نصر سامي – تونس
دائمًا في التّاريخ البشري، ثمة أزمات، وكوارث، وفظاعات؛ فهو تاريخ حروب، وهو ذاكرة طويلة من الدّماء، وحتى تاريخ الحداثة؛ هو تاريخ فظاعات، وقد بني على ذاكرة دموع الكهّان، والقساوسة، والصّراع البروتستانتي الكاثوليكي، ممّا جعل، فولتير ولوك، يكتبان رسالة في التّسامح؛ لأنهما وجدا أن التّسامح وحده، كفيل بتحرير البشرية من عدد الضّحايا المريع؛ فالأمل: هو هذه الفكرة القوية، التي نتشبّع بها، وليس ذلك بدافع اليوتوبيات الحمقاء.
د. أمّ الزّين بن شيخة المسكيني
يحفر الغضب عميقًا في لحم الرّواية. وهو غضب عاتٍ، ومدوّ، ورافض، ومرميّ بسكاكين الخوف الصّدئة، ومعروض مثل سيل من اللّعنات الحقيقيّة، تتحوّل الرّوايات بموجبه إلى ساحات عراك، وبعضها إلى أغورا كبيرة لا يخرج منها أحد سالمًا. يصبح الرّوائيّون ساديّين ومازوشيين، ويمعنون في عرض الأجساد المنهوشة والمقتولة والمغيّبة والمسجونة. وفي هذا العرض يصبح الغضب شجرة تضرب بعروقها في العمق الخفيّ للوجود. ويستدعي الكتّاب تراثات القسوة والعنف، ويتمّ تصريفها تصريفًا يضمن تغذية الغضب ليصير لهبًا. ولعلّ رواية عناقيد الغضب للروائي الأمريكي جون شتاينبك هي أكثر الأعمال تعبيرًا عن جبروت القحط، والجفاف العظيم، وعن سرابيّة الحلم الأمريكي، وعن الأحلام التّي دمّرها الكساد الاقتصادي. وتتغذّى الرّواية مثل وحش أسطوريّ من هذا الغضب الذّي يجد مبرّرًا له في أرض الفقر والناس المطحونين وشرائح المعدمين والمهمشين. وبما أنّ الرّاوي منهم فلقد استطاع بذلك أن يغرس في تربة الأدب الأمريكي صرخة غضب كشفت بشكل فنّي لافت حقيقة المجتمع الأمريكي في عيون سائس حضيرة سابق، وقاطف فواكه، وبنّاء أسود يتعرّض إلى أشدّ أنواع الميز. وفي فصولها التسعة تعرض الرّواية الذّوات الغاضبة عرضا واقعيًّا، تسمعهم، تدخل معهم إلى القيعان، حيث الآلام، وحيث القسوة، وحيث الحرمان، وحيث الإنسانيّة الملطّخة بسمّ اللّون والهويّة والجنس، ودون أن تشعر، يتسرّب إليك غضب عاتٍ، يغذّيه الكاتب بمشهديات مقرفة قذرة تبرز “العار المرسوم على جبين كمشة من الأوباش الجشعين”. وداخل هذا الغضب هناك خوف، بل تاريخ من الخوف يتسلّل من كلّ فعل، ومن كلّ حركة، وثمّة استبطان للهزيمة، وتوجّس وريبة، وهناك في العمق الخفيّ حديقة آلام يمعن الجميع في اعتبارها واقعا قدّره اللّه. تعقد في عناقيد الغضب حبكات كثيرة، تتحوّل فيها العين إلى كاميرا غاضبة، متنطّعة، تكاد تطلق الرّصاص، وفي غير رحمة يضع الرّوائيّ يده على ما ينخر الشّخصية الأمريكية من داخلها، ويعيد التّذكير بسرابية الحلم الأمريكي، ويكشف أنّ الأسود ليس مواطنًا، بل مجرّد تابع، مستغلّ، محروم، يناضل لينسى تاريخ عبوديته الطّويل وما ترسّب في قيعان ذاته من تراث الخوف والإلغاء والوحشية. وبين الغضب والخوف ينكشف الوحش الرابض في الشخصية الأمريكية، ويعرّى الحيوان السّاكن في الدّواخل، ونرى الحقيقة حيث الشرّ يتلبّس بالوجود.
تراثات الخوف كثيرة، وهي غالبًا تحضر بشكل لا واعٍ، وتخترق المسرودات كلّها، ففي كلّ نصوص الحريّة نستشعر صنوفًا من العبوديّة، وفي كلّ النصوص المطالبة بالحقوق نلمح تاريخا طويلا من غياب الحقوق، ويتحوّل الغضب الغريزيّ البشريّ إلى مفهوم فلسفيّ باعتباره علامة على الظلم الاجتماعي، ويصبح مناقضًا للإثم، وإن كان إيمانويل كانت يعتبره إثمًا حين يقترن بالانتقام. وبعيدًا عن المسألة الأخلاقية فإنّ للغضب في السّرد حضورًا يلقي بظلاله عليه. ونرى ذلك بوضوح في روايات هنري ميلر. إذ استطاع في أعماله الرئيسية مدار الجدي ومدار السرطان، فيما ما يشبه الأسلوب السير ذاتي، أن يجعل الغضب، ليس أسلوبًا فقط، بل قاعًا تبنى عليه الرّواية بأحداثها وشخصياتها ومكانها وزمانها. وأصبح الرّاوي الغاضب صنفًا من الرّواة، له طريقته في عرض العالم، بتفكيكه، وإعادة تركيبه من جديد. روى ميلر يأسه، وفشله الأدبي، ورحيله إلى باريس، وجوعه، ونومه على الأرضية، ومعاناة زوجته لدعمه. وظهر كواحد من الشّعب، وكتب حياة الأرصفة والدكاكين والمشاجرات والقمار والفساد بأنواعه، وقدّم لأوّل مرّة تاريخ السّواد الذّي لم يجرأ أحد على كتابته من قبل. وأتى بأدب جديد غير مصفّى، وسخ، وغير صحّي، يشبه أحياء بروكلين، وجعل سرده قاسيًا وجنسيًّا يشبه أولئك القساة الذّين تمتلئ بهم شرايين المدن الآسنة، ولم يتردّد أن ينظر في القيعان وليس في الواجهات الزّجاجيّة، وكتب بتلك الرّوح المهجّنة التّي هي سليلة تزاوج ألماني أمريكي، ونسج قماشاته السّرديّة بأسلوب الخيّاط المغرم بمشاهدة كوميديا السواد والقسوة. وفي ذلك كلّه حفر غضبه حفرا بسكّين.
موجع هو ومخيف وساديّ، ولا يهتمّ بأخلاق المواضعات الاجتماعية التّي تكرّس ما هو سائد. وهنري ميلر يستبطن في أعماله تراثات الخوف. وغضبه غضب مرمي برصاص الذّعر، الجميع في سرده مصاب بشيء ما، الجميع متّسخ، وملوّث، وفاسد، وجنسيّ، وجسده وليمة مهيّئة للبيع والشّراء والنّهش، ما من شيء خالص صاف رقيق ناعم أبيض في رواياته، بل هي الإنسانية وقد سلخ الراوي قشرتها، وكشف جوهر القطران والزّيف والآلام فيها، في هذا السّرد العظيم نرى الدّنيا مجروحة، يائسة، قانطة، محصورة في الرّكن، ونرى الإنسان السّائب المطلق من عقاله بجميع ما فيه من أنياب وأظافر، الإنسان بسمّه وسواده، بنجاساته، وطينته المحروقة، يعرض لأوّل مرّة في الواجهة. يرمي بنا ميلر في الهوّ، بقسوة، يخبرنا أنّ الخوف لم يصبح تراثًا، وأنّ الوحش كامن في تبن الأيّام، وأنّ الأرض الجديدة ليست غير أرض للكراهية والحقد الأسود.
تصبح مجتمعاتنا بمرور الوقت مجتمعات مذعورة. ينوّر فيها نبت الخوف، ويطلع أزاهيره الشريرة. ولقد تغذّت ثقافة الخوف بنزعات سلطوية في تراثنا التربوي والاجتماعي والسياسي، ولقد مرّت البشريّة من الخوف إلى التخويف، وأنتجت المرحلتان أدبيات سرديّة شديدة الغنى والتنوّع، وأنتج ذلك تاريخًا من المحن مثّل وما يزال يمثّل نظمًا تتعاظم كلّ يوم، وتعيد إنتاج نفسها، لتمعن في السيطرة على البشر وتدجينهم داخل أسوار الخوف. وهذا ما نجده في رواية 1984، لجورج أورويل وفي غيرها من أعماله. و1984 رواية مكتوبة في ظلال المخاوف، والمراقبات، تستقرأ بغضب عصرها، وربّما لذلك اختار لها بطلا يسمّى وينستون سميث، موظف وزارة الحقيقة، المكلّف بالدعاية ومراجعة التاريخ، وتغيير الحقائق التاريخية لتوافق ما يعلنه الحزب، ويقوم بعمله بمنتهى الدقّة، لكنّه في أعماقه يبغض هذا العمل، ويحلم بإضرام النّار فيه. وفي هذه الرواية التّي تعتبر كلاسيكية الحبكة والأسلوب أنتج أورويل واحدة من أكثر الأعمال الغاضبة في تاريخ السّرد، وكشف الخداع والمراقبة وتلاعب الأنظمة الشّمولية بالتاريخ. تزخر الرواية بجوّ سياسي محتقن وضاغط، تشبه معسكرًا، كلّ شيء فيه بحساب. أكثر المواضيع ورودًا: الحرب، الرقابة بأنواعها، التلاعبات، المقاطعات، الملاحقات للفردية وللتفكير الحرّ، التجريم، الأخ الكبير، الطغيان.. ويعلو داخل هذا السّجن حقد دفين، ويتعمّق الوعي بأنّ ما يحدث ليس عادلًا، وليس بشريا، ويتمّ في العمق الخفيّ كشف نظم الاستبداد وتكميم الأفواه من داخلها، بعرضها عرضًا يفي بغايات الراوي. قبل هذه الرواية أبدل جورج أورويل اسمه ثلاث مرّات، فسمى نفسه ب. س. بورتون، وكينيث مايلز، وه. لويس، وبدا يشيع اسمه الرابع جورج أورويل بديلًا نهائيًا عن اسمه الحقيقي إريد آرثر بلير. هل هو الخوف ما دفع به إلى غابة الأسماء هذه؟ لا يدري أحد. الخوف هو قطن هذه الرواية، يلفّها بقوّة، ويطلع من جميع عروقها، ويطرح ثمره فيها، خوف دفعه أيضًا إلى تغيير عنوانها من “آخر رجل في أوروبا” إلى اسمها الحالي الغريب الذي يبدو بلا معنى، فزمن السّرد في الرواية هو الفترة الممتدة بين 1980 و1982، أما 1984 فزمن لا وجود له إلاّ في ذهن الكاتب! والخوف من الموت بمرض السلّ الذّي أصيب به وهو يكتبها، في بيته الرّيفي في إحدى قرى اسكتلندا، والخوف على حياته بعد حادثة غرقه الشهيرة، والخوف من تماس عمله السرديّ مع مجالات عمله الأساسية، إذ كشف بضراوة الفساد المستشري في دواليب الإعلام حيث كان يعمل. ولقد كتبت الرواية بكاملها وهو مراقب بسبب أعماله ووجهات نظره وطريقة حياته. والخوف في الرواية ليس ذاتيًا فقط، بل أنّ الكاتب استثمر تراثات الخوف في العالم المعاصر، واستمدّ مادته من الأنظمة القائمة في أوروبا وأمريكا من روسيا إلى اليابان. ويمكن لقارئ 1984 أن يلمح بسهولة أن الرواية تعيد إنتاج الواقع، بنفس مفرداته، مع لمسة خيالية فنتازية لإحداث التأثيرات المرجوّة، ومنها أدبيات الأحزاب الشيوعية. الغضب في هذه الرواية ليس غضبًا مشابهًا لغضب هنري ميلر، بل هو أقرب لغضب شتاينبك، والخوف فيها خوف لا يشابهه خوف في أيّ أثر أدبي آخر.
فكرة الغضب تكاد تكون قاعًا لكلّ إبداع، قاعًا ينبت فيه الأثر الفنّي، ويكبر. بعض الكتّاب يعلنون غضبهم بطريقة استعراضية مباشرة، لكنّ بعضهم الآخر يجعلون منه قماشة طيّعة ويحاولون فوقها أن يرسموا الحقيقة بألوانها الحقيقيّة. ويتسرّب للنصوص تراث ملازم للغضب، تراث أسود، مخيف، مسكوت عنه، ضارب في القدم، هو تراث الخوف، الخوف الذّي ما يزال يلقي على الإنسانية بظلاله. تلقي هذه الفكرة بظلالها على الآداب كلّها، ولعلّ الأبواب الستّة لكتاب شارل بودلير أزهار الشرّ، تمثّل تجلّيًا شعريًّا حيًّا لها. ففي السّأم والمثالية، وفي لوحات باريسية، وفي الخمر، وفي أزهار الشرّ، وفي التمرّد، وفي الموت، وهي أقسام الكتاب. يطلّ الغضب بوجهه القاسي، ومن ورائه تتبدّى تراثات الخوف.