةٍ
أتى على ما تبقى منها …. عفن الجدار
غير أنه أب …. بكامل موتهِ
يحمل صولجانه….
وصورته البهيّة
الى مسكنه….
المؤثث بكل ما تنازل عنه أبناؤه البررة
” مدفأة خاوية من الزيت
وبضع قنان فارغةً
وملابس ضاقت بأجسادهم
وكيس من الكتب المدرسية القديمة
هو بكامل هيبته أيضاً
يجلس صامتاً
يسمع خفق نعالهم
وتأوّه زوجاتهم
والماء المنسكب في الحمّام
ويشمٌ ….
ما يصدرُ عن المطبخ
من رائحة الطعام….
أبٌ قديم جّداً
لا يصلح لزيارة ذوي القربى
أو للأنفاق في أولِ الشهر
“ربّما يصلح لشتم ِ ذرّيته ساعة ينام”
ولكنّه على أيّة حالٍ …. أبٌ
يقبع في غرفة الخزين الرطبةِ
يمتدحه أبناؤه في الأعياد
وتذكره زوجته ….
كلّما عضها وجع التذكر….
أبٌ يغزو الظلام مفاصلَه
فيحضن صورته….
ويموت
بيوت خائنة
قطعتُ قلوباً عديدة
ولمّا أصلْ بعدُ
إلى بيتي
القلوبُ بعيونها المغمضة
بيوتٌ خائنةٌ كذلك
مقطع من نص بعنوان (DNR) Do not Resuscitate
ماذا لو كانَ لك بيت؟
أكنتَ ستطرقُ بلهفةٍ
كلَّ هذه الأبوابِ المغلقة؟
أكنتَ ستفعلُ
ما أفعله كلَّ مساء؟
حين أطرقُ بابَ بيتي
لأسألَ عن صوتِ المغنّي
الذي يتناهى الى سمعي
وأقولُ: يا الله
كم يشبهُ صوتي
هذا الأنين
كم يشبهُني هذا الصوت
الذي يسكنُ بيتي
وكم باباً عليَّ أن أطرقَ
كي أهتدي إليه …؟