لماذا يتابع نجيب محفوظ الإنتخابات الإمريكية؟
كريم فريد – مصر
في الثالث من نوفمبر الماضي، جرت الانتخابات الأمريكية، وسط اهتمام إعلامي (شعبي/ نخبوي) عربي غير مسبوق؛ مما لفت انتباه بعض المنتمين للأوساط الثقافية، ودفعهم للتعليق، بارتياح وثقة، بأن الحدث شأن داخلي أمريكي! وأضافوا أنه لا فروق جوهرية بين رئيس جمهورى وآخر ديمقراطي. على هذا، يبقى الإهتمام المبالغ فيه محض إدعاء ثقافي لا أكثر، وملهاة فكرية تستنزف الجهد بلا طائل، وتحيد بالعقل العربي عن قضايا الهامة والأساسية!
قد يكون هذا الحديث مقبولًا من العامة، والذين أظهروا على خلاف العادة إهتماماً واسعاً، يعد نتاج ودلالة على درجة جديدة فى وعي المواطن العربي: نحتاج بشدة لرصدها بالدراسة والتحليل، لكن الغريب أن رفض الإهتمام بشأن عالمي ضخم مثل الإنتخابات الأمريكية، والنقد الحاد للمتابعين صدر من دوائر ثقافية وأدبية بإستعلاء لم يخلُ من سخرية. الأمر الذي حثنا للابتعاد عن الشأن السياسي بشكل مؤقت، والعودة لجذور كلمة ثقافة، بالإستعلام عن أصلها، للتحقق من معناها بشكل واضح وسليم؛ لنفهم بشكل أدق، ونلتمس الصواب، لعل المهتمين بانتخابات رئاسية في قارة بعيدة عن محيطنا العربي على خطأ، والناكرين إهتمامهم معهم كل الحق.
ببحث بسيط سنجد أن من ضمن أهم التعريفات الدارجة لكلمة الثقافة: أنها مجموعة المعرفة المتكسبة بمرور الوقت، وبنظرة دقيقة نستخلص بأن المعرفة هي الركيزة الأساسية، والمتن الذى يقوم عليه التعريف، وبالتبعية يصبغ بها الفاعل، فيضحي المثقف هو صاحب المعرفة، والساعي لاكتسابها بدأب واستمرارية.
لم يتوقف الأمر عند إكتساب المعرفة كمعيار دالٍ على المثقف، إنما تخطاه للتحليل والنقد- بمنهج ذو قواعد وأسس فكرية- ومن ثم الاستنتاج والتنبؤ، وهنا تظهر القيمة المضافة للمثقف، وتحصد آراءه التقدير المستحق من المجتمع.
منذ القدم، ارتبطت الثقافة الجادة – المعرفة – وأفكار المثقفين بالإنسان، ووجوده وتأثيره فى محيطه، والعوامل التي تؤثر فيه، وتكوّن وعيه وإدراكه، وترسم أنماط السلوك للأفراد والجماعات بشكل عام، وبدأ إهتمام المثقفين بتلك العوامل بحصرها وتحليلها، والنظر إليها بشكل أعمق لاستبيان مدى تأثيرها على حياة الفرد الشخصية وسلوك الجماعات.
وقد وضحت عوامل مثل الدين والتجارة والجغرافيا والتاريخ كمحددات رئيسة، وبدا ارتباطها بشكل وثيق وتأثيرها العظيم على حياة الفرد والجماعة، بالدرجة التي جعلت مدن مثل مكة وروما والقدس والقسطنطينية تكتسب بفضل وضعها الديني مكاسب تجارية، مما أثر بالإيجاب على حياة الأفراد فيها، ومنحهم رخاءً وسعة إقتصادية، حسنت بالتبعية من شكل حياتهم، وأهلهت بعضهم للقيادة، والإمساك بصولجان السلطة. في حين، أثرت هذه العوامل بالسلب على آخرين؛ حيث تسبب شق قناة صغيرة – قناة السويس- تربط بين البحر الأحمر والمتوسط فى تحويل طريق التجارة العالمي إليها، وهجر الطريق القديم – طريق رأس الرجاء الصالح- والذي بالتبعية أدى إلى إنتكاس الأوضاع المعيشة لملايين من البشر، ووقوعهم فى دائرة الفقر والضيق.
هكذا، أثرت الجغرافيا والدين على أوضاع الملايين، ولا أقصد هنا إقتصاديًا وحسب، إنما من أمتد التأثير ليغير طبيعية المجتمع ذاته، وطريقة تفكير الإنسان فيه؛ أحلامه وطموحاته وأفعاله المباشرة؛ ليدرك المثقف الجاد ارتباط الإنسان بالعوامل السابق ذكرها، ومدى قوة تأثريها على الفرد والمجتمع.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وقع المنتصرون وعلى رأسهم أمريكا عددًا من الاتفاقيات والمعاهدات، وأرسوا قواعد جديدة لنظام عالمي جديد؛ كفلت لهم القيادة والسيطرة على ملايين البشر، وعمدت تلك الدول على ترسيخ سطوتها بالقوة والعلم والأقتصاد، ولكنها مع مرور الوقت لم تعد وحدها فى المضمار. بزغت ثورة الإتصالات، وتسارع نمو وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي بإطراد، وتزايد معدل التجارة الحرة بين البلدان والقارات، فبدا العالم أصغر، وأطرافه أقرب لبعضها من أي وقت مضي، ولم تعد السيادة المطلقة للدول الكبرى وحدها، بل شاركتها الشركات العملاقة العابرة للحدود، والتي صارت تتدخل فى أدق تفاصيل حياة الإنسان بشكل يفوق كل تصور وإستيعاب.
خفتت عوامل مثل حالة الطقس أو الإزدحام المروري، ولم تعد العوامل الاعتيادية بذات القوة والتأثير، وأضحى الفرد أكثر تأثراً بأحداث تبعد ملايين الكيلومترات عن محل إقامته؛ ليضحي افتتاح معطم دجاج على جانب الطريق فى كوربن بمقاطعة كنتاكي سببًا مباشراً فى سمنة أحد الأطفال فى الشرق الأوسط، وازدياد نسبة احتمال إصابته بالأمراض المزمنة. حرب قصيرة في الخليج بالعام 1990 ترفع أسعار النفط فى أمريكا، وتزيد معدلات البطالة. وأخيًرا، حظيرة للحيوانات، فى منزل أحد المزارعين الصينين، تتسبب فى حظر تجول مليارات البشر حول العالم، ووفاة ملايين منهم، وإصابة آخرين بالمرض والإكتئاب.
إدوارد لورنتز عالم رياضيات تخرج من جامعة هارفارد، وعمل كمتنبئ لحالة الجو فى الحرب العالمية الثانية، وإنضم بعد الحرب لمعهد “ماساتشوستس للتقنية“، أطلق فى العام 1963 نظريته المسماة ” الشواش/ أثر الفراشة“ والتي توصف تلك الظواهر ذات الترابط والتأثيرات المتبادلة والتي تنجم عن حدث أول، قد يكون بسيطًا فى حد ذاته، لكنه يولد سلسلة متتابعة من النتائج والتطورات المتتالية والتي يفوق حجمها بمراحل حدث البداية، بشكل قد لا يتوقعه أحد، وفى أماكن أبعد ما يكون عن التوقع.
وهنا قدم السيد إدوارد تفسيرًا فيزيائيًا ورياضيًا للترابط داخل النظام الكوني، ليثبت حديث عديد الفلاسفة بشكل علمي عن ذلك الترابط الوثيق بين العوامل والمحددات فى الكون، ويبرهن على تأثريها على الفرد والمجتمع.
ولقد أنتبه المثقفون على اختلاف دروبهم مبكرًا للعوامل القديمة، وأثرها، ولم يغب عنهم التغيرات، من خلال متابعتهم الدقيقة للأحداث، ووعيهم بالتأثير العالمي المتنامي على حياة الإنسان الشخصية، وتباروا فى معالجة التغييرات والمحددات وتأثيرها، ولم يتوقف البعض عند الأمور المحلية، إنما جاهد كل منهم بإضافة نابعة من معرفته -المكتسبة والمحدثة- وتحليله للأحداث والمتغيرات العالمية. لذا، شاهدنا بأعنيننا عدة تحولات وثورات فنية وموسيقية خلال القرنين الماضيين؛ كنتاج وإفراز لأحداث سياسية واقتصادية عالمية كبرى. مثلًا، لو نظرنا عن قرب إلى فن الرواية؛ باعتباره واحدًا من أهم نتاجات الثقافة، وحلقة الوصل الأهم بين أفكار المفكريين والفلاسفة والعلماء من جانب، وبين العامة من جانبٍ آخر؛ لوجدنا عديد الأعمال التي رصدت تلك العوامل المؤثرة فى الإنسان، وما نتج عنها من تغيرات بالفرد والمجتمع: كتب فيكور هوجو روايته الشهيرة “البؤساء” فى العام 1862 عن الأوضاع المعيشية الصعبة والفقر فى فرنسا بعد سقوط نابليون، ومن بعده كتب سكوت فيتزجيرالد “جاتسبي العظيم” عن فترة الكساد العظيم ومعاناة العمال فى مقابل صعود طبقات –أغنياء الحرب- ورفاهيتهم بالمجتمع الأمريكي أثناء الحرب العالمية الأولى، وكتب جورج أورويل “1984” عن الاستبداد، وسبقه الروائي الروسي بوريس باسترناك حينما كتب “دكتور جيفاجو” أبان الحكم السوفيتي، وكتب البير كامو “ الغريب” وألف صمويل بيكيت مسرحية “فى إنتظار جودو” عن مذهبي الوجودية والعبثية الرائجين فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وسقوط ملايين الضحايا في أوربا، وكتب تشاك بولانيك “نادى القتال” عن التوحش الرأسمالي وأثره على حياة الفرد.
أما نجيب محفوظ فقد كتب “زقاق المدق” عن التحولات الإجتماعية فى المجتمع المصري أبان الحرب العالمية الثانية، وعن نزعة التمرد المتقدة فى المجتمعات، النزعة القوية داخل الأفراد للخروج من شرنقة القديم “الزقاق” نحو براح الجديد حتى وإن كان مجهولًا وضبابيًا. وفي رائعته “الخالدة أولاد حارتنا” -التي كادت أن تنهي حياته- بشر الأستاذ الناس بالعلم؛ نبي العصر، والمعجزة التي كفلت للحلفاء وعلى رأسهم أمريكا– القوة الصاعدة حديثًا فى ذلك الحين- الإنتصار، وعاد فى أواخر الستينيات بطرح مختلف وجريء فى “ثرثرة فوق النيل”، التي شرّح من خلالها الأوساط الثقافية، وأظهر انعزال المثقفين عن القضايا الحياتية للفرد والمجتمع.
قد يعتقد البعض أن قضايا محفوظ محلية، أو أنها تتعلق وتمس الفرد والمجتمع المصري لا غير، وهذا عين الخطأ، فالأستاذ الذي درس الفلسفة فى كلية الآداب، وقرأ فى شبابه أعمال المفكرين والأدباء العظام لم يتقوقع يومًا ما على ذاته، أو غاب عن ذهنه الشأن العالمي، واحتفظ بدأبه في متابعته الأحداث صغيرها وكبيرها عبر الصحف والمجلات والراديو والتليفزيون؛ هذا لفطنته للعوامل والمتغيرات التي تؤثر على حياة الفرد والمجتمع، ورؤيته الشخصية فى النفاذ إلى الذات الإنسانية عبر محلية حملت المجاز فى طياتها، وقدمت شخوص بتجرد إنساني وهموم مجتمعية؛ فوجد أدبه الطريق نحو العالمية.
كتب محفوظ، وكتب غيره كثر، عن الإنسان والمجتمع بصدق وضوح ورمزية، واستخدم كل واحد منهم ثقافته -معرفتهم المكتسبة والمحدثة- لتحليل أثر الأحداث، وقد بدت القيمة الحقيقة فى تلك المعارف بالشكل الذى سمح لأعمالهم للنفاذ من محيطهم الإقليمي للعالمية، فقد تناولت الإنسان فى أدق تفاصيله، ولم يغب عنها أي مكون من مكونات وعيه، أو مؤثر من المؤثرات فى حياته.
المثقف الحقيقي عملة نادرة، يقدس المعرفة، ويدرك قيمة الكلمة، ولا ينعزل يومًا عن بيئته، ولا يتوقف أو يقلل من شأن أهمية متابعة التغيرات حول العالم مهما بدت بعيدة وغير مؤثرة في ظاهرها، تمامًا كما أدرك الشاعر الفلسطيني محمود درويش
أثر الفراشة لا يُرى
أثر الفراشة لا يزول
هو جاذبية غامض
يستدرج المعني، ويرحل
حين يتضح السبيل.
المثقف الحقيقي عملة نادرة فعلا .. والعنوان وطريقة ترتيب المقالة يشد القارئ لقراءة مقال طويل بدون ملل.
مقال يُحترم لكاتب شاب محترم
المقال رائع للغاية، استمر 💙💙
مقال جميل جدا ورؤية واسعة لثقافة الفرد والثقافة العامة وتأثيرها .. عجبنى جدا الربط بين ابسط الأحداث وأقواها ونتائجهم المباشرة والغير مباشرة .. فيه نقط كتير اول مرة اجمعها وافهم تأثيرها كمان ..
طريقة كتابة المقال غنية جدا وأسلوب رائع الحقيقة .