هي العيون.. هي الذاكرة

0 1٬310

عباس الحايك-سماورد

لم أتعلم السباحة فطرياً كأبناء جيلي المهجوسين باللعب والمرح، فلم يتعلموها من برك السباحة الاعتيادية والأندية الرياضية، كانت العيون الطبيعية هي التي علمتهم أبجديات احتضان الماء والولوج إلى أعماقه. لم أتعلم السباحة، ربما لأني تعلمت من الوالد خشيته من الماء، إذ لم يتقن السباحة هو أيضاً كما أتقنتها أمي منذ طفولتها!. كان مثيرا للدهشة أن أكون ابن القديح (قريتي) ولا أجيد السباحة!، فالقديح قرية معروفة بكثرة العيون الطبيعية، المتوزعة في مزارع النخيل التي كانت تحيط بالقرية.

رغم أن باحثين يشيرون إلى وجود ما يربو على الـ25 عيناً  طبيعية في القديح وحدها، عدا ما تملكه قرى أخرى، إلا أني لم تحظ طفولتي سوى بزيارة بعضها مما كان قريباً ومتاحاً لي، مثل عيون: اللبانية وهو إسم العين الأشهر في القرية، والتي ذاع صيتها حتى خارج المنطقة، وأتذكر أني التقيت بغريب جاء بعائلته من متجشما عناء السفر من العاصمة الرياض لزيارة اللبانية بالتحديد، وعين الغرا، وعين ساداس وعين القديح وهي الأقرب لمنزلي، والتي لم يعد أثر لها، وغيرها من العيون التي شكلت ملامح ذاكرة، مثل عين السدرة والشرابية، وحتى العيون النسائية مثل عين التوازي التي كانت واحدة من ملتقيات نساء القرية ساعات العصر.

في صباحات الإجازات الإسبوعية كنا، بعض أصدقاء الطفولة وأنا، كغيرنا من أطفال وشباب القرية، نهرب من ضيق الجدران، ومن ضيقنا بالألعاب الطفولية المعتادة إلى اللبانية، بدراجاتنا الهوائية أو ركضاً، عابرين إليها طرقاً ضيقة في حقول النخيل، نشبع ارواحنا بالأخضر، نسطو بطفولية على اشجار اللوز و ثمار السدر قبل الوصول إلى اللبانية، ويتسارع ركضنا إن لمحنا الفلاح ولحق لمعاقبتنا، نسابق الريح قبل أن تصلنا يده. نصل إلى اللبانية، ونحن تتصاعد أنفاسنا، و بمائها نخفف وطأة الخوف، وتعب الركض، وكنا نضحك، لأننا أكلنا دون أن نعاقب. اللبنانية تتحول حج الراغبين في إطفاء جمر الصيف، وصيفنا كالجمر، وفسحة التلاقي، أجساد تلتقي أجساد، ينضح ماء العين، وفسحة التسلي والتنفيس، فالعين ساحة لعب.

سوق الوادي بالقديح قديماً
سوق الوادي بالقديح قديماً

في العين، سباحون، يغوصون حتى التنور (منبع العين)، يتنافسون، من منهم يقدر على البقاء أطول، يغطسون، كل اجسادهم تحت الماء تغطس، يتسابقون من يملك شجاعة ونفساً ليصل إلى العمق، إلى التنور. كان التنور موضوع حكايا وأساطير، وكان يتردد أن جنية العين أو ما يسمونها بـ (الراعية)، تسكن فيها، وتخطف المارقين عن رضاها وتغرقهم في جوف العين، وكما غرق في جوفها شباب وأطفال. وكان الأهالي يخطبون ود الراعية بتقديم القرابين لها، لترضى عن شباب القرية، ولم يكن قربانها مرهقاً، بسيطاً كان، ببساطة حياة الناس. لا أكثر من أرز مطبوخ بالسكر أو بدبس التمر أو ما يطلقون عليه بـ (العذرة) أو (البرنجوش) في قرى أخرى، هي قربانها الذي يرضيها. كانت العذرة طعاماً شهياً، كنا نسترق منه بعضه، وكانوا يحذروننا من مشاركتها قربانها.

كانت العين طقساً من طقوس الزواج، إذ تكون محطة من محطات المعرس (الزوج)، فهناك لا بد أن يسبح فيها عصراً ويتطهر بمائها ويتبرك بمائها الذي يخرج بكراً من جوف الأرض الخصبة، يغسل جسده من سنوات العزوبية وسط فرح الاصدقاء والأقارب و صخبهم، ووسط أهازيجهم وأغاريدهم وهو يزف على حصان عربي مختار إلى وسط القرية، تلك الأهازيج لم تكن تؤرق راحة راعية العين، لأن القربان (العذرة) سيكون من نصيبها، فآخر ما يفعله اصدقاء الشاب هو رمي العذرة في العين، ليحظوا له بالرضا.

لأني لم أتقن السباحة في العيون الكبيرة التي كنت أخاف عمقها، وتنانيرها السوداء الذي يخبيء الحكايا، أخاف من اتساعها في عيون طفل صغير يهرب بعد الدرس إليها، ولأن لكل عين مجرى يضيق كلما ابتعد عنها، كان المجرى صغيرا ومياهه ضحلة، وكان عيني الصغيرة التي اسبح فيها دون الخوف من الغرق، كان يرافقني أطفال في سني واصغر ممن لا يجيدون السباحة ويخافون من تنور العين. كان هذا مثار سخرية الأكبر مني، فإثبات الرجولة، وهي الأهم أيام طفولتنا، يبدأ بالقدرة على السباحة في العين الكبيرة، والقدرة على قطع المسافة من بدايتها إلى نهايتها سباحة، والقدرة على التنفس طويلاً تحت الماء.

’’لم تكن العين سوى مكاناً نهاريا يجمع البشر والذكريات، ولم يكن لليل من معنى سوى للحكايات’’

كنت أتحسر وأنا أطل برأسي من حاجز العين الذي يحوط بها كسوار، وأنا أرى من في عمري يسبح ولا يخشى الغرق ولا الراعية، وأنا مصيري العين الصغيرة!.

لم تكن العين سوى مكاناً نهاريا يجمع البشر والذكريات، ولم يكن لليل من معنى سوى للحكايات التي كان يسردها الآباء حول العيون وما يسكنها، لذا تتحول إلى كائن خرافي مرعب في هدأة الليل، ولا يجرؤ سوى المغامرين على المرور بتلك العيون، أو السباحة فيها، والمغامرون عديدون ولكن الجبناء أكثر. كنت أجول بخيالي في عوالم العين، حتى في مناماتي أتخيل شكل الراعية والتنور الذي تسكنه، أحلم كثيرا أني أغرق، اسبح دون أجد من ملجأ يعصمني من الماء، ولا شيء غير التنور. لذا لم اغرم بالماء ابداً. مع هذا، جربت تعلم السباحة منذ الطفولة المبكرة، حاولت، وحاول معي من يكبرني سناً، شربت من الماء ما جعلني أهابه، مرة أو مرتين نجحت في الطفو فوق صفحة الماء، ولم أكرر المحاولة حتى وقتنا الحاضر.

لم يعرف كيف أكتشفت العيون، ومن صمم معمارها الدائري، ومن بنى حواجزها  ببراعة، وجهزها بـنجوف (مفردها نجف: وهي دكة  تحيط بالعين، تكون متصلة تماماً أو تنفصل في بعض العيون) يرتاح السباحون عليها، وأكثر الروايات تذكر أن العمالقة وهم من سلالة الكنعانيين والذين سكنوا  المنطقة قديماً هم من بنوها واكتشفوها، وهم من صمموا معمارها. ويرى باحثون أن العيون ليست في قريتي وحدها بل في المنطقة بالكامل مرتبطة كلها بمجاري جوفية توصلها إلى بحيرة جوفية عملاقة. وكانت الوظيفة الرئيسة لهذه العيون هي سقيا المساحة الخضراء الشاسعة من شجر النخيل في منطقة القطيف، والتي عرفت بتربتها الخصبة المهيئة طبيعيا لزراعة النخيل وبعض الثمار المحلية والاستوائية، إذ لم يكن من وسيلة للسقيا غير تلك العيون التي كانت تتفرع لما يشبه الشرايين لتوزع وفرة مائها على كل الحقول.

ربما يصدق الباحثون بشأن البحيرة الجوفية، فكل العيون جفت دفعة واحدة وما عادت تنضح ماءً وظلت مجرد ذكرى، وصورة، ومثارا لزفرة حزن من أجساد اعتادت التطهر بمائها. تقاعدت كل العيون الجوفية التي كانت فسحة فرح و صخب، وفسحة لقاء، أغلقت كل العيون، وسورتها وزارة الزراعة بعد أن جف ماؤها، لم تعد العين سوى صورة تصلح أن نعلقها على جدران بيوتنا رمزاً لزمن لن يغادر الذاكرة أبداً. تقاعدت العيون دون أن استثمر الفرصة لأتقن السباحة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.