عن عوليس، والجميلات الناثمات، وألف ليلة وليلة، والديكامرون، ودون كيشوت، وظل الريح
أبناء الرّياح
تصدير:
-قاسم: إنّي في يدك، وليس لي خيار.
-ألماسة: مازلت في التّجربة يا قاسم، لا أريد أن أتخاذل أو أنكص. أعرف أني خاسرة، وأنّ هذه الصبوة مستحيلة في بلد كلّ النّاس فيه عبيد ومساجين. ولكن ما زلت أرغب أن أكون بحراً لا بركة آسنة. لا أريد أن يملكني أحد، وليتني لا أملك أحداً. الكلّ يريد أن يضع خاتمه عليّ، وأنا أريد أن أظلّ طليقة بلا أختام. لم أجنِ إلا تفاهات أو مباذل. نعم، إنّي خاسرة، ولعلّي لم أعرف كيف أميّز أشواقي. ولكن لن أتراجع، وسأظلّ أطارد هذا الحلم. الحلم بأن أكون بحراً لا يحتجز، ولا يفسد ماؤه.
سعد اللّه ونّوس، طقوس الإشارات والتحوّلات
لم تعش شهرزاد حياتها الطّويلة تلك، ولم تنجب أبناءها، ولم تصبح الرّاوية الأهمّ في تاريخ المرويّات البشريّة، إلاّ لأنّها التقطت من الواقعيّ اليوميّ الذّي عاشته، وعاشه أسلافها، ما يظلّ خالداً متوهّجاً في صميمه. بيديها لمست في النّار المتوهّجة فكرة النّار، وليس لهبها، وليس رمادها، ولا جمرها. واستطاعت أن تنشئ داخل اللّغة، لغة أخرى، لها طقوسها وإشاراتها وتحوّلاتها. وصنعت دون أن تعي المتخيّل الأكثر شعبيّة على الإطلاق. ومن قبل شهرزاد، ومن بعدها، صنعت جدّاتنا، دون أن يعلمن، متخيّلهنّ. وداخل هذه التّسمية التّي لم يعرفنها، زرعن صورهنّ الآسرة عن الأشياء الأعمق في الحقيقة. صنعن، وهنّ يروين، أمكنة أبقى من الأمكنة التّي نعرفها، لأنّها محميّة بالحكايات. وصنعن أزمنة فوق الزّمن؛ أزمنة، لا يطالها الاندحار، لأنّها موشومة بالحكي. وصنعن أبطالاً، يتحرّكون في فضاءات الحكي، بسهولة، قدراتهم تخترق المنطق واللغة والمستحيلات؛ وفيهم هشاشة الضّوء، وصلابة الفولاذ. أبطال يرضعون حليب الغرابة، لا يفسد ماؤهم، ولا تحتجز بحارهم. في الدّيكامرون، النّسخة الإيطاليّة من ألف ليلة ليلة، يستدعي الرّواة العشر، في حكاياتهم المائة، الجوهر الحقيقيّ للكائن، لا الأعراض. التقط الرّواة ما يبقى، وبنوا به داخل الواقعي، واقعاً متخيّلاً، له بناه وقوانينه. فلا الأرض أرض النّاس التّي ألفوها داخل الحكايات، ولا النّاس نفس النّاس الذّين ألفوهم، إنّما هو عالم ينهض، داخل عالم ينهدّ. فالرواة العشر يحتمون بدير، لحماية أنفسهم من حرب ضروس لا تبقي ولا تذر. وتحميهم حكاياتهم من الموت والبلى. يصبح المتخيّل أرضاً حين تضيق الأرض، وزماناً حين يضيق الزّمان، وقيماً حين تندثر القيم، أو تهدّد بالحرب أو الطاعون أو الجور أو غيره.
تخييل المرجعي، يحتاج غالباً إلى آليات منها التهجين، والأسلبة، والميتا روائي، والترميز، وهي آليات تجسّر العلاقة بين واقع مبذول للعوام، وواقع مفارق يظلّ يتجدّد باستمرار، ليس في الظّاهر، بل في العمق. ويظهر في اللّغة، وفي الصّور، وفي جميع التّمثيلات التّي يخضع لها الوجود. ففي رواية عوليس لجيمس جويس، عالمان. عالم واقعيّ يسجّله جويس بتقنية تيّار الوعي، بكلّ ما فيه من إباحيّة ووحشيّة وقسوة؛ وعالم ثانٍ موازٍ للأوّل، هو عالم ملحميّ مفارق للعالم الواقعي. يصبح فيه ليوبولد بلوم شبيهاً بعوليس، ومولي بلوم شبيهة ببنيلوبي، وستيفن ديدالوس شبيها بتليماك. وينشأ في الرّواية زمن فوق الزّمن، ويصبح ما هو واقعي مجرّد قماشة بسيطة في يد خيّاط ماهر في تفصيل المتخيّل، ويفرض المتخيّل سطوته على الرواية، ويضفي على بنائها المحكم، وعالمها المليء بصنوف متعددة من الشّخصيات، قوّة عجيبة، وتأثيراً بالغاً. يمدّنا المتخيّل في رواية جويس بنوع من التعطّش لحياة لا تنطفئ، ويمدّ أجسادنا، ليس بما هو ملذّ وعابر، بل بما هو وراء مبدأ اللذّة، بما هو جوهري، وصميمي في الوجود، وحيوي.
لا تنهض الرّواية إلاّ مزروعة في أرض واقعها، ناطقة بلغة أهلها، متضمّنة ثقافتهم ومختلف تمثّلاتهم الواعية واللاواعية لزمانها وماضيها. وهي تتضمّن في الغالب ثبتاً يمكن استخراجه عن التقاليد والعادات والنماذج والاعتقادات والجغرافيات والرؤى، التّي تكون موضوعات لعلوم أخرى. إنّ الاستشراق وجد في المرويات العالمية الكبرى مادته الأثيرة، وعلم الاجتماع وجد فيها مادته الخصبة، وعلم النفس، وعلم الجريمة، وغيره من العلوم. وانفتح ما هو واقعي على متخيّلات كثيرة. وانعجن بها، حتّى صارت جزءا منه، ينبت في صميمه، وليس شيئاً مفارقاً له. يصبح ما هو واقعي ظلّاً بعيداً، بل غباراً في أرض المتخيّلات. وفي تلك الأغبرة التّي تثيرها الأقدام اللامرئيّة لوقائع الوجود ينبت سحر الحكي، وتولد خصوصيّة السّرود الكبرى في التاريخ البشري. إنّ ياسوناري كواباتا في روايته الجميلات النّائمات، يعرّي عالم الرّغبات، ويستعيد أوهام شبابه المنقضي، وعبر الرّائحة واللّون، وعبر النّظر، والتأمّلات الباطنية الصّامتة يغوص في أغوار النّفس، ويبحر في الدّواخل، وتحملنا الرواية إلى تراثات غائرة موشومة في السّكون، ويسترجع أجساد عايشها، وهو منسحق تحت فكر الموت والشباب والجنس والحبّ، ليس باعتبارها خبرات شخصيّة، بل باعتبارها تمثّلات لمتخيّلات شرقيّة حول الرّغبات المعطّلة، التّي تقترن بالمخاوف الخفيّة من العجز والفقد والنّهايات الأليمة. بطل الجميلات إيغوشي عجوز، لكن لا يزال يجري في دمائه ماء الرّغبة، يقضّي ليلة في منزل ريفي، إلى جانب مراهقة بديعة الجمال. فكرة كهذه، ليست في الرّواية العربيّة إلاّ مشهداً لذويّاً جنسيّاً إغرائياً تجاريّاً بلا قيمة، لكنّه عند صاحب الجميلات النّائمات مدخل واقعي لتدفّقات المتخيّل النّفسية، واستعاداته اللذويّة. يعود العجوز بعد تلك اللّيلة خمس مرّات أخرى، وفي جميع تلك المرّات، لا يفعل شيئا غير التذكّر. يستعيد حياته، وعبرها يستعيد حياة جيله، ويستعيد حياة بلده. يصبح السّرد رقيقاً ناعماً شبيهاً بأنفاس تلك الجميلة النائمة. تمرّ الحياة أمامه، في مشاهد شديدة الكثافة. تتوقّف البنت عن كونها إشارة للحياة، بل تصبح تجسّداً للموت الذّي يطوي كلّ الموجودات. وكاواباتا لا يهتمّ بما يعلو الجلد من أمارات وندوب، بل ينسرب إلى الغور الخفيّ، ويعرض ذاته، لا كما عاشت، وسارت بين النّاس، بل كجسد مخترق بالمتخيّلات. هناك بالقطع ظلال خفيفة للواقع، لكنّها مجرّد ظلال! ينفتح مسرحها على عجوز وحيد يراقب جسد فتاة عارية، غريبة، كأنّها ليست يابانيّة، فتيّة، ذات أنفاس ثقيلة، مغريّة. تنتهي دون مواجهات واقعيّة، بل بانسحاق البطل أمام الوطأة الضّاغطة للوجود. وموت الفتاة المفاجئ في النّهاية، ليس غير إشارة إلى موت كلّ ما هو حيّ في إيغوشي، وإيذاناً بأنّه قد أصبح نهباً للفقد والوداعات والغياب.
تعتمد المرويّات طرقاً متعددة لسرد مضامينها، وهي طرق بعدد الروائيين الجيّدين، وفي جميعها يحضر المتخيّل في هيئة الواقعي. ففي رواية دون كيشوت، لثيربانتس، يكثر المتكلّمون، لإخفاء شخصيّة الكاتب، وفي سرودهم تنوّع لغويّ لافت، يغرس الرّواية في تربة الواقعيّ، ويمنحها ثراء في الرؤيات، ويتعمّق حضور الواقعيّ بتلك الدعابات الرفيعة، وبذلك التّشويق البديع، ولكنّ هذا كلّه لم يمنع الرّواية من الجولان بقوّة في فضاء الفروسيّة ومرويّاته ومتخيّلاته. وما يبدو بديعاً بحقّ هو تلك الحركة المتناقضة التّي سلكها البطلان. فسانشو بانثا كان يحاول أن يقبس من مثاليات سيّده، وكان يمعن في محاولة تقليده، بينما دون كيشوت كان يحاول أن يتخلّص من تلك المثاليات، وأن يبدو واقعيّاً مثل رفيقه. لقد عاشا حياتهما، وهما يطاردان وهمين واقعيين: الدّون يحلم أن يصبح فارسا جوّالاً، وشانسو يحلم أن يكون حاكم جزيرة. ولكنّ ذلك كلّه ليس هو الرواية، الرّواية هي ما حدث في العمق، هي تلك المرويّات المتخيّلة التّي تخترق الزّمن، وتلك الطّواحين التّي تتلاعب بها ريح الرغائب والنّزوات، وما يتخلّلها من ضروب السّحر العجيبة.
إنّ الحكاية تحمينا من الموت، ذلك هو درس ألف ليلة وليلة، وتحمينا من الفقد والخوف؛ ذلك هو درس رواية الجميلات النائمات، وهي التّي تحمينا من الأحلام الواقعية البسيطة التّي تأكل أعمارنا؛ ذلك هو درس رواية دون كيشوت، وهي التّي تحمينا من الامّحاء والاندحار؛ ذلك هو درس رواية عوليس. يحضر المتخيل لينجينا من الخوف والفقد والمحدوديّة والميتات الحقيرة، ويمنحنا المتخيّل أجنحة نتجاوز بها بشريتنا المسوّرة بالعقل والواجب والقانون والدّين والأوامر. ويلخّص كارلوس زافون، في روايته ظلّ الرّيح، علاقتنا بالمتخيّل خير تلخيص، إذ يجعل الحياة الواقعيّة مقبرة كتب؛ متخيّلاتها متجسّدة في كتاب غريب عجيب مخفيّ عن الجميع. ويحملنا زافون، مثلما يحمل الرّجل العجوز في الرواية الولد دانييل، إلى عالم لا واقعي، يغرقنا فيه إغراقاً؛ ويقترح علينا اختيار كتاب من كتب الحياة المهملة، فنختار كتاب ظلّ الرّيح؛ الكتاب الذّي تسكن في صفحاته المخفيّات والمتخيّلات والتصوّرات التّي يراد إقصاؤها من مجال التّداول. يخبرنا زافون أنّنا أبناء الرّياح. تحت ظلالها نعيش، ونؤمّن على حياتنا ضدّ أوبئة الزّمان ومراراته. ولدينا شجرة حياة تنبت في أرض مسحورة مدهشة، لا تنقطع ساعاتها، ولا يزول هواؤها، ولا ينحسر ماؤها أبدا، وهي التّي ندين لها بالخلود.
مقال رائع، ولا عجب، فنصر سامي مبدع يمتلك فكرة النار، ويعرف جيدا كيف يشعل جمر الكتابة، ويثير لهيبها،
مقال زاخر بالأفكار، يبدو كنسيجة محكمة الغرز والعقد، خيوطها مترابطة متماسكة، كلّ خيط هو فكرة، يؤدي بك في انسياب وذكاء إلى فكرة جديدة، تنشدّ في كلّ مرّة بغرز وعقد متينة، هي تلك الكتب الشاهدة، والمنتقاة بعناية ومعرفة,
هذا النص النسيجة، يقحم الذات القارئة فيه اقحاما، يحاورها ويدهشها ويقنعها ويستفزّها، ومع آخر حرف منه، يجعلها تعيد النظر في قماشة النص، لتكتشف أنّ النصّ ليس مقالا فحسب، إنما لوحة فنّيية محكيّة، وإضافة إبداعية,