الأدب في المسرح

0 2٬772

سعاد خليل – ليبيا

عندما نقول الأدب المسرحي يعني أن نتناول أوج النشاط الإبداعي في الأدب، وذلك لأنه قبل كل شيء عمل قصصي أو روائي يتمثل ويتجسد على المنصة، فلا وسيط بين الجمهور وأبطال الحادثة أو القصة، ولا يمكن تناولهم بالوصف أو السرد، إنما هم أمامنا نشاهدهم، ونسمعهم؛ أشخاصًا تحركهم حادثة أو موضوع معين، فيتناولونه بكل الاختلاف في المشاعر الانسانية. وهكذا، فإن المسرح هو نشاطان لا نشاط واحد. الأول أدبي فني، مهمته خلق الحادثة القصصية أو الروائية بكل شخوصها وأدواتها، وتوظيفها في حوار من صيغة تعبيرية بالكلام المناسب. وهذه من مهام الاديب الكاتب؛ أما الثاني فهو نشاط فني تمثيلي، من مهام المخرج والممثلين الذين يرسمون ويجسدون الشخصيات المسرحية وخلق الاجواء وأطرها.

هذان النشاطان ليسا منفصلين عن بعضهما. الثاني متمم للأول؛ والأول مرتبط بمراعاة الامكانات التمثيلة ومقيد بها. من جهة أخرى، هما عملان فنيان لكل منهما أصوله. عليه، لا بد من التمييز بين فن التمثيل، وفن التأليف التمثيلي أو فن التأليف المسرحي. حين يراجع النقد الأدبي وكتبه أو تاريخ الأدب في اللغة يتبين أنه يشار إلى الواحد باسم الاخر؛ أما فن الاداء التمثيلي فهو نوع آخر من الإبداع: كيف يتلبس المشخصون مشاعر الأبطال وأعمالهم، وهذه من الامور الصعبة، وليس بالأمر الهين الميسور، ولا يتأتى لكل من أراده ورغب فيه؛ فهو يتطلب تكيفًا تامًا، وتنازلًا عن الشخصية الذاتية أثناء الاداء، ويلزم التدريب المتنوع والقدرة على التشخيص؛ وهذا ليس موضوعنا في هذا المقال، ففن المسرح فن قائم بذاته له تاريخه وتراثه ومستلزماته الفنية والتشكيلية.

في جزئية من كتاب الفن والادب للدكتور ميشال عاصي، عن التأليف المسرحي، يقول حتى يبلغ غايته ينبغي أن تتوافر له جملة عناصر تقتضيها طبيعة هذا العمل. أول ما ينبغي له في نطاق الحادثة المسرحية أن تكون ممكنة الوقوع سواء انتزعها مؤلها من وقائع التاريخ البعيد أو القريب، أم استقاها من وقائع المجتمع المعاصر، أم ابتكرها استنادًا إلى مجرى الأمور حوله. ذلك أن القاعدة الذهبية في العمل المسرحي، تأليفًا وتمثيلًا، هي مطابقة العمل المسرحي للحياة في حركته الداخلية والخارجية معًا. تمثل هذه القاعدة أساسًا ينطلق منه المؤلف المسرحي، والمؤلف القصصي، إلى إيهام رواد المسرح وقراء القصة، بأن الحادثة التي يشهدونها هي من صلب الواقع، ليست مزيفة ولا مفتعلة، وبذلك يتم التأثير من هذه الوجهة، بين العمل الأدبي وبين جمهوره، وفتور المشاعر بإزاء الحادثة المسرحية والقصصية، مثلما تثور ازاء الأحداث الواقعية، بل أكثر لأن الأحداث في الحياة قد لا يتسنى للمشاهد أن يراها كاملة، مترابطة، موحدة في موضوع وفي حيز من المكان والزمان.

فيما يتمثل العنصر الثاني في وحدة القصة المسرحية، أو المروية التي يشاهدها أو يطالعها المتلقي، منسوجة نسجًا عبقريًا بمقدماتها وتشابكاته ونتائجها، لا تشتت فيها ولا تباطؤ، خالصة من الهوامش المبتذلة أو العارضة التي تعلق عادة بأحداث الحياة، وتمتد بها أحيانًا أزمنة تطول أو تقصر، وأمكنة تتباعد أو تتقارب، فلا يستطيع، من جراء ذلك كله، أن يكرس انتباهه لتتبع الحادثة بمثل ما يوفره له المؤلف المسرحي أو القصصي، بحيث يوقفه على الحادثة الممكنة الكاملة الواحدة، في أمكنتها وأزمنتها جميعًا.

ثمة من يذكر عنصرًا ثالثًا، بالإضافة إلى عنصري المحاكاة والوحدة الموضوعية، هو عنصر الوحدة المكانية والزمانية للحادثة؛ وأول من استخرج هذه العناصر أرسطو وتبعه فيها كثيرون بعده. أما حدود الوحدة الزمانية كما أقرها أرسطو للمأساة دون الملهاة، فهي أن تجري الحادثة خلال مدة أقصاها أربع وعشرون ساعة، أو دورة واحدة للشمس على حد تعبيره. أما وحدة المكان فإن أرسطو لم يشر إليها، ولكن الدارسين استنتجوها من وحدة الزمان، باعتبار أن هذه المدة لا تسمح للأشخاص في تلك الازمنة، بأن ينتقلوا بعيدًا عن المكان الذي تجري فيه الحادثة، وبالاستناد كذلك إلى وجود الجوقة التي تمثل الشعب أو المملكة في صلب الحادثة. إن وحدة المكان والزمان سادت في المسرح لمدة طويلة والتزمتها أعظم المسرحيات الكلاسيكية العالمية، ولقد شذ عنها كتاب ومسرحيون كبار، وجاءت خلوًا منها مسرحيات عالمية ناجحة كمسرحيات شكسبير، ومسرحيات الرومنطيقيين الفرنسيين في القرن التاسع عشر والمسرحيات الحديثة، وما تزال وحدة المكان والزمان مثار أخذ ورد حتى يومنا هذا.

إن العناصر الرئيسية، التي يجب أن تتضافر في إنجاح الحادث، في التأليف المسرحي ليبلغ المسرح غايته منها، هي قبل كل شيء عنصر وحدة الموضوع وترابطه وتصعيده في الحدث المسرحي، وعنصر الإيهام بوقوعه؛ ففيهما وحدهما يكمن سر النجاح أو الإخفاق في خلق الحادثة ونسجها. أما وحدة المكان والزمان، فمسألة لم تعد ذات شان في تقنية المسرحيات الحديثة؛ وقد كان وجوبها أو عدمه يتعلق بعاملين إثنين: هما الوقت الذي يستغرقه العمل المسرحي أمام الجمهور، والعصر الذي تجري فيه الواقعة المسرحية. ذاك أن الحادثة التي تجري في وقت قصير نسبيًا مدة نصف ساعة على سبيل المثال، لا يمكن أن تتحمل انتقالا بعيدًا في حدود المكان والزمان من غير أن تؤدي في جانب من الجانب عملية الإيهام بالواقع، تلك التي لا يكون المسرح بدونها مسرحًا ناجحًا. كذلك حين تجري الحادثة المسرحية في عصر بعيد لم يعرف وسائل النقل السريعة، وجب أن تلتزم وحدتا الزمان والمكان حفاظًا على مقايسة الواقعة المسرحية بواقع عصرها من كل الوجوه، هذا بالأقل إذا كانت الأعمال المسرحية من نوع القصص الواقعية، أما إذا كانت من النوع الذي تداخله الأسطورة والخوارق، فلا ضابط عندئذ يستند إليه الكاتب لالتزام الوحدة الزمانية والمكانية؛ فله أن يفعل إن شاء، وله أن لا يفعل إن لم يرد، شرط أن يبدع ملتزمًا في كل حالة وحدة الموضوع وإمكان حدوثه، فضلًا عن أهميته بين المواضيع المصيرية والانسانية.

هذه باختصار بعض مقتضيات خلق الحادثة المسرحية، ولا حصر لموضوعاتها التي تعج بها الحياة الحاضرة والماضية، فما على الكاتب إلا أن ينتقي ويحبك الحبك الفني، أو يبتدع  مخيلته على غرارها ما شاءت له مخيلته أن يبتكر، ويبتدع شريطة أن يتوخى دائمًا إمكان تمثيلها على مسرح أمام الجمهور، وأن لا يتجاوز قاعدة الإيهام بالواقع ومطابقته، وأن يثير الاهتمام بإبراز قضايا الانسان، ويجيد تكثيفها وتركيزها على أدق جوانب تلك القضايا، وحركتها وصيرورتها وتناقضاتها في إطار الواقع التاريخي وواقع الوعي الذي يقابله في ذهنية الأشخاص ونفوسهم ضمن هذا الواقع.

        وفي الكتاب أيضًا، عن الأديب القصاص، فهو لا يتخلى تمامًا عن أشخاص قصصه، بل يظل يلاحقهم بالتعريف والإشارة والوصف الداخلي والخارجي لأعمالهم. على أن الأولوية ليست لهم أي لحركتهم ولسلوكهم النفسي والطبيعي في إطار الحادثة وجوانبها الصراعية، وليست له، أي ليست للكشف عن ذاته الشخصية وانفعالاته الخاصة بإزائها؛ إنه لا يختفي كليًا عن نظر القارئ وسمعه إلا حين يواجه الأبطال بعضهم بعضًا في حوار. فالحوار وحده يستر الكاتب سترًا كاملًا، وإذا كانت المسرحية تتم حادثتها بالحوار من ألفها إلى يائها فإن المؤلف المسرحي مطالب بأن يخلق أبطاله بحسب ما تقتضيه ظروف الحادثة، وبحسب ما يعرف من طبائع الناس المختلفة، وبحسب ردود فعلهم النفسية. فأشخاص الرواية المسرحية جزء لا يتجزأ من تلك الوحدة الموضوعية العضوية، التي سبقت الاشارة إليها، حين تناولنا الحادثة المسرحية بالكلام فهم جزء منها لا يتجزأ. بهم تحيا وبها يسعون، وعلى نفخ ريحها تسير أشرعتهم إلى حيث تحملهم الريح، كلًا إلى شاطئ، بمقتضي طبائعهم وعقائدهم ومنطلقاتهم النفسية والايديولوجية وتفاعلها الجدلي مع الحادثة. الكاتب المسرحي ملزم في كل ذلك أن يتناسى ذاته الخاصة، وشخصه؛ ليخلق شخصياته وينطق بلسانهم، وهو ملزم بأن ينطلق من شخصه واختياراته وملاحظاته الدقيقة للناس والحياة حتى يستطيع ان يخلق أبطاله احياء واقعيين.

إن المؤلف المسرح والقصاص في هذا الأمر سواء، على أن مهمة المسرحي أشق، وطريقته أصعب وأبعد، لأن أشخاص المسرحية وحدهم يسعون ويتكلمون، بلا وسيط أو مرشد، مواجهة للجمهور، وهكذا يجب أن تكون عبقرية الكتاب المسرحين الذين يعتبر عملهم أرفع الأعمال الفنية في الأدب، لأنه الخلق العملي الأكبر والأوسع والأدق والأكثر بعدًا من إطار الرؤى الذاتية المغلقة إلى مواقف تتطلب خلق (السوي) ابتداء من (الأنا)، وتستدعي الغيرية الذاتية.

إذن، هناك فرق بين النص القصصي، وبين النص المسرحي؛ فالمسرحي نص قصصي حواري مصاحبا بمناظر ومؤثرات.

        كما ذكرت في البداية، يوجد جانب مكتوب، وجانب تمثيلي الذي ينقل النص المكتوب إلى مشاهدة حية على الخشبة، ضمن عناصر المسرحية التي تتكون من البناء والحوار والصراع، وكذلك العناصر المشتركة بين المسرحية والقصة التي تتمثل في الحدث والشخوص والفكرة والزمان والمكان. أيضًا الحوار المسرحي الذي يعتبر هو العملية الأدبية في البناء المسرحي؛ أما بقية العناصر التي ذكرناها فخارجة عن نطاق الإبداع الأدبي بالكلمة، لذلك في الكتابة المسرحية يجب توفير الحبكة فهي العنصر الاساسي في الأجزاء، والكيفية الذي تحدث عنها أرسطو، في كتاب فن الشعر في معرض تحليله لتركيب المأساة اليونانية، والمقصود بالحبكة هو التنظيم العام للمسرحية ككائن متوحد؛ إنها عملية هندسة وبناء الأجزاء المسرحية وربطها ببعضها، بهدف الوصول إلى تحقيق تأثيرات فنية وانفعالية معينة.

على هذا، فكل مسرحية، حتى لو كانت عبثية، لا تخلو من الحبكة؛ أي من الاشتمال المرتب على شخصيات، وأحداث ولغة، وحركة، موضوعة في شكل معين. ومن ثم، فإن الحبكة لا يمكن فصلها عن جسم المسرحية إلا نظريًا فقط، لأنها هي روح العملية الدرامية، والحبكة المسرحية أو العقدة في المفهوم الارسطي لها بداية، ووسط، ونهاية، والاتصال بين حادثة وأخرى ينبغي أن يُبنى على المعقولية والاحتمالية، وإلا كانت المسرحية غير مترابطة وبها خلل بنائي.

إن الفنية الجمالية في الأدب المسرحي تستكمل عناصرها، باستكمال عناصر النجاح في حبك الحادثة وخلق الأشخاص وبناء الحوار، كما ذكرنا، وبهذا يرتفع البناء المسرحي شاهقًا بين أبنية الفن الأدبي وسائر الفنون الجميلة الأخرى.

إن الأدب المسرحي عمل قبل كل شيء ومعد ليمثل لا ليقرأ، وكل أدب لا يمثل بنجاح، ليس أدبًا مسرحيا ناجحًا. قد يصح أن يكون أدبا قصصيًا رائعًا بأسلوب الحوار المسرحي، ولكنه ليس أدبا مسرحيًا أصيلًا، بأي حال من الأحوال، وإن تزيا بزيه. إن محك الأدب المسرحي هو التمثيل لا القراءة، القراءة محك الأدب القصصي، لأنها واسطة غير مباشرة إلى تمثل شخصي تخيلي للأبطال والأحداث لا تمثيل عمل حي كما هو المسرح.

لإثراء هذا المقال تم الاستعانة بكتاب الدكتور ميشال عاصي “الفن والأدب بحث جمالي في الانواع والمدارس الادبية والفنية”، مؤسسة نوفل، 1980.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.