هل يمكنك تذوق النكتة وحدك؟
بسمة حسين محمد الشريف – السعودية
تمرّ على الأسماع كثيرًا مثل هذه الجملة: “من يضحك وحده، مشكوك في صحته العقلية”.. وهذا ما كتب عنه هنري برغسون الذي يرى أن الإنسان لا يمكن أن يقُدرّ الكوميديا وهو في عزلة عن الناس؛ إذ الضحك بطبيعته اجتماعي، فضولي يحتاج أن يمتد صداه منعكسًا على الآخر، ولن نفهمه إلا إذا وضعناه في وسطه الطبيعي، يقول: “الضحك يجب أن يكون نوع من الإشارة الاجتماعية. ” وهذه الإشارة لا بد أن تقُصي التصلب وتجعل من كل شيء جامد مادة للضحك لتحقق أكبر قدر من الألفة والمرونة.
الكوميديا عند برغسون متعلقة بالذكاء، ولا شأن للمشاعر فيها، وهذا ما يراه فرويد أيضًا في أنها لا تتوافق مع العواطف الإنسانية. ذهب الكثير للدفاع عن نظرية التفوق التي ينظر أصحابها إلى أن التعاطف عدو الكوميديا اللدود. يقول برغسون عن الكوميديا: “خدر لحظي في القلب”، وهذا التعريف لبرغسون يذكرنا بقصة قصيرة لجون كيسل بعنوان (الغزاة) التي تحكي عن كائنات متطورة في اتصالهم الأول مع البشر، وفي اللحظة التي يهبط فيها صحنهم الطائر على الأرض يخرج من بينهم كائن مسرع في الهبوط اسمه فلاش، قائلاً: “كوكايين، نحن بحاجة إلى الكوكايين”، يعترف فلاش في نهاية القصة لبائع مخدرات يشاركه تدخين الكوكايين، بأن الكائنات التطورية يتعاطون الكوكايين من أجل المرح.
وهذا ما يعنيه كيسل في قصته، بكون القصص ومنها المضحكة مثل الكوكايين نحتاجها لنتغيبّ عن كل شيء سوى المرح.. فنحن لا نشاهد فيلمًا مضحكًا أو نقرأ رواية غائرة في التهريج من أجل المعرفة وتوسيع المدارك، بل من أجل بنية العقل العشوائية التي تحتاج إلى انتشاء لا صلة له بالآخرين، باعتبار أن الكوميديا بكل أشكالها من الأفلام ومقاطع الريلز القصيرة، وصور الميمز التي تطورت عن الكوميكس، بوصفها حكايا متنوعة وحوادث سعيدة، وإن لم يكن لها هدف حيوي “يتعاطاها الناس للهرب من الضجر وشراسة الحياة الواقعية”.
من هنا نفكر في إمكانية أن تكون الكوميديا علاجًا فعالًا للمجتمع، وبأي شكل يكون الضحك وظيفة مفيدة؟، هذا ما يراه الفيلسوف توما الأكويني، الذي يوحي بضرورة الكوميديا كعلاج بالكلمات والأفعال؛ لتطهير النفس من الهموم والأحقاد، ولا يبتعد نيتشه صاحب الإرادة القوية عن هذا الرأي كثيرًا فيقول: “إنني أعرف تمامًا لماذا كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك؛ فإنه لما كان الإنسان هو أعمق الموجودات ألمًا، فقد كان لا بد له أن يخترع الضحك. وإذن فإن أكثر الحيوانات تعسًا وشقاء. هو – بطبيعة الحال – أكثرها بشاشة وانشراحًا”.
الضحك أو الهزل بكل أشكاله سواء كما قسمه علماء النفس إلى: فكاهة، نكتة، كوميديا.. سواءً كان مرحًا، لهوًا، وسخرية جميعها ظواهر نفسية من ذات الفصيلة، وكلها تصدر عن طبيعة البشر المتناقضة التي تمل رتابة الحياة ونظامها وتحتاج للخروج عن المسار بشيء ينكه جدية الحياة.
لكن ماذا لو كان هذا الخروج المؤقت، الذي يحررنا من المآسي نقطة ضعف أو نوعًا من الهشاشة والمحدودية.. يقال: “الضحك تطور عن البكاء”، وربما هذا ما تفعله الكوميديا السوداء التي تخلص الإنسان من عبء الضمير الأخلاقي والشعور بالذنب، وانزياح المعنى، وبذلك تحدث المفاجأة المثيرة للضحك.
شيشرون تحدث عن هذا النوع قائلاً: “أكثر أنواع النكتة شيوعًا هي عندما يتم توقع شيء ما ويتم قول شيء آخر”، وهذا الشيء الآخر نابع عن غرور الأنا والشعور اللحظي بالانتصار على الآخر بتخيله دمية ترفيهية، يسقط عليها العيوب، ويصفها إحدى الفلاسفة بأنها “صفعة وقحة نحو الأنا العليا”. قد تصبح أنت بنفسك مادة للضحك على نفسك، وحينها لن تعي أن هناك زاوية ما من كل شيء تجعل الأمر يبدو كوميدياً وهو في الأصل مأساوي، لذلك نجد كثيراً من الناس يبحثون عن الشخصية المضحكة في جلساتهم؛ لأنهم يعتبرون الشخصية المضحكة مسكن للآلام وإن كان بشكل مؤقت، غير معنيين بمعاناة هذه الشخصية التي تمارس الكوميديا أيضًا كنوع من أنواع المخدر. وربما هذا ما جعل برغسون يعتقد أن الكوميديا تقع في الوسط بين الفن والحياة؛ بكونها تنظم الضحك، وتقبل الحياة الاجتماعية كوسط طبيعي لها .