دراسة علي حبيب مصطفى عن البوليفونية في الخطاب المسرحي المونودرامي

نصوص منير راضي انموذجا

0 73

سعاد خليل – ليبيا

 المقدمة لهذه الدراسة تقول:

     يقوم الخطاب المسرحي على بنية الحوار ما بين الممثلين، وقبل ذلك في نص الكاتب وبعد ذلك في المتلقي، فالحوار موجود في المونودراما من خلال خلق هذا الحوار، وهذه طبيعة بشرية أن يتحدث الإنسان لنفسه. قبل ولوج العمل كان العمل فكرة، أو صورة ذهنية، والممثل الوحداني في المونودراما يتحدث مع الأشياء الأخرى التي تتمثل في الفضاء المسرحي، والتي تشاركه الحياة، فكل ما يحيط بالإنسان هو حقيقة مشارك له بحياته، إذن فهو يحاوره بمختلف أساليب الحوار المتدرجة في أحيان كثيرة، والمتقلبة والمتغيرة حسب الظروف والرؤية العقلية والمقدرة بالتحكم العاطفي، ولا يستطيع الاستغناء عن هذه الأشياء، وإن أغلب كتاب المسرح والنقاد والباحثين عرفوا المونودراما على أنها المسرحية التي تطرح صوتًا دراميًا واحدًا وتعتمد في بنائها شخصية درامية وحيدة، وبذلك تكمن مشكلة بحثنا الحالي في الاعتقاد أن الصوت الموندرامي الواحد للبطل رغم اختلافه باختلاف الجنبات النفسية للبطل فإنه يبقى واحدًا يقود الأحداث الدرامية بمستوياته المختلفة؛ وهنا نظرية تعدد الأصوات التي تكلم عنها (باختين) والتي سنذكرها في الإطار النظري وجد أن الحدث الروائي يمكنه أن يتحرك بمستوياته المختلفة من خلال الأصوات المتعد علي حبيب مصطفى دة، وهنا يمكننا أن نسقط هذا الأمر على الخطاب المسرحي في نصوص المونودراما عندما نجد كتاب يقومون باستخدام أصوات متعددة يقودون الحدث الدرامي بكل تفاصيله وكل مستوياته، ويمكن ملاحظة البوليفونية أو (الأصوات المتعددة) من خلال الاطلاع على التجربة المونودرامية للكاتب والمخرج العراقي (منير راضي)، حيث يعتبر كاتبًا مسرحيًا مغايرًا مشاكسًا في النص المسرحي المونودرامي من خلال قيادة الأحداث وفق الخطاب المتعدد الأصوات، وقبل أن يسجل الباحث ما لاحظه ويسلط الضوء عليه بشكل علمي، ارتأى أنه من الضروري الإجابة على السؤال الآتي:

(ما البوليفونية في نصوص منير راضي المونودرامية؟)

وسوف نستعرض الإجابة لاحقاً ونرى مدى تشكل البوليفونية نسبة في نصوص الكاتب المسرحي منير راضي ومدى المغايرة عن النظام السائد في آليات كتابة المونودراما لتقديم نموذج يحمل مغايرة نوعية في آليات بناء المونودراما.

      إذ يمكن النظر إلى الخطاب بوصفه (استراتيجية التلفظ) أو بوصفه نظامًا مركباً من عدد من الأنظمة التركيبية والدلالية والتوجيهية والوظيفية التي تتوازى وتتقاطع فيما بينها كلياً أو جزئياً ويتكون النظام المركب من ثلاثة أنظمة رئيسة تتمثل نظام التوجيه البياني الخاضع لمعاير علم البلاغة القديمة، نظام التركيب الخاضع لمعيار العلوم (النحو والمعاني) فضلا عن نظام الدلالة أو الإيعاز بالمعنى المراد الخاضع لمعيار علم البيان التقليدي وينص على احتواء وتطابق الدال والمدلول لأن الخطاب المعرفي سواء أكان على صعيد الكتابة أم الكلام  ينظر إليه من منظور المعتقدات والمقولات والقيم التي يمثلها وأنها تمثل طريقة النظر لموجودات الكون، وأنماط الخطاب تحيل مختلف صور عرض التجربة رموزا ومصدر صور العرض هذه هو السياق الصريح الذي يرد الخطاب ضمنه يرتبط الخطاب ارتباطًا وثيقًا باللغة لكونها تتعدى أن تكون  مجرد تصور ذهني نحو أدائية أكبر ضمن المحيط التواصلي للخطاب، فهي وسيلة للتواصل وإنتاج الأفكار والدلالات الهادفة إلى  كشف المعنى، ما أدى إلى انفتاح اللغة على الميادين بشكل واسع والانتقال نسقيا من المنغلق إلى المفتوح.

     ويذكر الناقد (عواد علي) قولة لرولان بارت، من شأنها أن تدعم فرضيتنا، وردت في إحدى مقالاته مفادها: “إن المسرح يشكّل موضوعاً سيمائيا، فنظامه يبدو في الظاهر أصيلاً (أي متعدد الأصوات) مقارنةً بنظام اللغة الأفقي الأحادي”. يشير بارت هنا إلى الكثافة العلاماتية، وكثرة مراكز الإرسال، وتنوع الشيفرات والبؤر الدرامية في الخطاب المسرحي (المكتوب أو المعروض)، فأين نجد مثل هذه الشخصيات المتباينة في مواقفها وتوجهاتها ورغباتها ومستوياتها الذهنية، وتضارب إراداتها ومصالحها، واختلاف وجهات نظرها، وتعدد رؤاها للعالم؟ إن المسرح، كما نرى، فضاء جمالي – دلالي لتمظهرات خطابية مفرطة في اللاتجانس، تتنافر وتتعايش وتدخل في علائق حوارية تفضي دائماً إلى نتيجة ما مغلقة أو مفتوحة”(1)

    وتجسد هذه التمظهرات أنماطًا متعددةً من التناقضات الاجتماعية – الأيديولوجية التي تمثل منظورات غيرية (وجهة نظر ضد وجهة نظر، نبرة ضد نبرة، رغبة ضد رغبة، مشروع ضد مشروع… إلخ) والمسرح، شأنه شأن الرواية، يمكنه أن يجمع لهجاتٍ عديدةً، ولغات لأجناس مختلفة، ويحتضن أجنة التعدد الأسلوبي (أسلوب رسمي، أسلوب مباشر، أسلوب إيحائي، أسلوب ساخر، أسلوب شعري، أسلوب سوقي، أسلوب طنان)، “ويتضمن وراء مستواه الأملس الأحادي اللغة نثراً ذا أبعاد شتى مرصعة بجمل وكلمات وعبارات كبيرة وصغيرة، وتعريفات ونعوت مفعمة بنوايا غيرية، بحيث يبدو خطاب الكاتب المباشر والخالص أشبه بجزيرة صغيرة – حسب تعبير باختين نفسه  مغمورة من كل أطرافها بأمواج التعدد الصوتي”(2)

     وإذا ولجنا إلى الخطاب المسرحي المونودرامي، نجد حسب ما صنف الباحثون في هذا المجال أن الشخصية تقوم بسرد الأحداث كما يفعل الراوي في المسرح الملحمي، ولكن بطريقة درامية من خلال تقمص الشخصيات المختلفة وتوجيه الصراع بطريقة فردية، وهنا يكون صوت واحد من شخص واحد وإن اختلف وتغير مع أحداث الفعل الدرامي ولكن يبقى بالنهاية الصوت الواحد يقود الفعل الدرامي فهي العنصر السيادي الذي يتحكم في الأحداث والجو الدرامي. وهنا نقع في نقطة نظام مع نظرية باختين حول قيادةِ الأصوات المتعددة الحدثَ الدرامي وتوجيهِ دفة الحكاية المسرحية، وسوف نوضح نقاط الخلاف حيال ذلك في النص المونودرامي مع البطل الرئيس. من هذا المنطلق يرى (باختين،1986)(3) ثلاث مراحل تحليلية يجب أن تتوافر في النص الأدبي لتحقيق نظرية الأصوات المتعددة:

1 – بنية العنوان ودلالته الكبرى:

إن أول ما يستوقفنا في عملية تحليل بنية النص المسرحي، أي مسرحية (عطيل في العالم السلفي) وصراع الأصوات داخلها هو عنوانها ذاته، فهذا العنوان الذي يشكل العتبة الرئيسة حسب تعبير (جيرار جنيت)  للولوج إلى عالمها، يحتضن بين طياته بؤرة المضمون العام لما يقع فيها من أحداث، إذ أنه يحدد لنا منذ البداية خاصيات هذا الصراع والطرفين المشكلين له، فالصراع هنا هو صراع داخلي لأنه لا يقع بين أناس أغراب عن بعضهم البعض، وإنما يقع بين اشخاص قريبين من بعضهم البعض، يجمع بينهم بالبداهة علاقة الدم والأرض، والعداوة المستنبتة بينهم، قد حصلت نتيجة أمور طارئة عليهم بسبب وشاية (ياغو) الكاذبة؛ إلا أن ما يضاعف من تجذر هذه العداوة في قلوبهم هو تشبث كل طرف منهما بلغته الخاصة وعدم إصغائه للغة الطرف الآخر المخالف له، وبالتحديد (عطيل ودزدمونة) مما نتج عنه تفرع هاتين اللغتين الكبيرتين إلى لغات صغرى. وكل لغة من هذه اللغات الصغرى تجد الناطق الرسمي بها والمدافع القوي عن وجودها. وحتى يسهل علينا ضبط آليات هذا الصراع والخصائص المميزة له، لا بد في البداية أن نضبط تعددية هذه اللغات وتحديد الآفاق الرؤيوية الحاملة لها.

   وهنا لنبين مفصلية الموضوع والتحليل البنائي له وآليات بناءه، لابد من الانتقال من النص الشكسبيري إلى نص الكاتب العراقي منير راضي حيث نبين دلالات تعدد أصوات بالنص المسرحي وربطة بالعنوان وكيفية تحكم الأصوات بالصراع. تدور أحداث المسرحية في مكان ما موجود بالعالم السفلي أي الآخرة والمكان فيه قبور مختلفة الشواهد، وقد حافظ الكاتب على الطراز الشكسبيري من خلال ملئ الجو العام بالمفردات الاليزابيثية، ويستهل العمل بجملة من الأصوات تنتهي بصوت عطيل قبل ظهور جسده على خشبة المسرح، وتصاحبه من داخل القبور أصوات الشخصيات في النص الشكسبيري الأصلي من (عطيل و ياغو والد دزدمونة ودزدمونة وإيميليا) إضافة إلى (صوت النادبات صوت الإله هاديس)، ولكن هنا أخذهم الكاتب بمغايرة أي بعد قتل دزدمونة من قبل عطيل بعد وشاية ياغو الكاذبة وظلم كاسيو، وهنا الكاتب (منير راضي) أبقى جميع الشخصيات يحافظون على البعد النفسي لهم كما في النص الأصلي، ولكن بعد أخذهم إلى العالم السفلي وخلق أزمة جديدة بطريقة مونودرامية تحمل مغايرة ومشاكسة وخروج عن المألوف، ونجد هنا الأب يوجه الإهانة لعطيل بسبب البربرية التي قادت تصرفاته في النص الأصلي، ويبقى يلوم به لأنه لم ينفذ التعليمات التي وجهها إليه في النص الشكسبيري، أما ياغو يشرح السبب الذي قاده لخلق الأكاذيب وزرعها في ذهن عطيل، وجعل العالم السفلي محكمة يحاكم بها عطيل على ما ارتكبه من تصرفات وحماقات في النص الشكسبيري، ووسط أجواء المحكمة أشعل (منير راضي) فتيل الحب من جديد بين عطيل ودزدمونة، وتستمر في محاكمة واطلاق التهم ومحاسبة كل سلوكياته، ووسط هذه الأجواء المليئة بالتأنيب يأتي صوت دزدمونة يشطر رتابة المحاكمة وتشعل فتيل الحب وعنفوان وجودهم إلى أعلى المراتب فتقلب أحداث المسرحية بالكامل من خلال حوار دزدمونة حيث تقول: (انهض يا عطيل وانصر تلك الومضة المراق دمها على بساط البندقية)، ومن خلال هذا الحوار تشعل عطيل وتجعله يحاكم كل من في القبور وتقلب موازين العمل حيث يقول: ( ها أنا أحاكمكم من جديد وبلغة هذا العصر)، ومن هذه العبارة يوضح الخارطة الحديثة للعولمة وأنظمة العالم الحديث، حيث يبين القضايا السياسية التي كانت هاجس المعاصر. هنا الكاتب (منير راضي) يوضح الدلالات السياسية بين الأزمنة السابقة والحالية ونجد دور البوليفونية وتأثيرها الواضح على مجريات وأحداث النص المسرحي.

منير راضي

2 – التعدد اللغوي ومستويات التعبير:

تتأسس البنية اللغوية للمسرحية على عملية احتواء لمجموعة من اللغات المختلفة، منها ما ينتمي إلى الماضي بكل حمولاته الأدبية والفكرية، ومنها ما ينتمي إلى الحاضر بجميع قضاياه وأساليبه التعبيرية هو الآخر، ومنها أيضا ما ينتمي إلى المستقبل عبر التطلع إليه والأمل في التواجد فيه بشكل من الأشكال، ومن بين أهم هذه اللغات التي تفرض ذاتها بقوة على متن مسرحية (مأساة المنديل).

       ويتعلق الأمر بأقوال الشخصيات. فهذه الأخيرة تتوفر فيها، على درجات مختلفة، الاستقلال الأدبي والدلالي، وعلى منظور خاص؛ فحوار شخصية المسرحية تكاد تمارس دائماً تأثيرًا ( أحيانًا قويًا) على الخطاب حيث تبدو، لأول وهلة لغة الكاتب وحيدة وأحادية الشكل..، مثقلة بالنوايا المباشرة والعاجلة، فإننا نكتشف، وراء هذا المستوى الأملس، الأحادي اللغة، نثراً ثلاثي الأبعاد متعدد اللسان بعمق، ويستجيب لمقتضيات الأسلوب ويُحدّده، هكذا الأمر بالنسبة لمسرحية (مأساة المنديل أو دزدمونة) حيث تجد في بداية المسرحية حوار دزدمونة بشكل منفرد ومن ثم يتم دخول الصوت الأول عليها بشكل يقود انقلاب درامي بأبعاد الشخصية، ويركز الكاتب (منير راضي) هنا على البعد (النفسي- العاطفي) بين عطيل ودزدمونة؛ فنجد هنا العودة إلى الماضي والبحث عن الحلول في الحاضر، فنكتشف، وراء هذا المستوى الأملس، الأحادي اللغة، حوارا ثلاثي الأبعاد، متعدد اللسان يعمق، ويستجيب لمقتضيات الأسلوب ويُحدّده. هكذا الأمر بالنسبة لدخول الأصوات الثلاثة معاً ومحاورتهم لدزدمونة وهم أصوات عطيل وياغو والد دزمونة لتنظيم وتنسيق ثيمة (الخطاب عند منير راضي) يكون مركزاً على الحوارات المباشرة؛ فشخوصه لا تخلق من حولها مناطق شاسعة ومُشبعة بل تخلق حوارات مركزة تكون ذات أسلوبية معقدة ونادرة، أي السهل الممتنع، ويمكننا ملاحظة ذلك في النص على سبيل المثال:

صوت3: إنه النفاق والاعتناق ايتها الجميلة، إن رجلك غفى تحت سمات السذاجة والضعف            تجاه ما يلتحف بالعشق فهو يصدق الوشايات دون تحميص أو دليل، لن نسمح لسحنة               لونه ونسبه أن يدنس تاريخ أمة بيضاء.

صوت1: مرحى، مرحى أيها الملازم يا جو، لقد نطقت بالحق، كان زواجي منها ليس لرغبتها أو هيامها أو عشقها البريء لي، لقد احتار الجميع بهذا الامر، منجمون مفكرون وعلماء كبار لم يتوصلوا إلى هذه العلة واللعنة، أيها السادة، اليوم سأعلنها هنا إنه السحر أيها القوم.

صوت3: لقد خدعتها، وسرقت قلبها وأفسدت عقلها بلعنات سحرك الشرقي.

دزدمونة: ما أنتم إلا جوقة من المطبّلين، سأفضح أمركم بين أشراف البندقية.

فهنا ميكانيكية الحوار توضح باختصار ميتافيزيقية الشخصيات التي بناها وليم شكسبير واستحضرها (منير راضي) بكل وضوح من خلال الصراع الذاتي بين شخصية وذاتها وبين شخصية وأخرى، ولو تمعنا قليلًا بالنص نجد الكاتب هنا وضع الإضاءة بطريقة مغايرة قاد النص إخراجيًا وأدبيًا إلى مغايرة جديدة وهي أنسنه الإضاءة؛ جعل الإضاءة تمتلك بعدًا نفسيًا لها عمق بالبعد المسرحي من حيث التأثير على أبعاد دزدمونة النفسية، وذلك لأنها كانت الإضاءة أيضًا عطيل، ولكن عطيل يختلف عن الصوت الصادر من المرآة؛ فالأول هو من قاد محكمة المحاسبة والتحقيق والتأنيب، أما الثاني هو الذي قاد دزدمونة عاطفيًا من حيث اشعال وتيرة الحب الشكسبيرية بينهم، وبذلك فإنها أصبحت عامل مهم من التعدد اللغوي الذي يبني البوليفونية ويؤثر بشكل مباشر على تغير المسير الدرامي للنص المسرحي، ونجد عطيل في نهاية العمل يتشظى إلى اثنين العاشق والقاتل المتهور المخدوع؛ فالأول يداعب بشفافية روح دزدمونة، والثاني القاتل المتهور الذي عاد مشهد القتل مرة أخرى، وبسببه بدأ يتلاشى عطيل العاشق، وهنا نجد أن الإضاءة تمثل الجنبة الكبيرة التي تحمل مشاعر وغراميات عطيل ودزدمونة التي قادت النص وانفعالات الشخصيات بشكل واضح، وهنا تتجلى الدلالة الحقيقية للتعدد اللغوي ومستويات التعبير في النص المسرحي.

3 – مسألة الصراع وتغيير المتخيل.

      إن لعبة الصراع القائمة هنا بين شخوص المسرحية، كما أوضحنا ذلك، يتلخص كما يقول (بيشو في الصراع من أجل كلمة، ضد كلمة أخرى)، ذلك أن الكلمة تحمل داخلها بنية متخيل بأكمله تسعى لتغيير متخيل جماعة بشرية. وهي عملية ليست سهلة، إنها تتطلب صبرًا جميلًا وتحملًا قويًا، فالمتخيل الشكسبيري الذي أخذه الكاتب (منير راضي) متخيل مبني على العواطف الرومانسية وحب الدنيا؛ لهذا فهو لم يقم بعملية رسم ثابتة من المتخيل الشكسبيري فقط، بل أخذ التلاعب بالأبعاد النفسية أثناء تصاعد الأحداث بطريقة مغايرة مع المحافظة على الحدوتة الرئيسة التي ينطلق من أحداثها إلى بناء أحداث وأمكنة وأزمنة جديدة. لقد أخذ مسرحية (الليدي ماكبث) بالبعد النفسي الذي انطلق منه شكسبير، وبعدها تلاعب بها بطريقة أوجد صراعًا يقلب ظهر المجن مبني على تقنية كتابية عارفة بالأدب الشكسبيري، وهذا ما يمنح لهذه المسرحية خصوصية الانفتاح على العوالم الممكنة المحيطة بها من جهة، ويؤسس حواريتها الخصبة مع معظم التوجيهات الفكرية والإيديولوجية المتواجدة ضمن بنية المجتمع الشكسبيري الذي سعى لتصويره من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة يجعل منه في الأخير إحدى أهم التمثلات المعبرة عن هذا الجنس الأدبي الهادر بقوة في هذا الزمن الإبداعي الممتد إلى بعد فكري يحيط  بالمونودراما البوليفونية.  وتتضمن المسرحية إشارات متعددة منذ المشهد الأول وظهور الليدي مذهولة وهي تهمس للساحرات وتوضح المعالم الحقيقة والقيادية لشخصية (الليدي ماكبث)، وأن تعددية الأصوات تظهر بشكل واضح من خلال حوار الساحرات وإثارة البعد النفسي لليدي ماكبث التي كانت تسعى دوماً إلى السلطة والحكم، وأن هذا الهاجس السلطوي دائمًا ما يحركها في النص الشكسبري، وهنا يكون الانطلاق الرئيسي في المسرحية (زولي)، فاللغة المستخدمة في العمل أوحت إلينا بصوت آخر للمرأة وهي تختار الموت، والتأكيد على ما تود طرحه من أفكار ورؤى للواقع. منذ البداية والفضاء للمسرحية بجغرافيته التي ارتبطت بعبثية الموت وبالزمن من خلال القبور، وفي موقف آخر نجد الليدي وهي ممسكة بالخنجر وتحركه يمينًا ويسارًا كأنها تخاطب ماكبث، وفي واقع الأمر هي تخاطب ذاتها الذي طالما عاشت فيه، وأن الأضواء في هذه المسرحية أيضًا لها حوارات ولكن بطريقة مختلفة، حيث تمثل بقع الإضاءة هنا التي وضعها الكاتب هي الهاجس النفسي لليدي ماكبث تواجه عبرها اشكالاتها النفسية بصورة مباشرة، فتظهر أمام أعينها وكأنها شخصيات حقيقية، وفي الوقت نفسه هو صراع داخلي؛ وبذلك نجد أن الأصوات المتعددة بدأت بانطلاق الحدث الدرامي للمسرحية، وغير ذلك هذا الصراع يتغير حين يستهدف مشكلة مهمة عند الليدي يستعرضها الكاتب وهي مشكلة الأمومة حيث يواجهونها بعدم استطاعتها لإنجاب الأطفال وهذا بعد كبير لامسه الكاتب (منير راضي)، وهذا سبب دفعها إلى رغبة الملك والحكم التي قادتها إلى دفع ماكبث لقتل الملك، وأصوات الساحرات تقودها في نهاية المطاف إلى قتل نفسها وهي تختم المسرحية بحوار: “ولكني الان سأنام مغمضة العينين وإلى الابد، كم هو مفرح ان ترقص بك التوابيت وهي تصعد  إلى السماء،  انها آخر رسائل  السماء لي، حيث  تصرخ بي، أنتم أبناء الغفلة،  زولي أيتها النجسة”.

     وهنا تتوضح بشكل كبير دور الأصوات المتعددة في الصراع، وكيف كان المتخيل حاضرا بشكل كبير لتغير مجرى الأحداث. كانت المسرحية وفضاءها الذي يطل علينا من خلال البطلة متناغمة مع التقنيات الضوئية والساحرات وهن يهبطن في شكلهن الخيالي من البقع الضوئية لنجدها وهي تربط كل هذا بحالتها النفسية التي شكلت محور الصراع، حيث اتسمت بتقنياتها الأسلوبية والفنية والجمالية التي استخدمها الكاتب بلغته التي كانت جمل وحوارات مطواعة لما يود طرحه في جماليات انسانية مرتبة بالشكل المكاني والزماني ممزوجة مع الحالة النفسية في النفس الإنسانية، وإن كل مقاطع الحوارات للبطلة تتميز بالمراوغة اللغوية وتؤكد قدرة الكاتب على اللعب بالحروف. في النهاية نجد احساس البطلة الذي ينتهي بها إلى الموت يجعل المتلقي يتساءل بشكل ميتافيزيقي عن كون المسرحية عبارة عن لوحات للبطلة تربط بينها وبين موضوع الحدث، لتتجمع كل الوقائع المتباعدة وتؤدي هدفها في اسقاط الماضي وما نمر به.

من خلال حوار الشخصيات التي تحيط بالبطلة، نلاحظ فيها حضور الايقاع الداخلي للكلام كما ذكرت من خلال اللعب بالألفاظ والتبادل بين معطياتها.. في لعبة ايقاعية تشكل تماوجا بين التكثيف والتركيز لترفع من القاري أو المتلقي إلى حد التوهج لمعرفة تسلسل الأحداث من خلال الأصوات المختلفة والبطلة فيخرج من التشتت إلى التركيز ليقرا بصريا هذه الأدبية بشكل واضح.

وتأسيسا على ما سبق، إن المسرحية المنودرامية المتعددة الأصوات ذات طابع حواري على نطاق معلوم وبين جميع عناصر البنية للمسرحية، توجد دائما علاقات حوارية إن هذه العناصر جرى وضع بعضها في مواجهة البعض الآخر، مثلما يحدث عند المزج بين مختلف الألحان في عمل موسيقي، حقا إن العلاقات الحوارية هي ظاهرة أكثر انتشارا بكثير من العلاقات بين الردود الخاصة بالحوار الذي يجري التعبير عنه خلال التكوين، إنها ظاهرة شاملة تقريبا، تتخلل كل الحديث البشري وكل علاقات وظواهر الحياة الإنسانية، تتخلل تقريبا كل ماله فكرة ومعنى، وصاغ الكاتب (منير راضي) النصوص المسرحية الحقيقة تعبيرا عن صورة الإنسان، وتصويرا لتنوع الحياة، وتعبيرا صادقا عن تعقد المعاناة البشرية. كما أنها كفاح:” ضد تشيء الإنسان، ضد تشيء العلاقات الإنسانية وكل القيم الإنسانية في ظل النظام الحديث، ويعني هذا أن رؤية كاتب المسرحية البوليفونية رؤية إنسانية، ترفض – بشكل قطعي- تحويل القيم المعنوية أو الكيفية إلى قيم مادية وكمية.

سعاد خليل

الفرق بين المونودراما البوليفونية والمونودراما المنولوجية:

إذا كانت المسرحية المنولوجية ذات صوت إيديولوجي واحد، تعتمد على السارد المطلق العارف بكل شيء، وتستند إلى سارد واحد، ورؤية سردية واحدة، ولغة واحدة، وأسلوب واحد، وإيديولوجية واحدة، فإن المسرحية البوليفونية رواية متعددة الأصوات على مستوى اللغة والأساليب والمنظور السردي والإيديولوجي، وكذلك من حيث الشخصيات، وتطرح أفكارا متناقضة جدليا، وتعطي المتلقي هامشا من الحرية والاستقلالية، لكي يختار الموقف المناسب الذي يتلاءم مع قناعاته وثقافته ومعتقده. وغالبا ما تتحدد بوليفونية المسرحية من خلال وجود تنوع في المنظور الإيديولوجي لذا، يرى (أوسبنسكي -1972)(4) بأن البوليفونية تمتاز بمجموعة من الشروط، وهي:

  1. تتواجد عدة منظورات مستقلة داخل النص.
  2. يجب أن ينتمي المنظور مباشرة إلى شخصية ما من الشخصيات المشتركة في الحدث، أي بعبارة أخرى، ألا يكون موقفا إيديولوجيا مجردا من خارج كيان الشخصيات النفسي.
  3. أن يتضح التعدد المبرز على المستوى الإيديولوجي، ويبرز ذلك في الطريقة التي تقيم بها الشخصية العالم المحيط بها.

    وبناء على ما سبق، تنبني المونودراما البوليفونية على تعدد المنظورات السردية ووجهات النظر (الرؤية من الخلف- الرؤية الداخلية – الرؤية من الخارج)، بالإضافة إلى تعدد الضمائر السردية (ضمير المتكلم- ضمير المخاطب- ضمير الغائب)، وتعدد الرواة والسراد الذين يعبرون عن اختلاف المواقف الفكرية، وتعدد المواقف الإيديولوجية، واختلاف وجهات النظر تواصلا وتبليغا واقتناعا. بمعنى أن كل مسرحية يسردها سراد مختلفون، كل سارد له رؤيته الخاصة إلى زاوية الموضوع، أي يعطي المؤلف للشخوص الحرية والديمقراطية في التعبير عن وجهات نظرها، دون تدخل سافر من المؤلف لترجيح موقف على حساب موقف آخر، بل يترك كل شخص يدلي برأيه بكل صراحة وشفافية، فيعلن منظوره تجاه الحدث والموقف بكل صدق وإخلاص، ثم يعبر عن نظره وأيديولوجيته بكل مصداقية، دون زيف أو مواربة أو تغيير لكلامه. كأن تعبر شخصية ما عن رؤيتها الإسلامية، وتعبر شخصية أخرى عن رؤيتها الاشتراكية، وشخصية ثالثة عن الرؤية الشيوعية، وشخصية رابعة عن رؤية أرستقراطية وهكذا، ولكن للمتلقي الحق الكامل في اختيار الرؤية التي يراها مقنعة ووجيهة، دون أن يفرض عليه الكاتب رؤية معينة، وذلك عبر مجموعة من الآليات كترجيح وجهة نظر شخصية معينة، وتسفيه آراء الشخصيات الأخرى، وذلك عن طريق التقويم الذاتي والانفعالي، وإصدار أحكام القيمة.

الاستنتاجات

في ضوء المعطيات السابقة نستطيع الوصول إلى الاستنتاجات الآتية:

  1. إن نصوص منير راضي المونودرامية هي نصوص متعددة الأصوات واللغات واللهجات والأساليب.
  2. إنها نصوص منفتحة قائمة على التناص الحواري، وتعدد الخطابات وتلاقح اللغات واللهجات.
  3. إن نصوص منير راضي المونودرامية تستجمع جميع الأصوات واللغات واللهجات الاجتماعية، لتعبر بكل حرية وديمقراطية عن وجهات نظرها.
  4. تنبني النصوص المونودرامية على التعدد اللغوي والتجريب البوليفوني.
  5. يختلف النص المونودرامي البوليفوني أيما اختلاف عن النص المنولوجي الذي يستند إلى الأحادية في كل شيء: لغة، وأسلوبا، وفكرة، ومنظورا، وإيديولوجية، وضميرا، وصوتا.
  6. ان الأصوات المتعددة داخل النص المونودرامي تؤثر بشكل مباشر على مجريات الأحداث داخل النص كذلك تؤثر على مصير الشخصية المونودرامية داخل العمل المسرحي.
  7. من خلال ما تم طرحة نتوصل إلى أن النص المونودرامي لا يتحدد بالصوت الواحد ما يعني أنه نص الممثل الواحد والأصوات المتعددة.

  

مصادر:

1.عواد علي: تعدد الأصوات في الخطاب المسرحي، صحيفة الدستور، الجمعة 6 اذار،2009

2- ميخائيل باختين: الخطاب الروائـي، ترجمة محمد برادة، دار الأمان، الرباط 1987، ص 60.

3- B.Uspenski: Poetics of composition,traduction.CL.Kahn, Poétique9, 1972, P.10

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.