سدرة الصباح إذا تنفست

0 654

محمد الهنائي-سماورد

تشدني  بشكلها المهيب، ويجرفني  حنيني إليها، ارتبطت بها منذ نعومة أظفاري، الدخول إلى عالمها محفوف بالجمال، والدهشة، والصعود إلى أحضانها رحلة  من رحلات ألف ليلة وليلة، وكأنه دخول أليس في بلاد العجائب.

كنت أسمع عن سدرة المنتهى، عندما بدأت تربيتي الدينية تأخذ مسارها على أيدي الأهل، ومدرسة تحفيظ القرآن الكريم. ولا أعرف لماذا كنت دائماً ما أربط بينها وبين سدرة “الصباح” الموجودة في قريتي الصغيرة التي تحضنها الجبال، وتحيط بها إحاطة السوار بالمعصم،  كانت سدرة الصباح عملاقة تحرس المكان، كنت أتخيل أنني أستطيع أن أرقى إلى السحاب وأدخل القصر، الذي بني في سحابة متينة قوية عن طريق أحد أغصانها، كما فعل أحدهم حينما صعد عن طريق أغصان حبة فول متوحشة، كما قرأته في إحدى القصص ذات طفولة.

تتوسط سدرة الصباح مفترق الطرق، فهي تقف وقفتها العسكرية كشرطي مرور ينظم السير منذ أن شم رأسها نسيم الوداي القريب منها.

سميت بسدرة الصباح لأنها تحرس أحد بوابات قرية طينية قديمة، يعرف بباب الصباح، عرفتها امرأة كبيرة، لم أدرك شبابها، ولا فتوتها، الإ أن أغصانها الكبيرة شاهد على عصر سمعنا الكثير من حكاياته، وبطولاته. حاول الزمان أن يفعل فيها فعلته ويكسر ظهرها؛ الإ أنها كانت عنيدة، وهي تناطح الريح، رغم أنها استطاعت أن تكسر منها غصنا كبيرا ذات غضب عارم، تعلق الغصن بأمه، ورفض مفارقتها، وشدته هي رافضة أن ينتزع فؤادها منها، فلم تستطع هذه الريح الغاضبة أن تسرقه من ظلها، وحنانها، فظل إلى لحظة الكتابة هذه متنعما بوجوده في حضنها.

وللعشاق حكاية معها، فقد كان أحدهم يختبئ بين أغصانها منتظرا مرور حبيبته بصحبة صديقاتها عائدات من المدرسة يثرثرن عن يومهن المدرسي، شاتمات المدرسة الفلانية التي ضربت إحداهن، متوعداتها بغد مثير لا مثيل له، ويعددن الخطة لذلك، وهي تتصبب عرقاً خشية أن ترفع إحداهن رأسها فترى العاشق الولهان صاعدا الشجرة وكأنه طرزان متحفزاً للأنقضاض، وتسترق النظر إليه بارتباك واضح لا يخفى على صديقتها التي تقاسمها السر الصغير المغرد كطير صداح ينتقل بين أغصان الشجرة، فتغمز الصديقة لها بعينها غمزة ذات معنى، وتضحك بدلال واضح.

السدرة مكان التقائنا، هي موعدنا المضروب على الدوام، نهرع إليها ونحن نحترق شوقاً إلى ظل أجنحتها الحنونة،

لوحة شجرة التوت لفان غوخ
لوحة شجرة التوت لفان غوخ

نجلس على غصنها المكسور؛ لنرتاح من عناء المشي عائدين من مزارع القرية، وبإحدى يدينا وردة، وباليد الأخرى ثمرة حمضية، قطفناها من الطائف- المزرعة الحبلى بما لذ وطاب لمعداتنا الصغيرة، ومن باب الحديث ذي شجون فإني أعرج لأقول أن تسمية المزرعة بالطائف  تيمنا بمدينة الطائف السعودية كما توجد أسماء أخرى لبعض المدن الخليجية.

للسدرة مخابئ سرية نخزن فيها الفلفل، والملح لأجل وجبة شهية، نستمتع بمذاقها المختلف، المحلى بجمعتنا البريئة، رغم شقاوتنا الظاهرة معها تبقى أم دافئ حضنها،أم معطاءة، ترضع أهل الحارة ثمرتها، تحضن لقاءاتنا ذات فراغ، وتأخذنا إلى حضنها مهما كان حسن أو سوء ثرثراتنا، وفي أحيان قليلة جدا تغضب من بعضنا غضب أمهات قلوبهن بيضاء، فتدفعه عنها إن صعد إلى حضنها، ثم تستقبله في المرة الثانية بحضن أم بسامة، وإن كان يهاب الصعود، تستغل وقوفه مستظلا بظلها فتفلق رأسه بحجرة علقت ذات رمية رماها ابن عاق، يتذكرها ويتذكر مشاكساته كلما حلق رأسه، كبرنا، وهرمت السدرة، وتوزعت ثرثراتنا بين المقاهي، والمراكز، وأمست  هي مغروسة في قلوبنا، وما زلنا متوشحين ذكرياتنا معها، نحملها أينما كانت قبلتنا، نسمع تنفسها في داخل قلوبنا، وذاكراتنا، فتعمرها بالفرح.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.