اختلافات فيكتوريا.. لكارلوس لوبيز ديغريغوري

0 494

كارلوس لوبيز ديغريغوري* – البيرو

ترجمة مهدي النفري (هولندا)

– ١-

وصلت ملفوفة في جريدة داخل صندوق من الورق المقوى. (أنطونيو سيوداد)، وهو طبيب صديق، أحضرها لي من كلية سان فرناندو؛ لأنني أخبرته عن مخاوفي وذكرياتي. مهنتي الأولى كانت الطب، وأعلم أن طلابًا كثرًا لديهم جماجم لدراساتهم علم التشريح، وهكذا كان الزائر ظلًا لرغبة قديمة، يمثل خطا يلامس الماضي والتوجس. إلى جانب ذلك كنت حينها ذا رقة رومانسية لم أعد أمتلكها. هذا هو السبب على ما أعتقد في سماحي لها بدخول منزلي منذ ما يقرب ثلاثين عامًا.

تُفسد الجمجمة أماكننا الخاصة. إنها عقدة الوجود المنغلق تقترب منا. في البداية، حاصرني كل شيء. من كانت؟ هل كانت رجلًا أم امرأة؟ كيف عاشت طفولتها إن وجدت؟ لماذا دفعها الواقع إلى الهامش؟ أيوجد شخص يصر على تذكرها؟ لماذا فقدت هويتها وانتهى بها المطاف في خزانات التشريح؟ حملت الصندوق بعناية ووضعت الجمجمة في مساحة علوية في مكتبتي. لأشهر، كنت أخفض عيني في كل مرة أدخل فيها الغرفة، حتى باتت غير مرئية كما يحدث مع الحقائق والأشياء حين تصبح مألوفة. هذا تأويل تدريجي يختفي الموضوع فيه ويصبح كائنًا لا وجود له. ذات يوم، بعد مرور عدة أشهر، اقنعت نفسي أني بحاجة إلى تسميتها. قلت لنفسي ستكون فيكتوريا. فيكتوريا: ثلاثة مقاطع صوتية كقرع أجراس الإنذار.

– ٢-

الأسماء العامة وأسماء العلم. هكذا تعلمنا ونحن خلف مكاتب المدرسة الخشبية؛ والمكتب هو اسم عام؛ لكن باستخدام إبرة الفرجار، تركنا علاماتنا على سطح الخشب: خط، رسم أولي، رسم غير مفهوم. لا يهم أننا عوقبنا، لأن الأهم هو مواجهة أغلبية العالم الساحقة. الاسم العام كوني، يُقصد به جنس من الكائنات، جميع المكاتب الموجودة والحاضرة وكذلك تلك التي لم تُصنّع بعد. العلم يشير إلى اسم حقيقي، إلى كائن فريد يظهر في جزء فريد من الزمن له بداية ونهاية. الاسم الحقيقي هو الهوية والاختلاف، هو الشخص الذي يواجه دائرة الآخرين المحيطين به. من خلال اتخاذنا اسمًا؛ نحن آلهة صغيرة. هذا ما يحدث عندما نعمّد أطفالنا ويكتسبون مخططًا لحظة تنفسهم. الجمجمة اسم شائع. فيكتوريا هي وحدها فيكتوريا. يتدفق نهر في عظامها لكنه سيتوقف عندما يتلاشى اسمها، وتصبح جمجمة مرة أخرى.

الآن هي فيكتوريا. لا يمكن أن يكون هناك خطأ في تهجئة اسمها، ولا حذف أيضًا. فيكتوريا هي الفرق الذي يعارض اللامبالاة.

-٣-

حبلان في يدي. واحد لربطي، والآخر لفيكتوريا. نحتاج جميعا إلى التعلق بالوقت، والحب، والمتاهة والسراب. نربط مظهرنا الخارجي حتى لا يهرب الجزء الداخلي. نربط الداخل كي يتمكن الخارج من التحرر والراحة. الضفائر، أو الشرائط، أو فتائل الشعر، أو سلاسل الجلد أو الضوء، هذه هي الطريقة التي نثبت بها (الأفاريز) أو الفيلة ونصلح العيون العمياء للتماثيل، ونربط مفاتيح منزلنا، وطبلة أذن الأيام الضائعة.

حبلان في يدي. معهما أنسج شبكة ضخمة وأقنع نفسي بأن فيكتوريا هي عنكبوت حبي. أخشى العناكب والحب، وفراشات الصوفية التي تتبع المسارات في الليل، والإسكولوبندرا. فيكتوريا هي سكولوبندرا، أميرة تركب على فراشة عرجاء تربطني بالجسد. لقد فككته. أنمتها في أفكاري، حللت وثاقها. أنفخ في مزمار صيني يدق مطرقة وسندان ليسا موجودين. في يوم من الأيام سأختفي وسأكون اسما شائعا. ستفقد عظامي السمعية أيضًا، ولن أتعرف على اسمي عندما تناديني.

-٤-

مسترشدين بالنجوم، سلك آدم وحواء طريقًا رمليًا طويلًا إلى مكان ما بين دجلة والفرات. هناك أسسوا عدن ثانية من الأشجار الهزيلة والورود الترابية. كان لديهما العديد من الأبناء والبنات، على الرغم من أن الكتاب المقدس يذكرنا فقط قابيل وهابيل وسيث. توفي آدم عن عمر يناهز 930 عاما؛ شيد أبناؤه مدفنًا على هيئة تل ليحفظوا رفاته. عندما هطلت أولى الأمطار معلنة قدوم الطوفان، التقط نوح جمجمة آدم وخبأها في أعمق مكان في الفلك. قبل وفاته عهد بها إلى ابنه سام الذي سلمها بعد سنوات عديدة إلى ملكي صادق.

بحث ملكي صادق عن قبر في قاعدة جبل الجلجلة الذي يعني باللغة الآرامية جبل الجمجمة: كتلة عظمية ضخمة من شأنها أن تحمل في وقت لاحق صليب ابن الله. هناك، في محجر مهجور، دفن الشكل الأولي الذي ستكون على شاكلته جميع الجماجم الموجودة. إنه النموذج الأولي، النموذج الأصلي. انظر إلى ذلك النهر اللامتناهي من الرؤوس الصلعاء التي تتكرر مع اختلافات طفيفة حتى تصل إليك. إذا كنت محظوظا، فسينقذك شخص ما من الفيضان ويبحث عن جلجلة جديدة لك. لا يسعني إلا أن أهمس في أذنك

طوبى لك لأنك فكرت في هذا السر.

أحب غبارك

غني موسيقى العظام هذه.

-٥-

يتسلق حلزون السطح الخشبي للتابوت ويحمل عظمًا بين قرنيه. ثم أتذكر قصيدة هايكو لكوباياشي إيسا في نسخة خوسيه إميليو باتشيكو:

بطيء جدا

يصعد الحلزون

جبل فوجي

لن يصل الحلزون إلى القمة أبدًا والقصيدة تشهد على جهده المستحيل. إنه يترك أثرًا من لعابه السائل ليحسن التصاقه بالمنحدرات الصخرية، ويمد مجساته تحيةً للثلج فوقها. هذا ما تفعله قصائد الهايكو: إنها تصلي للنور وتسبّح الظلام، تنتقل من المعلوم إلى المجهول، من العالم الطبيعي إلى عكسه غير المرئي. الهايكو تقوّي وتصقل المظهر، تمنحنا ثغرةً، شقًا لإلقاء نظرة خاطفة على المظهر النهائي والهشاشة الموجودة في مركز كل شيء موجود. سوف يختفي الحلزون عند صعوده وفي النهاية سيترك قوقعته الفارغة مثل الجمجمة على منحدر التل.

عندما كنت طفلاً، كنت أعذب القواقع. في بعض الأحيان كنت أمزق أصدافها، أو أتدرب على عمليات ثقبها بدبوس، أو أدوس عليها عندما أسير في الحديقة. ذات يوم أشعلت إحداها بعود ثقاب وراقبت حركة مجساتها اليائسة وهي تطوى، وسمعت فرقعتها. في النهاية، جمعت القشرة المتفحمة وأخفيتها في صندوق يذكرنا برسوم التابوت في التعاليم المسيحية.

الآن، الصندوق عبارة عن موضع السكينة وهذه الاختلافات هي خلاصة تعاليمي. فيكتوريا، أنت حلزون: أقبل عظامك المتبقية، كآبتك، سكونك العابر. تعالي، دعينا نتسلق السطح الخشبي للتابوت ونلعن المطر أو النار التي ستحرقنا.

-٦-

مع الرطوبة الليلية تخرج القواقع، تسحب بطونها على أقدامها وتلتهم أوراق الزمن الخضراء. إذا راقبتهم بعناية، فسترى أنهم لا يتحركون في خط مستقيم، بل يتبعون أنماطًا دائرية. لم يشرح أحد لغز هذه الحركة. أنا، الراعي الجيد لهم، أعلم أنهم يفعلون ذلك لتمديد منعطفات قوقعتهم: لا يزالون مفتونين بفكرة (برنولي)* عن حركة المنحنيات اللولبية المذهلة**. يعاودون الظهور على حالهم. إنهم يُخصبون مصيرهم الفاني عند كل منعطف. القواقع خنثى وفي المغازلة والتزاوج ليسوا ذكرًا ولا أنثى. مسترشدين بمسار الوحل، كلاهما يعودان من حيث جاءا، وبعد أيام قليلة، يضعان بيضهما. في الشتاء أو في دورات الحرارة الشديدة، يقومان بتغطية فتحة قشرتهما بورقة من المخاط ويبقيان في حالة تعليق. داخل قوقعتيهما لا يوجد وقت.

أكثر حواس القواقع حدة هي اللمس. هل رأيت الأعمى يمد أصابعه الحلزونية؟ أنت تنام في ليلة سبتمبر هذه. الجو بارد والبطانيات تغطيك. بماذا ستشعر لو أيقظتك أصابع امرأة عمياء داعبت وشكلت رأسك حتى تحولت إلى حلزون؟

 

     

 

 * أراد جاكوب برنولي (عالم رباضيات وفيزيائي سويسري ١٦٥٤-١٧٩٥) أن يكون لديه لولب لوغاريتمي، وشعار يحمل كتابة «رغم التغيير الحاصل، إلا أنني أرتقي من جديد» محفورًا على شاهدة قبره. كتب أن اللولب المتناسق ذاتيًا «يمكن استخدامه رمزًا للصمود والثبات في المحن، أو رمزًا لجسم الإنسان الذي بعد كل تغييراته حتى بعد الموت سيعاد إلى ذاته الكاملة والدقيقة». مات برنولي سنة 1705، لكن حفر على قبره حلزون أرخميدس بدلًا من اللولب اللوغاريتمي

** اللولب اللوغاريتمي أو اللولبي متساوي الزوايا أو لولب النمو هو منحنى لولبي متماثل ذاتيًا يظهر غالبًا في الطبيعة. أول من وصفه كان ألبريشت دورر (1525) الذي أطلق عليه “الخط الأبدي” (“Ewige Linie”). بعد أكثر من قرن من الزمان ، ناقش ديكارت (1638) المنحنى ، وبعد ذلك قام جاكوب برنولي بدراسته على نطاق واسع ، وأطلق عليه اسم “الحلزوني الرائع”.

 

كارلوس لوبيز ديغريغوري (1952)
شاعر وكاتب مقالات. يعمل أستاذا في جامعة ليما (بيرو). صدرت له عدة أعمال وشارك في مهرجانات شعرية عالمية عديدة. من أهم أعماله: الجنة القسرية (1988)، الحب البدائي (1990)، لا أحد يستريح هنا (1998)، صور توهج ساقط (2002)، جدول في سمك الغابة (2010)، الجزء الخلفي هو الحدود (2016)

 

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.