جحيمُ المناديل
آلاء أبو تاكي-السعودية
مكّة في الصيف حريق يجعل كل الأشياء مائعة. وقت أذان الجمعة.. لا تتوقف أذنه عن التقاط صوت خفق الأقدام المهرولة. تسبيحاتٌ تتقافز من أفواه عديدة، حركة الأقفال التي تتوالى الأيادي عليها بتكّةٍ واحدة جماعية على امتداد الدكاكين، حفيف الشراشف المعتقة وهي ترتعش في الهواء قبل أن تغطي البسطات المتفرقة، محركات السيارات التي تتوقف عن هديرها تباعاً، وهو .. بعد أن تتوقف كل الأصوات من حوله، يمسكُ حنجرته المبحوحة عن الصراخ خلف كل حركة: كلينكس .. الله يخليك اشتري كلينكس .. كلينكس بريالين .. اشتري كلينكس.
يتحسس أقرب جدارٍ إليه .. ثم يستند عليه، ماداً ثوبهُ تحت قدميه علّه يخدع حرارة الأرض التي تلسعه.
كانت الشمسُ جدول حريق يعبرُ رأسهُ الأقرع الصغير. يفتح أحد أكياس الكلينكس، يخرجُ منديلاً يمسح به أنفه، ثم يطويه ليجفف عرقه الصيفي البارد.
رغم حرارة الجو كان يشعرُ بأن كل مسامه تتنفس، ودّ لو يستطيع أن يعبّئ هذا الهواء في جيوبه الممزقة، ففي الحجرة الضيقة التي يتكدس فيها الأولاد الثلاثون .. كان التنفس محنةً ليلية مع رائحة العرق والدخان والأفواه المعتّقة بالجوع لآخر عمرها.
كان الجدارُ الذي يؤمّن له ظلاً آمنُ عليه حتى من قلبِ أمه، حاول أن يتذكرها .. أن يتذكر صوتها الذي يهدهدهُ تحت سقف السماء: دوها يا دوها .. والكعبة بنوها .. بير زمزم شربوها .. سيدي سافر مكة .. جاب لي زنبيل كعكة…. فكّر في ملمسِ أصابعها النحيلة وهو يتشبث بها، في رائحتها المُربكة بين زيت وردٍ رديء ورائحة مشمسة لن يخطئها أبداً. تذكر كل هذا، لكنه لم يرد أن يتذكر كيف تفحص الرجل الضخم عينيه بغلظة ليترك مبلغاً ظلت أمه منشغلةً بحسابه دون أن تهديهِ عناقاً أخيراً وهو يُحشرُ في السيارة ذات الأسلاك الحديدية مع عشرات الأطفال الآخرين. كان الولدُ الذي يستندُ للجدار يفكّر في أنّ الجدار كان أمهُ الوحيدة التي لم تخنه، والمناديل أُسرته التي ستداري وجهه عن كآبة شمس هذه البلد.
على الرصيف المقابل..طفلٌ كحليّ البشرة يدسُّ جسده الضئيل في ثنيات عباءة أمه السمينة الجالسة أمام “بسطةِ” مسابيحٍ بلاستيكية ملونة، و”بكلات” شعر، وأقلام شفاه مائعة، وصور للكعبة بإطارات صدئة الأطراف، وسيارات معدنية متفاوتة الأحجام كان يدغدغها الولد بقدميه وهو مختبئ داخل أمه. تبعد الطفل متأففة.. ضائقة به، وبالحر الذي يجعل برقعها يلتصق بوجهها الأسمر.
تحرر الغامق من أمه ما إن رصدتْ عينه الطفل المقابل والمحاط بجنّة مناديل تهفهف على وجهه، ركض عبر الشارع وفي ثوبه الذي ربطه على خصره دزينة سيارات بألوانٍ برّاقة .. وأمّه تلعنُ وترعد وتزبد، وتقعدها سمنتها الكارثية عن اللحاق بركضه السريع.
ما إن وصل .. بسط السيارات وسحب يد الآخر التي تكرمش منديلاً ذائباً ليضع سيارةً، افترت شفاهُ الأقرع عن ابتسامة دهشة، أخرج منديلاً جديداً وبدأ يربت على كل سيارة بحنان بالغ، ماسحاً أجزاءها برقة.
بحذر بدأ الأقرع يبتعد عن جداره ليتخذ موقعه في اللعبة، وعلامةً على بدء سباقهما المتواضع، وضع رأسه بمحاذاة بلاطات الرصيف الساخنة يقرب السيارة من أذنه، يحركها للأمام .. وللخلف، يطمئن لسلامة صوت عجلاتها..ثمّ يدفعها بأقصى قوته..ويركض خلفها حتى يغيب صوتها ويظهر صوت الكحليّ صارخاً بغضب مفتعل إذا سبقتْ سيارة الأقرع سيارته..فيطيّر حينئذٍ منديلهُ احتفالاً، ويخفضُ المنديل ذاته ما إن يتعالى صوت الكحليّ بغناءٍ احتفاليٍ لا يفهم منهُ شيئاً سوى فشل سيارته .
بعد دقائق قليلة انفض الناس من صلاتهم، المهرولون خارج الحرم فراراً من الزحام تعثروا بالمنمنمات المعدنية التي تركض تحت أرجلهم، تطايرت اللعنات .. والصرخات الغاضبة .. لكنّ الطفلين لم يتوقفا عن اللعب.
كان الأقرع يطيّر منديلهُ الأخير، ولم يدرك أن مناديله ستطردهُ من جنتها إلى جحيمها إلا في اللحظة التي سمع فيها قرقعة السيارات ببعضها البعض، وصرخة الكحليّ المرتبكة والبعيدة والخائفة جداً : وصل، وصل “أبو خلف”.
رجع بأسرع ما يمكنه إلى الجدار الذي كوّم علب الكلينكس عنده، أخطأ في مكانها عدة مرات، تحسس الجدار كمن يبحث عن عناقٍ مستحيل، وصار قلبه الصغير كسمكةٍ تائهةٍ في حوضٍ وهميّ.. أخذ العلب بسرعة وركض في الاتجاه المعاكس صارخاً بصوت مرتجف: كلينكس..تشتري كلينكس؟ الله يوفقك اشتري كلينكس.
تخيل اليدين الضخمتين تقبضان عليه فارتعش جسده رعباً، أمسك بثوب أحد المارة الذي اصطدم به متوسلاً: كلييينكس اشتري مني كلينكس. دفعه بيده متقززاً من مظهره، هرولَ إلى آخر وصوت الخطى القاسية التي تخدش الرصيف يتضخم في مسامعه، صرخ باستماتة: الله يخليك اشتريه..لازم تشتري كلينكس. لم يجد جواباً لأن الرجل خلفه كان قد أمسك به بالفعل.
زمجر: تلعب يا ابن الكلب!
تساقطت دموعه وجسده يهتز مع اهتزاز يد الرجل على قفا ظهره، وتأتأ بشيءٍ غير مفهوم.
صرخ مرة أخرى: وتلعب بالكلينكس، بفلوسي وحلالي يا ملعون.
راقب الكحلي بعينين منطفئتين “أبو خلف” يجر الأقرع من ثوبه ويكيل له صفعةً كل خطوة بينما يؤرجحهُ صوت أمه : دوها يا دوها .. دوها يا دوها.
في عينيه كان الظلام أشدّ من كلِّ مرة.في جيبه العلوي أضاءت الشمس طرف السيارة المعدنية وطرف الدمعة التي وصلت للتو..إلى ذقنه. وفي الكون الذي أثثه الله، عادتْ الشراشف تطير والأقفال تفتح والسيارات تهدر، والبسطات تبرق تحت وهج الشمس التي لم تشرق على نافذة عماه أبداً.