“نازك خانم” من التجسد إلى المفهمة
إيمان بلعسري– المغرب
قدّمَ الكاتب الشاب كه يلان محمد، في مقال أخير له، قراءة خاصة لرواية “نازك خانم”، للكاتبة السورية “لينا هويان الحسن”، الصادرة سنة 2014 عن منشورات ضفاف ببيروت ومنشورات الاختلاف بالجزائر، والتي تُوجّت مؤخرا بطبعة ثالثة. أليست الكتابة آخر الوسائل لفهم الذات، على اعتبارها علاقة مشتتة لمجموعة من الأطراف يكون الكاتب ملقىً وسطها؛ إشكال يبرز بصورة أوضح تعطشَ القارئ والكاتب العربي معًا لإنتاجات سردية/نقدية تُقرأ المرأة كذات متحررة تحاول الفكاك جاهدة من كل القيود؛ فالرواية في نهاية المطاف فلسفة سردية من خلال الأحداث كما يقول ألبير كامو.
اسم “نازك خانم”، أو “نازك هانوم” ليس اسمًا غريبًا بالمرة عن فضاء دمشق الخمسينيات والستينيات، لاسيما أنها عاشت حياةً صاخبة ثائرةً من كل مظاهر التحفظ والإقصاء، التي كان يسقطها الشرق على المرأة. “نازك خانم” امرأة مُطلقة تقفز بين حبلي العقل والأسطورة، فضلًا عن أنها أيقونة أنثوية شيع أنها جلست أمام بيكاسو عارية. تخلت عن دراسة القانون في السوربون؛ تحوّل جاد من صفوف المدرجات الجامعية نحو ديفيلي العارضات الباريسيات؛ تعبير عن هجرة البطلة، نحو أفق الإنسانية التي تمثلها، باتجاه الجسد/الجانب الجمالي الخلاق لمجموعة من المفاهيم كالإغراء والرغبة؛ ذلك الحس المنبوذ عربيًا والمجهر به غربيًا؛ جدلية جعلت من “نازك خانم” مثأترة بمارلين مونرو واسمهان، وهو نفس ما تعيشهُ النساء العربيات اليوم لكن الأسماء تغيرت نحو: كيم كارديشان، شاكيرا، هيفاء وهبي. المكانة التي يحظى به الجسد في الترويج للعلامات التجارية وكبرياتها؛ بريقٌ لم ينطفئ لحدود الساعة؛ فالنمودج الجسدي المتاح في كل مرحلة، يسمح بتكوين ذهنية ما عنه لا تبتعد كثيرًا عن المثال المحنط المعدّل في العيادات التجميلية، ممارسات طبية مربحة تُأتي أُكلها في العالم شرقًا وغربًا، لكنها عاجزة تمامًا على تكوين نساء مثقفات بجمال فطري خالص. إن ظاهرة اختزال المرأة في الجسد هي حديثة العهد بفعل الصدى القوي للفوتوميديا؛ لكن المثير للانتباه أن خلفاء العرب كانو يتهافتون على مجالسة الجواري المثقفات المحنكات والمتبحرات حسب تعبير فاطمة المرنيسي. أما ظاهرة الأسياد على رؤوس النساء الجاهلات الفاتنات فماهي إلا تمظهر من مظاهر الإنحطاط العربي، فنازك خانم التي لم تكن تعرف فولتير، وهي طالبة في السوربون، هي نفسها امرأة من أولئك اللواتي كان يقطع رقبتهن شهريار في مطلع الفجر، عكس شهرزاد الذكية الساردة التي تبتاع وجودها من خلال إثارة دهشة شهريار، في الضغط على فضوله بمرونة تمنحها وقتًا أطول؛ لتعمر كل يوم منفلتة من مصير موتها عند شروق شمس كل يوم.
في حديث لبول ريكور عن الذات، يقول بأن الذات هي آخر والآخر هو الذات؛ من خلال التمثلات والنمادج التي تحررها الصور والأصوات؛ مما يخلق انكماشًا بين هويتين: الأولى ثابتة متفردة في ميولاتها ومزاجها وفق سيكولوجية خاصة؛ بينما الثانية ذاتية تمتص خصوصيتها مما يصدره العالم الموضوعي، مما قد يشكل هشاشة في العلاقة مع الذات من خلال الاغتراب عنها، لتحقيق نموذج الآخر؛ فيختلط سؤال الذات بالجمع، وينفرج بذلك تناطح حاد بين الكل والمفرد خاصة حين يكون التأنيث محط التصادم. موقف عاشته “نازك خانم” لحظة عودتها للشرق/دمشق في محاولة السيطرة عليها من طرف كمال بيك، ما جعل رفضها وتمردها ذاك يودي بحياتها في مشهد تراجيدي يلائم النهايات الديستوبية. لعل عنصر التمرد والتعنت طالما ميز شخصية المرأة حتى في جانبها الأسطوري، فالصورة الجمالية والفعلية التي صورت فيها “نازك خانم” تتوافق تمامًا مع ليليلت الغيبية الثائرة المشيطنة بفعل رفضها القاطع. إن النسق الكلي لمجتمع ما يمنح الحرية رداء الحق، وقد يقصيها بكمامة الجريمة والعصيان المحرم وفق القوننة التيولوجية التي تزخر بها مجتمعات بعينها. تضاد بين الفكرة وواقعها ما هو إلا تنازع لم يحسم فيه بعد. في هذا الصدد، وجدت نازك نفسها مرفوضة في دمشق ومرغوبة في باريس؛ فالبيكيني المتوج في جادة الشنزليزي تأخد مكانه العباءة في أسواق دمشق؛ تباين صارخ يصدح بالإحتمالات السيئة التي ستواجه نازك.
الجسد يوجد عندما يكشف عن حقيقته في علاقته مع الجنس الآخر. وحدها المتعة تردي الجسد قتيلًا أو تبقيه حيًا؛ لذلك كانت البطلة شرعية تبرر وعيها بالجسد لحدود انتقاله من مجرد مفهوم بيولوجي وعورة يؤجر أو يعاقب عليها، إلى ظاهرة تفسخ عن ما تخفيه اللغة والفكر والعرف، حيث بعض إيحاءات الجسد والعلامات المسجلة التي يتقمصها وكليشيهات الفتوغرافيين الإحترافية قد تكون أهم من الجسد في حذ ذاته. موجة طغت بقوة في خمسينيات القرن الماضي على يد نجوم السينما والوجوه الوسيمة التي زينت بورتريهات الفن التشكيلي مند عصر النهضة لليوم. لطالما تغذّى الفن على الجمال ليعيد إنتاجه مرة أخرى بشكل آخر.
تخطت الرواية حدود الشخصيات الوظيفية للسرد نحو شخصيات مفهومية تولد تيارات ومواقف جادة تحتاج قارئًا متمرسًا على الإيروتيك والإيزوتيك؛ بما أن الفهم شرط للكتابة والقراءة، بل الحياة.