صياد الغروب: فن الركض في الخيال

0 670

شعيب حبّاشي – تونس

       صياد الغروب مأدبة سردية قدت من لهيب الشمس المسجى بباحة الخيال، للكاتبة أم الزين بنشيخة التي ركضت في خيالها صوب الأفق واصطادت الغروب بكمائن اللغة المكتظة بالشجن. وحولته من حدث فلكي إلى حدث روائي تعلن به العصيان الأدبي في وجه العالم وقد صار ركحا لمذبحة كونية. وترمم به شروخ وطن جريح كسفت شمسه فغرق في الظلام وطغت حروف العلة على قصته فأردته عليلا وخذلته حروف الجر فجار على أهله وجرهم إلى حافة الكارثة كما تجر القرابين إلى الآلهة القديمة. تزدحم الكوارث في الفراغ هازئة بأنات البشر وهم ينزفون تحت سكاكين القدر فتتمرد الساردة ويشتعل السرد في قلب الحدث كشرارة من نار في لج الليل وتتكفل صواعقه بتوثيق المشهد، ويتبدى الأدب كمأساة. مأساة شخوص صرفتهم دروب الدهر إلى ما وراء العدم وحولتهم إلى كيانات مبتورة، فخبأتهم الكاتبة في جلد الرواية ليكتمل نموهم كما اكتمل نمو ديونزيوس في جلد زيوس. منهم من ضجر بقصته فحملها ونام في جوف الأرض، ولم يعد دورانها يعنيه، فنفضت عنه الكاتبة غبار العدم وأعادته إلى الحياة. ومنهم من غربت شمسه في غيهب الغسق وسطا الصقيع على قلبه، وتحول إلى ركام من الثلج. فوضعت الكاتبة قصته في ثنايا الرواية وهيأته لشروق جديد. ومنهم من لا قصة له فنسجت له قصة متوهجة من خيوط الشمس. ومنهم من أضاع قصته وسار في الأرض بحثا عنها ولكنه ضل الطريق فاخترعت له طريقا من شراسة الكلمات وأعادته إلى الحلم. ومنهم من فقد القدرة على السير وراء قصته فاحتضنته داخل دمها. وصنعت له من الاستعارات أجنحة وجعلته يحلق في الأفق. وأهدته من الأسماء صياد الغروب.

صياد الغروب رواية بوجهين وجه واقعي إلى حد الإبداع ووجه خيالي إلى حد الإمتاع امتزجا فشكلا صرحا من الواقعية السحرية أحكمت الكاتبة هندسته بخطة سردية ممنهجة حيث إنبنت الرواية على الواقعي والمتخيل من جهة الأماكن والشخصيات والأحداث.من جهة الأماكن سافرت الرواية إلى أماكن عديدة حسب إحداثيات القص ولكن أغلب الأحداث دارت في مكانين. المكان الأول هو جزيرة قرقنة أو سرسينا وهي مدينة تونسية قرطاجية التأسيس يدل اسمها حسب ما يذكره المؤرخ اليوناني هيرودوت على أشجار الكروم والزياتين. أما المكان الثاني فهو مدينة القمامة أو مزبلة الكتب وهو مكان  خيالي.

   لقد انبنت الرواية على شخصيات رمزية منفلتة من اعتباطية الدوال أو هكذا أرادتها الكاتبة إذ أن كل اسم يحيل على معنى ما أيوب، وردة، كوشمار، فرح، أحلام، هند وكل الأسماء التي تسللت إلى صفحات الرواية. أيوب فنان فوتوغرافي قست عليه الأقدار وأقعدته على كرسي متحرك فتجرع مرارة الصبر وانتبذ مكان على شاطئ بحر جزيرة حالمة. يصوب  كل يوم عدسته نحو السماء ليلتقط صور الشمس قبل أن يبتلعها موج غاضب يفاوض الجزيرة على الرحيل. تقول الكاتبة “هو أيوب له من صبر الأنبياء مهارة اختطاف الشمس عند غروبها” وهكذا كان أيوب يداري قلقه النفسي وغروبه الخاص ويرى من خلال عدسته أحلام أخرى ممكنة بعدد صور الغروب التي يلتقطها كل يوم وبجمالها أيضا بعد أن يمزجها بشعلة خياله. فانتزع باقتدار مجاز صياد الغروب.  أما وردة فهي أخت أيوب ويحيل اسمها على الجمال أو هي فينوس الرواية وفانوسها أيضا لما تعد به من حب وإشراق. وهي مختصة في صحافة الكارثة والأدب الروائي أوهي الكاتبة ذاتها وقد تقمصت دورا في الرواية لتحاصر الكوارث وتحولها إلى عجين سردي مزعزعة تقليد الحياد الروائي. أما كوشمار فهو شخصية مركبة يحمل من الأسماء كوشمار وعبد الباقي وعماد وبيكاسو القرقني، ومن الذكريات رؤوس مذبوحة وحبيبة تاهت في أعماق قلبه كطيف لذيذ. وهو فنان تشكيلي قدم من رواية ‘طوفان من الحلوى في معبد الجماجم’ تلك الرواية التي أوفت بوعودها في شطب الغيوم ولكن الغيوم مثل البشر تتناسل وهو ما يقتضي أن تتناسل الروايات واللوحات التشكيلية كأشكال لمقاومة الكوابيس ومعانقة الفرح بوصفه غاية الغايات. ولكن ماذا لو تعذر إدراك هذه الغاية؟ تجيب الكاتبة عن هذا السؤال الوجودي من خلال شخصية فرح وهي زوجة أيوب قبل أن تصبح رئيسة مدينة القمامة أو مزبلة الكتب، ذلك المكان الخيالي الذي كشفت من خلاله الكاتبة عن الذي جعلته الكاتبة ساحة للقصف الفلسفي الساخر ضد النوابت الحزينة. فرح هي شبح سردي والأشباح كما تعرفهم الكاتبة “هم العائدون من الموت بسبب موتة ظالمة” وهكذا فإننا نتحدث عن موت الفرح في ميلاد الحزن أو بالأحرى نتحدث عن جدلية الفرح والحزن إذ هما متقابلان في مستوى الشعور ولكنهما متلازمان في مستوى المفهوم لأن الفرح ليس إلا حالة مؤقتة بين زوال ألم وقدوم آخر ولكن يحدث أن يظل المرء سجين آلامه وهذا ما ينطبق على فرح حيث تقول الكاتبة: “هي لها من الأسماء فرح ولا نصيب لها منه يذكر ويحمد”. ولعل ما ينطبق على فرح ينطبق علينا نحن كذلك فنحن سجناء آلامنا على نحو ما وأشباح سردية أيضا على نحو ما فكيف نتحرر من سجن أحزاننا؟ لقد عرف برغسون الحياة بأنها مقاومة للموت وعلى هذا النحو يمكننا تعريف الفرح بوصفه مقاومة للحزن فكما لا يمكننا تصور حياة بلا موت لا يمكننا أيضا تصور حياة بلا حزن. لأن الحزن هو بوابة الإنسان العظيمة نحو الفرح أو كما تقول الكاتبة “وحده الألم الشديد يساعدك على الارتقاء بالحياة إلى مرتبة الحلم” وأن نرتقي بالحياة إلى مرتبة الحلم يعني أن نأمل بالفرح. يقول شكسبير “الأمل بالفرح يوازي الفرح ذاته” وهكذا يكون الفرح بمقدار الأمل ويكون الأمل بمقدار الخيال والحلم. فمتى تعطل الحلم تعطل الفرح. ولهذا فقد جعلت الكاتبة شخصية أحلام ترفل على وشي الرواية، وهي جنية تزوجها أيوب بعد أن هجرته فرح. ولقد بينت الكاتبة من خلال هذا القص العجائبي أن الإنسان يظل سجين غروبه الخاص إذا توقف عن الحلم وعليه أن يحلم ويتقن فن الركض في الخيال حتى لا يتحطم إلى شظايا. ولهذا حافظت الكاتبة على شخصية أحلام لأن الوجود يصبح عدميا من دونها حيث تقول “لقد سمحت لك بقتل كل إناث الروايات القديمة: سارة وياسمن وأقحوانة وميارى وفرح. لكنني لن أسمح لك بقتل أحلام”.

     لم تكن فرح هي الشبح السردي الوحيد في هذه الرواية بل هند كذلك فهند هي شبح مركب ولغز الرواية فهي تقفز من اسم إلى آخر ومن قصة إلى أخرى في سرد عجيب يتأرجح بين الماضي والمستقبل وبين الواقع والخيال ما جعل الرواية تغادر نسق الحقيقة الخطية إلى تعدد الحقائق. وكأن الكاتبة تدعو القارئ أن يفكر بنفسه في هذا الشبح المعقد إذ لا أحد يملك حقيقة مطلقة بشأنه وهل يمكن امتلاك حقيقة المعقد! خاصة إذا كان هذا الكائن المعقد هو الإنسان. يقول أوكتافيو باز “يمتاز كل فرد بالتفرد لكن كل فرد يحمل في داخله أفرادا عديدين لا يعرفهم” ولقد بدت شخصية هند حاملة لكل شخوص الرواية بكل تطلعاتهم وهواجسهم وجامعة لكل المتناقضات من الفرح والحزن والحلم والوهم والصبر والضجر والحب والعدوان والخير والشر. وهكذا كشفت الكاتبة عن حقيقة الإنسان بوصفه كائن ملغز وغامض ومتغير ومنفلت من أي حقيقة.

أم الزين بنشيخة

   لئن أضفت استضافة الأشباح على الرواية بعدا عجائبيا وجماليا فإنها لم تقطع مع الواقع بل عادت إليه لتستنطقه وتضع كهوفه المظلمة تحت ضوء الشمس وتنتصر بسحرية الخيال لكل من مات ظلما في دروب واقع أغرب من الخيال. من مات مسموما، من مات مكلوما،من مات معدوما. من مات غرقا، من مات شنقا، من مات حرقا.من مات مغدورا، من مات مذعورا، من مات مقهورا. من بقي على قيد الحياة ولكنه عاش مبتورا. هكذا أصبح الواقع مسرحا للعويل الملطخ بالدم فتهم الساردة بشطب العدم ويتحول السرد إلى طقس جنائزي وتتحول الرواية إلى قيامة ما قبل القيامة لتسائل الواقع من خلال الأشباح؛ بأي ذنب أزهقت الأرواح؟ لقد تتبعت الكاتبة في دهاليز الرواية كل أشكال القتل. وتطرقت إلى ظاهرة الإجهاض من خلال أحداث سريالية حيث رسمت بأسلوب خيالي ساحر مشهد حوار الأجنة الذين أدركهم الغروب دون أن يحظوا برؤية الشمس. ومن خلال هذا المشهد كشفت عن الخلفيات العميقة لهذه الظاهرة. كما أنها اخترقت من خلال شخصية هند ظاهرة الأيتام أو مجهولون النسب لتبين معاناتهم وهم ممزقون بين الخوف من المستقبل ونبذ الآخرين لهم لتقول لنا أن هؤلاء ليسوا مجرمين بل ضحايا. هم ضحايا قدر ظالم وضحايا المجتمع أيضا. وككل الآدميين لهم حق اصطياد الغروب.

   صياد الغروب عنوان يتعدى حدود التوصيف المجازي إلى الدلالة الرمزية فصيد الغروب على نحو ما هو صيد الشروق. وأن نصطاد الشروق يعني أن نشطب الظلام ونقاوم سواد الواقع. تقول الأسطورة اليابانية أن “أماتيراسو” إلهة الشمس اختبأت داخل كهف خوفا من “سوسانو” إله العواصف الذي أخذ يعبث بالسماء فدخل الكون في ظلمة موحشة فكان من بقية الآلهة أن أقاموا طقوس الرقص والضحك وأخرجوها من الكهف وحرروا الكون من سطوة الظلام واستبداد العواصف. لقد انتهى عصر الآلهة وها أننا نعيش مأساوية أسطورتنا البشرية على نحو مشابه. فمن يحرر العالم من قبضة العدم؟ أن نحرر العالم من قبضة العدم هو أن نحرر أنفسنا من عدميتنا الخاصة ونواجه بعنف هول العواصف بالرقص والضحك يقول دوستويفسكي:”إن كنت ترغب في التغلّب على العالم بأسره، تغلّب على نفسك.” “سوف تحترق، وستخبو، وستُشفى وتقف على قدميك من جديد. قد يبدو هذا الأمر صعب من وجهة نظر هشاشتنا البشرية ولكنه ممكن من وجهة نظر الإنسان الأرقى. إنسانا لينا كالنار لا يأبه الحرائق، مرنا كالماء يتناثر قطرات ثم يتجمع ثانية ويواصل السيل، شديدا كالصخر يزيده تلاطم الأمواج صقلا. إن الفن يرتقي بنا إلى هذا المقام فلقد مكن الفن الفوتوغرافي أيوب من الصمود النفسي والوقوف على قدميه ومكن الفن التشكيلي بيكاسو القرقني من شطب الكوشمار بداخله ومكن الفن الروائي وردة من اختراع الربيع بأسلوب ساحر بديع مدجج بالآمال وفن الركض في الخيال.

 

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.