فيلم (عندما بكى نيتشه) صورة فريدة لنيتشه ليس بوصفه فيلسوفاً بل إنساناً

ورشة فن - سينما

0 5٬366

مالك القلاف- السعودية-سماورد

من إخراج المخرج السينمائي (بينشاس بيري) قامت شركة (ميلينيوم فيلمز) عام 2007م بإنتاج فلم سينمائي بعنوان (عندما بكى نيتشه), ويحكي هذا الفلم المأخوذ من رواية تحمل نفس العنوان للروائي الأمريكي (إيرفن يالوم) قصة حقبة من أبرز مراحل حياة الفيلسوف الألماني المشهور (فريدريك نيتشه) وهي التي كانت تسبق إصداره لكتابه الأبرز (هكذا تكلم زرادشت) حيث لم يكن معروفاً إلا على مستوى فئة صغيرة من نخبويي عصره, ولم يكن هو سوى بروفيسور ملحد ومغمور يلقي نظرياته ويشرح عدميته وأراءه في حقيقة وجود الله, ونادراً ما يتعدى الحضور في محاضراته أكثر من عدد أصابع اليد.

الفيلسوف نيتشه ولد في بروسيا عام 1844م وقد عاصره في نفس الحقبة الفيلسوف النمساوي الشهير الدكتور (سيغموند فرويد) مؤسس نظرية التحليل النفسي وصديقه الطبيب النمساوي (جوزف بروير) وهذا الأخير كان من أشهر أطباء فيينا آنذاك, حيث انغمسا سوية هو وفرويد في إيجاد علاج للهستيريا, وأسسا نظرية العلاج بالتفريغ والتنويم المغناطيسي ثم نشرا سوية كتاب (دراسات في الهستيريا), وأخيراً أسس فرويد نظرية (التداعي الحر). في نفس الحقبة أيضاً عاشت الروسية اللعوب, جالدة العباقرة, المحللة النفسانية الشهيرة (لو سالومي), جمالها وعبقريتها جعلا أكثر العباقرة في عصرها يهيمون بها كنيتشه الذي كتب عنها أنها “أنانية كقط” ثم أرسله هيامه بها إلى مصحة مدينة (إينا) النفسية تحت رعاية والدته, وريلكه الذي كتب لها عبر الرسائل أجمل ما كتب في حياته, وسيغموند فرويد الذي أصبحت على يده من أشهر المحللات النفسانيات, وفيكتور توسك الذي انتحر بعد أن هجرته, وبول ري, والموسيقي الألماني الشهير فاغنر رفيق نيتشه..! في نفس الحقبة أيضاً عاشت الناشطة الحقوقية الألمانية (بيرثا بابنهايم) والتي كرمتها ألمانيا بعد وفاتها بوضع صورتها على طابع البريد عام 1945م.

هؤلاء كانوا الشخصيات الأساسية في الفلم وقد أجاد الروائي إيرفن يالوم ابتكار حبكة تجمعهم عبر خيوط تحرك أولها شخصية الروسية اللعوب (لو سالومي), وأجاد المخرج أيضاً دوزنة هذه الخيوط في قالب درامي وكوميدي ساخر أحياناً حيث تبدأ القصة بالروسية (لو سالومي) وهي تزور الطبيب النمساوي الأشهر (جوزف بروير) وتقنعه بالموافقة على علاج الفيلسوف فريدرك نيتشه بعد هيامه بها. وحسب ما أخبرت به الطبيب أنه أغرم بها و قابلت مشاعره بالصدِّ فلم يتقبل ذلك, ودخل في نوبات هستيرية ثم صار ميالاً للانتحار. ولأنها أشفقت عليه وعلى عبقريته التي ترى من وجهة نظرها أنه يجب بقاءها لأن لها مستقبلاً باهراً مع البشرية, لذلك عملت على اقناع الطبيب (جوزيف) ليخلص الفيلسوف المغمور من هذه النوبات. ووافق هو بعد تردد انتهى إلى شغف حين تبحر في نيتشه وقرأ كتبه ونظرياته التي تلبسته.

ولأنها أتت مشفقة يدفعها إيمانها الراسخ بعبقرية هذا الفيلسوف تشترط  لو سالومي على الطبيب أن يعالجه دون أن يخبره أنها هي من حرضته على ذلك, وما إن وافق الطبيب حتى بدأت رحلته في علاج نيتشه ليجد نفسه في خضم ذلك وقد أخذ دور المريض بدل أن يكون الطبيب, حيث يكتشف وجود تشابه في الأعراض ما بينهما, تلك الأعراض التي يخلقها الوجد الفلسفي تجاه المرأة, وجد الدكتور (جوزيف) نفسه وقد أمسى يبحث عن نيتشه ليرقد أمامه على السرير ويبدأ هو في الحديث عن مريضته الناشطة الحقوقية (بيرثا بابنهايم) التي أحبها رغم أنه متزوج وعن الكوابيس التي تطارده منذ أن أضطر لهجرها بعد أن علمت زوجته بأمرهما, هكذا تلازما أثناء العلاج وتصادقا وحبكا خيوط الفلم التي بدأت بالتركيز على محور فكرة (التداعي الحر) وانتهت ببكاء نيتشه لأول مرة أمام صديقه الطبيب (جوزف بروير), ثم يستقل في نفس المساء قطاراً متجهاً إلى جبال إيطاليا الدافئة ومنعزلاً في كهوفها ليخرج منها بعد حين برفقة نبي فارسي يدعى (زرادشت).

كان مشهد بكاء نيتشه من أجمل مشاهد الفلم حيث كان يروي في نهاية الفلم للطبيب قصته مع معشوقته (لو سالومي) وكيف أنها سحرته بجمالها وبذكاءها وبشخصيتها ووصف له اللحظة الوحيدة التي تبادلا القبل فيها وكيف أنها لحظة خالدة لن ينساها أبداً, ثم حكى له كيف أنها غدرت به لتهجره علانية مع صديقه ورفيق دربه الموسيقار الشهير فاغنر..! لكن صديقه الطبيب يقرر نقض عهده مع لو سالومي حينها ليخبر نيتشه بأمر مجيء لو سالومي إليه بدافع الإحساس بالذنب كونها السبب الوحيد في نوبات الهستيريا التي ألمت به. كان ذلك الأمر مفجعاً لنيتشه فيقرر الطبيب هنا حسم الأمر حين ينصحه بنسيان لحظة القبلة لأنها غير موجودة إلا في خياله فقط أما هي فقد أخبرت الطبيب بكل شيء ما عدا هذه اللحظة بالذات, هنا بكى نيتشه وكان هذا الحوار الذي كان من أجمل الحوارات حين يعاتب نيتشه نفسه على سقوط دموعه لأول مرة ويشعر بالخزي فيطلب منه الطبيب بشكل هارمونيكي أن يخبره فيما لو كانت دموعه لها صوت فماذا ستقول هذه الدموع فيجيب نيتشه: ” كانت ستقول “نحن أحرار, لم نتحرر يوماً, إلى أن فتح الدكتور جوزيف بروير البوابة” .. ينتهي الحديث بتصريح من نيتشه يعلن فيه لصديقه الطبيب أنه يشعر براحة عظيمة وهو يبوح بوحدته لأول مرة, ويشعر بالسعادة أن هذه العزلة تختفي وتتبخر فيجيبه الطبيب: “العزلة لا توجد إلا في العزلة, ما إن تشارك بها أحداً حتى تتبخر ….. يا صديقي العزيز” .. هكذا بكى نيتشه.

أفلح المخرج نسبياً في الموازنة ومجاراة جميع الأدوات المتاحة له ليستطيع أن يخرج من مصيدة التوثيق عبر الحضور العبثي لنيتشه وحواراته التي تشبه الشذرات إلى حد كبير, وهذا ما جعله يؤثر بشكل كبير كشخصية نيتشوية على الخيوط الفنية والموضوعية للفيلم كما بدا, وقد أجاد المخرج توظيف هذا الزخم الفلسفي عبر توليفة سينماتوغرافية باهرة, وحتى وهو يريد جعل فكرة (التداعي الحر) الفرويدوية محوراً رئيساً للحبكة إلا أن سطوة الحضور النيتشوي لا تقبل التراجع حتى وإن كان سينمائياً فنجدها تتقلص ولا تصبح ذات أهمية أمام سلطوية الفكر النيتشوي ليخرج الفلم شاهراً أجمل مقولات نيتشه الفلسفية (الحياة امرأة) وجاعلاً منه عنواناً لحبكته.

بهذه المقولة النيتشوية يجد المتلقي نفسه أمام تركيبة فلسفية تقوم على كينونة المرأة داخل نسيج الحياة ويثبت الفلم عبر شخصيتي نيتشه والطبيب نظرية عدمية الحياة إن خلت من الجنس الأنثوي, رغم إصرار نيتشه الدائم على أن المرأة ليست سوى لعبة للرجل, وفي الوقت الذي كان ينصح فيه بروير خلال الفلم بأن يتكىء على فحوليته وأن لا يتعامل مع الجنس الأنثوي إلا بالشدة, نجد هذا الصرح الفلسفي يتهشم تحت جبروت لو سالومي ويعلن انهزامه وبكل حنية رجل مهزوم يبكي في النهاية ليعلن عن مخاوفه من عزلته وضعفه أمام لو سالومي التي هام بها عشقاً.

بشكل عام استطاع المخرج أن يقدم عملاً يليق بالمادة الفلسفية المصنوعة منه, وخلق توليفته عبر هواجس نيتشه وشذراته وقناعاته وتناقضاته وجبروته وانكساره والأهم عبر رؤيته للمرأة بمنظور فلسفي ووازن هذه التوليفة من خلال الزج بخيوط واقعية ولها وزنها وأرخ لنظرية (التداعي الحر) دون الركون إلى الجمود التوثيقي, فأصبحت هواجس نيتشه هي الغالبة مما حدا به أن يوازن الكفة من خلال إبراز الجوانب المعرفية في الشخوص الأخرى لتجاري الحضور الطاغي للشخصية النيتشوية, وهذ ما أوقع الفيلم بشكل عام في مطب الافتعال وافتقد في بعض الأحيان إلى عنصر العفوية, سواء كان ذلك عبر الشخوص فنجد حواراتهم أقرب إلى الشعارات الخطابية, أو على مستوى النسق الفني للفلم فنجد بعض المشاهد التي يتعمد فيها المخرج إبراز بهرجة ما فتخرج عن إطار العفوية واستثني من ذلك مشهد دخول (لو سالومي) على نيتشه وهو واقف على البيانو يتخيل نفسه مايسترو يقود اوركسترا صاخبة ويمارس شتم رفيقه القديم فاغنر الذي اختارته لو سالومي, حيث استخدم المخرج تقنية الشاريو والكرين في رصد الحدث وحركة الكاميرا فأعطت تلك البهرجة بعداً جميلاً خصوصاً مع نهاية المشهد المرصود بحركة بطيئة حين تغادره لو سالومي وهو على حالته يمارس قيادته للأوركسترا الموسيقية ولا يلتفت لها.

لعب دور نيتشه الممثل الإيطالي الأصل أرماند أسانته, والممثل بن كروس في دور الطبيب جوزيف فيما لعبت دور الروسية اليهودية اللعوب (لو سالومي) الممثلة الكندية كاثرين وينيك والممثل جيمي إلمن في دور (سيغموند فرويد). كان أداؤهم مقنعاً إلى حد ما وإن تخللته بعض الحوارات المفتعلة والتي تؤثر بشكل أو بآخر على مصداقية الممثل, كما أن الممثل جيمي إلمن لم يفلح في تلبس شخصية قوية كشخصية الدكتور فرويد فأعطى الشخصية طابعاً هزيلا نوعاً ما, ويجدر القول أن المخرج نجح بامتياز في خلق توتر درامي جيد حين استخدم تقنيات الاسترجاع أو (الفلاش باك) كما نجح في تجسيد ماهية اللوثات التي تلم بالوعي وباللا وعي عند الإنسان, أخيراً فالمخرج كان قادراً على الإمساك بزمام الروح السردية أثناء سيرورة العمل, إنما سقط في بعض الأخطاء (الراكورية) الصغيرة والتي تسبب نشازاً أثناء الانتقالات المشهدية لمن يقتنصها.

العرض التشويقي للفلم:

بطاقة الفلم:
When Nietzsche Wept

تاريخ الإنتاج: 2007

عن رواية: ايرفن يالوم

سيناريو وإخراج: بينخاس بيري

تمثيل: أرماند أسانته- بن كروس – كاثرين وينيك- إلمن.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.